ان الذين يتحدثون عن (إصلاح) او (تشذيب) او (تنقية) الشعائر
الحسينية مما يعتقدون انه نوع من الممارسات والاعمال غير المطابقة
للعقل او الذوق او النصوص الدينية، يعانون مشكلة في الرؤية لعموم
القضية الحسينية، فهنالك الامام الحسين واهل بيته مجزرين مقطعين،
ورضيع مذبوح وخيام محترقة على رؤوس النساء وانسان عليل يسحب على
الارض و ترويع للاطفال وضرب ونهب وسلب و... وهنالك ايضاً التضحية
والإباء والايمان العميق والاخلاص بل وكل الفضائل والصفات الحسنة.
هنا يدعو البعض لأن نقيم الشعائر الحسينية تخليداً لهذه الواقعة
بعيداً عن التراب والدم والألم. مثلاً؛ إن اردنا استذكار الامام
الحسين عليه السلام، ندعو لمحاضرة في قاعة كبيرة يجلس الحاضرون على
الكراسي وامامهم طاولة يجلس خلفها محاضر يشرح الواقعة باسلوب علمي
وموضوعي هادئ كما لو ان يتحدث عن التاريخ او الفلسفة او السياسة
وغيرها، وبعد انتهاء المدة المحددة ينفضّ الاجتماع ويذهب كلٌ حسب
وجهته وينتهي كل شيء، واذا كان ثمة نية لتقريب الصورة الى الاذهان،
فلابأس بصنع (بانوراما) او متحف يضم مشاهد للواقعة مع مؤثرات صوتية
جذابة، ويتجول الناس كباراً وصغاراً ليتفرجون على هذه المشاهد.
ولا أدري... هل ندع سيد الشهداء وهو على هذه الحالة في مرقده
الشريف رغم مرور حوالي اربعة عشر قرناً من الزمان، وننشغل بالتفكير
والتدبير في أمر إحياء أمره بالطريقة التي تناسبنا؟ أم ان المطلوب
من كل انسان سواءً كان شيعياً أم لم يكن، ان يدرس القضية الحسينية
كما هي ويفهم الحسين بالحسين لا بشخص آخر او طريقة أخرى؟
ان الامام الحسين عليه السلام، قدم روحه الزكية مع اهل بيته
واصحابه في كربلاء، بعد ان طوى صفحة السجال السياسي والسجال
الفكري، فلا صراع على السلطة بعد ما صنعه اهل الكوفة، ولا غموض في
الفكرة بعد كل ما بينه عليه السلام وبلوره للمغرر بهم في ساحة
المعركة، فألقى عليهم الحجج البالغة والأدلة الدامغة على انه يمثل
الحق والامتداد الحقيقي لرسالة الاسلام، بينما هم يمثلون الباطل
والضلال وانهم ليسوا سوى (شيعة آل أبي سفيان) كما صرح بذلك عليه
السلام.
لكن بقي سجال عنيف يدور رحاه في النفس الانسانية، وهنا تكون
المهمة بيد الانسان نفسه فتكون الارادة سلاحه والعقل دليله والضمير
قراره الاخير. وقد كان الامام الحسين عليه السلام يسعى جاهداً وقبل
ان يقع السيف، ان يهدي النصر في هذا السجال الى أولئك المغرر بهم
من اهل الكوفة، وخير رسالة كانت لهم، بكاءه عليه السلام عليهم
(لأنهم سيدخلون النار بسببي). وكان جميع من في معسكره قد وضعوا
حدّاً نهائياً لهذا السجال لصالحهم، فكانت النفس طيعة للمبادئ
والتضحية من اجلها حتى الرمق الاخير، وهذا ما نمسيه بالثقافة
الحسينية التي يريدها لنا الامام الحسين عليه السلام منذ وقوفه
خطيباً امام القوم وحتى تقوم الساعة.
