المشروع الحسيني مشروع حضاري متكامل، وتكامله مبني على أساس
الرؤية الدينية الشاملة والمستوعبة لكافة مجالات الحياة، وبما أن
الإمام الحسين (ع) هو الإمام المعصوم المفترض الطاعة، وهو صاحب
الحق الخاص بالتعيين من الله تعالى للخلافة والقيادة، فإنه (ع)
يسعى في حركته إلى تحقيق كل الغايات ومن حقه ذلك، وإن لم يتحقق
جلها فإن الأساس هو تحمّل المسؤولية تجاه ذلك.
وفي عصر غيبة المعصوم (ع) تستمر مسؤولية تحمّل تلك الغايات
الحضارية الكبرى، ولا تتجمد، فمقاليدها بيد العلماء الذين هم
امتداد عام لخط الإمامة، وإن اختلفت الجزئيات في المواصفات للمعصوم
وفي مدى الصلاحيات التشريعية.
وفي طريق تحقيق المشروع الحضاري الإسلامي لا يشترط أن يتم تحقيق
كل الغايات المرجوة من جميع الجهات، لكي يحق للعاملين الإقدام على
الشروع في أي حراك سياسي، لأن تحقيق الهدف الشمولي قد يكون غير
مقدور وعصي على التحقق.
وتأسيساً على ذلك فينبغي أن نفرّق بين مفردتين في هذا المجال،
وهما: مسألة إقامة العدل، والمسألة الأخرى هي تقويض الظلم، فإن
الدين دعا بما لا يدع مجالاً للريب لأن يقوم المؤمنون بالعمل في
اتجاه (تحقيق العدالة وتمكينها في المجتمع)، كما كانت دعوات الدين
إلى (الوقوف ضد الظلم ورفضه، فيكون المؤمن للظالم خصماً وللمظلوم
عوناً)، وهذا التفريق يدعونا إلى تقرير ما يحتاجه الذين يقيمون
العدل في مواصفاتهم وشروطهم، ومن جهة أخرى النظر في الشروط التي
ينبغي أن تتوافر في من ينبغي أن يقف ضد الظلم والطغيان.
ويمكن أن نضع شروط إقامة العدل وما يليه من الحكم الحق، في قوله
تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ
هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ
مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً
قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ
هُمُ الْكَافِرُونَ).
فقوله تعالى (بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ) يدلّ
على مقام علمي يعي أحكام الله ومقاصد الشرع المقدّس، وقوله عز وجل
(وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) أي يتصدون للتطبيق لما يعرفون،
فيتطابق لديهم المعرفة والعمل، فمن يكون قائماً على العدالة لابد
أن يكون ذا كفاءة عالية.
أما تجاه صد الظلم وتقويضه ومنع حدوثه من أجل أن لا يسبب تخلفاً
ودماراً للأمة، فهو لا يحتاج إلى ذلك المقام الكبير من العلم، بل
يحتاج إلى فقه مناقبيات التحرّك وأخلاقياته، لكي لا يقع العامل
نفسه في الظلم، فإن الوقوف في وجه الظالمين هي مسألة يمكن أن تكون
مقدمة لإقامة العدل، وقد لا تكون إلا بمقدار إزالة الظلم نفسه،
فعندما يقع الظلم على المرء عليه أن يسعى إلى رده ودفعه. فلا داع
للاحتجاج على الحراك الجماهيري ضد الظالمين بأنه لا يمتلك كفاءة
علمية للتصدي، لأن المقام الرفيع يحتاجه إقامة العدل وتطبيقه، بل
إن في الأمة من هو أهل لذلك خصوصاً إذا كان الأمر شورى بين العقلاء
والحكماء، وعلى الأخص إذا قمنا بمقارنة الكفاءات التي يزخر بها
المجتمع مع ثقافة من يتربعون على الكراسي والمناصب.
المسألة السياسية وخطاب الذات والآخر
لقد أخذت فكرة إقامة العدالة وبسط الحكم الحق وفقاً للتصور
الإسلامي، مأخذها في أدبيات الفكر الإسلامي المعاصر، واستمرت
المعالجات لفكرة الدولة الدينية ومشروعيتها وغاياتها وأشكالها،
ولعل أهم ما توقف عنده مفكرو الإسلام إشكاليتان، إشكالية شرعية
الدولة الدينية وعدمها في عصر الغيبة، ومن جهة ثانية إشكالية شكل
الدولة وطريقة إدارتها للأمور.
إن التداول الفكري في تينك المسألتين كان من اختصاص الداخل بين
أرباب الفكر الإسلامي أنفسهم وفيما بينهم، باعتبار أن مرجع
الاختلاف هو اختلاف في قراءتهم للدليل المشرّع، ويرجع بعضه لاختلاف
مبنائي أصولي، أي في أصل النظر للدليل ومدى الاستفادة منه وكيفيته.
إلا أن ذلك السجال اتسع نطاقه وأصبح السجال الأكبر هو بين قادة
الفكر الإسلامي من جهة، وقادة الفكر الغربي والساسة الغربيين وكل
من يغاير الفكر الديني في منهجيته من جهة أخرى، وعمد هؤلاء للتدخّل
في هذا المضمار لأنه ميدان خصب للتشكيك في صلاحية الفكر الديني
لقيادة الأمة، ولتقويض التأثير الذي يحدثه الدين في ساحة الحياة.
ومن هنا فإن الخطاب الديني الذي يتحدث عن مشروعية القيام
ومشروعية الحكم الإسلامي، قد يقع في لبس وخطأ في عرض الخطاب أو في
أصل التبني لهذه الفكرة أو تلك، إن لم يلاحظ في أي دائرة هو يتحدث،
وهذا يقود إلى نوع القراءة للتاريخ أيضاً.
فإن الإمام الحسين (ع) قام من أجل الإصلاح في أمة جده رسول الله
(ص)، لكي يعيد الأمور إلى نصابها وإلى ما أراد الله ورسوله إلى
الأمة أن تكون عليه، وأعلن صراحة بإرادة التغيير، ورفض ظلم يزيد
وطريقته في الحكم، وقد قام الإمام (ع) ليأخذ بزمام الأمور ليقيم
العدل ويبسط الأمن ويقيم الدين، فمقاصد الإمام واضحة وأهدافه قد
أعلنها منذ البدء ولا يمكن التحريف فيها أو قراءتها بخلاف ما هي
عليه. وتأسيساً على ذلك فإن صلاحية الفكر الديني في إدارة شؤون
الأمة يعتبر أمر مسلّم به لدى الداخل الديني، وهو ليس محلاً
للإشكال في التداول العلمي بين أرباب الفكر الإسلامي.
فالخطأ يحصل لدى البعض حينما يناقش أصل مشروعية القيام وتأسيس
دولة دينية، أو عندما يناقش في شكل الدولة الدينية، بنفس تشكيكي،
مرجعاً رفضه للتشكيك في كفاءة الفكرة الدينية ذاتها، وهذا خلط في
التداول وفي المطالب، فهو يناقش شأناً داخلياً وعينه على الخارج.
ويمكن أن نقول ـ ابتداء ـ أن التداول الداخلي يحكمه الدليل الشرعي
وميدانه الفقه والتشريع، والتداول مع الآخر المختلف يحكمه الدليل
العقلي وميدانه العقيدة وعلم الكلام.
mosawy.com |