لماذا الشعائر الحسينية؟
لا يماري أحد أن رسالة الاسلام المجيدة التي صدح بها الرسول
الاكرم، إنما جاءت للبشرية لتخرجها من الظلمات الى النور، ومن
عبودية الاحجار الى رحاب معرفة خالق السموات والارض، "يضع عنكم
إصركم والاغلال التي كانت عليكم". والنبي الاكرم مع وصيّه المؤتمن
علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما، بلغا عن الله تعالى أحسن
البلاغ، و وصلوا بالمجتمع الاسلامي الى درجة من المعرفة والثقافة
تجعلهم قادرين على تمييز الحق عن الباطل. وهذا ما تجلّى في الكتب
والرسائل التي بعثها اهل الكوفة وزعمائها الى الامام الحسين أن
(أقدم... فقد أينعت الثمار وأخضر الجناب. إنما تقدم على جند لك
مجندة...)، وهذا دليل واضح على المعرفة الكاملة بشخصية الامام
ومكانته، إذن؛ المشكلة لم تكن في فكرهم وتصوراتهم إزاء الامام، كما
حصل مع الخوارج في عهد الامام علي عليه السلام، ولا هي سياسية كما
حصل في عهد أخيه السحن المجتبى عليه السلام، إنما كانت نفسية من
بقايا ما كان يعانيه أباه وأخاه عليهما السلام من أهل الكوفة
تحديداً في الفترة التي سبقت نهضته ضد حكم يزيد بن معاوية.
فما كان يريده الحسين عليه السلام من اهل الكوفة وسائر
المسلمين معارضة النهج اليزيدي القاضي بتحريف الدين وتمييع الاحكام
الشرعية وتغييب القيم الاخلاقية في المجتمع، وقد نجح الامام عليه
السلام بايصال الرسالة اليهم من خلال ابن عمه وسفيره مسلم بن عقيل
رضوان الله عليه. وعندما دخل الكوفة واجتمع باعيانها والتقى بعامة
الناس وحصلت التعبئة والتجييش وغيرها، ولم يناقشه احد في أصل
الفكرة والموضوع الذي من اجله جاء اليهم من قبل الحسين عليه
السلام. لكن الخوف من الموت على يد جند الشام حيث الحكم الاموي،
وهو ما ركزت عليه الدعاية الاموية وجسدته سياسة ابن زياد، وضعتهم
وجهاً لوجه مع نفوسهم وذواتهم، فاصبحوا فجأة وسط اختبار عسير، بين
الوفاء والايمان والتضحية، وبين الخذلان والكفر وقرقعة الدراهم
والدنانير.
هذا الاختبار لم يخرج منه بشموخ إلا عدة قليلة ممن امتحن الله
قلبهم بالايمان، من امثال هاني بن عروة وحبيب من مظاهر ومسلم بن
عوسجة والحر الرياحي وهم من أعيان وشيوخ الكوفة، اضافة الى آخرين
شكلوا نسبة ضئيلة جداً قياساً بنفوس اهل الكوفة آنذاك.
ثم انتهت المعركة... وقتل من قتل وسبي من سبي، وعاد افراد جيش
بن سعد الى منازلهم وعوائلهم ليلاً، لكن هل انتهى كل شيء؟ بالطبع
كلا، لأن المعركة لم ولن تنته في صحراء كربلاء، فامتداداتها قائمة
بوجود الامام السجاد عليه السلام، وفي عمته العقيلة زنيب سلام الله
عليها وفي حالة السبي وما تخلله من نهضة جديدة سلاحها الاعلام وليس
السيوف والرماح، والهدف لا يكون اطراف البدن، إنما القلوب التي في
الصدور. فمن لم تصله واعية الامام الحسين ولم يدركها او يستوعبها
في صحراء كربلاء، فقد جاءته خطب زينب اللاهبة وكلمات الامام زين
العابدين وتعريفه بحقيقة الموقف وحجم الزيف والتضليل الذي سقطوا
فيه، وهذا لم يتم إلا من خلال المنبر الذي رسم طريقه الامام عليه
السلام لأول مرة وفي عقر دار العدو في الشام، ومن خلال مجالس
العزاء والبكاء واستذكار المصيبة، ثم من خلال الزيارة لمرقد الامام
الحسين وأخيه ابي الفضل العباس وسائر الشهداء الابرار في كربلاء.
وحتى لا نجانب الحقيقة نقول لمن يريد دراسة او قراءة تاريخ
الثورات الشيعية: (فتش عن الشعائر الحسينية)، وإلا من الذي ضخ
الحماس في نفوس التوابين حتى يصبحوا فدائيين ويسطروا تلك الملحمة
البطولية؟ ومن الذي دفع باهل المدينة بان ينتفضوا ضد الوالي الاموي
ويطيحوا به ويسجلوا ذلك الموقف المشرّف؟ ثم ما الذي جعل الكوفة منذ
ذلك الوقت منطلقاً للثورات والانتفاضات الشيعية على حكام الجور
والطغيان؟ صحيح انها لم تكن لتثمر عن نتيجة على الصعيد السياسي،
لكنها لم تسر في الطريق الخطأ أبداً، لانها كانت تعبر عن النفوس
المتصدعة والقلوب المتوجعة، وهكذا تستمر مسيرة الانسان في صراعه
الداخلي بين الحق والباطل، وبين الضلال والرشاد، وتبقى مهمة النخبة
والقيادة بالاستفادة من كل هذا التوثب والاستعداد للتغيير.
الجوهر وليس المظهر
هكذا هو الحسين عليه السلام، وهكذا شعائره التي أوصلت الينا
قضيته بالكامل. فان لم تقدم هذه الشعائر مكسباً سياسياً لحزب او
جماعة او شخص ما طوال السنوات الماضية، فانها قدمت للمجتمع دروس في
الثقافة والتربية والتغيير، فالبكاء يطفئ نار الغضب والقسوة،
والماء والاطعام مدرسة في العطاء والوفاء، واللطم على الصدور
والتطبير على الهامات وكل انواع التفجّع، بمنزلة الثورة العارمة
على الظلم والطغيان، ولسان حالها يقول: ان القسوة والعنف والدموية
هي التي تسببت في مأساة كربلاء واستشهاد الامام الحسين عليه
السلام. والحكام طوال التاريخ خير من يفهم هذه الرسالة البليغة.
ولم تصلنا الشعائر الحسينية بهذه الحرارة والحيوية العالية إلا
بفضل هذه الرسالة، والاهم منها المبادئ الثابتة التي حملتها قضية
الامام الحسين عليه السلام، التي لو كانت على شاكلة الافكار
والشعارات التي ظهرت على السطح ثم غارت في اعماق الزمن وطواها
النسيان، لما تطورت الشعائر الحسينية مع الزمن وبلغت اليوم كل هذه
الدرجة من التنظيم في المواكب الحسينية والترتيب والمنهجية في سائر
الشعائر.
وبعد كل ذلك، هل تكون الشعائر الحسينية بحاجة الى (تغيير)
و(إصلاح) في مفرداتها؟ وهل يبقى أثر لأرض المعركة اذا لم نهرول
حفاة الاقدام ظهر العاشر من المحرم باتجاه مرقد الامام الحسين
تلبية لنداءه الخالد (هل ما من ناصر ينصرني)؟ وهل يبقى أثر للمأساة
المروعة والفجائع في النفوس عندما نلغي اللطم والزنجيل وغيره؟
نعم؛ الشعائر الحسينية كأي ممارسة اخرى يتبناها المجتمع، بحاجة
الى تطوير في الشكل واسلوب الطرح، وكل ما نشاهده من اعمال انفعالية
من جري وركض وضرب على الصدور والرؤوس وذرف سخي للدموع وغيرها، يجب
ان نعيده الى ذلك السجال والمعترك داخل النفس الانسانية، واعتقد ان
هذا ما يجب احترامه والوقوف عنده مليّاً قبل التفكير بظاهر الامر،
كما يحلو للبعض ان يتصوره مشهداً تمثيلياً او مسرحاً في الهواء
الطلق...!
وعلى كل من يشعر انه ينتمي الى مدرسة الحسين وانه انتصر يوماً
ما او يريد الانتصار بالحسين وبمبادئه، ان يشمّر عن ساعديه ويعمل
على إعداد الارضية اللازمة للتطوير، مثل العمل على فتح المزيد من
الطرق والشوارع الجديدة لتسهيل حركة المواكب الحسينية، وتلبية
حاجات الزائرين وتوفير الخدمات بمختلف اشكالها، حتى يعرف كل زائر
ومشارك في مراسيم عاشوراء والاربعين، انه حقاً يجدد العهد والولاء
مع الامام الحسين عليه السلام ومع المبادئ التي استشهد من اجلها. |