كل قيمة من القيم تحتاج في مقام التفعيل إلى أمرين: الأمر الأول
هو صناعة موسم للتحشيد والتحفيز لها، ولما تقدمه تلك القيمة،
والأمر الثاني الذي تحتاج إليه هو ممارسة ما استلهم من الموسم في
ساحات وبقاع مختلفة، وتفعيل القيمة على أرض الواقع ليتم حصد
النتائج.
فكما أن شهر رمضان هو ربيع القرآن الكريم، والموسم الأنسب
لتداول البصائر القرآنية، والتدبّر في الآيات المباركة، ثم يسعى
الإنسان إلى تفعيل علاقته بالقرآن الكريم طوال العام والاهتداء
ببصائره، كذلك هي القيم الحسينية والثقافة الحسينية، فإن لها موسم
ولها ساحات تفعيل، فموسمها هو عاشوراء التي تحيى فيه كل قيم
عاشوراء كالكرامة والحرية والإباء والإيثار والتحدي وروح التغيير
ومواجهة الظلم، وساحتها وربيعها هو كل ساحة وكل أرض تستقبل بذور
قيم عاشوراء وترتوي بعذب مبادئها، ليتم تفعيلها وتمكينها، فتكون
كل أرض تحيى فيها تلك القيم هي أرض كربلاء، وكل يوم ترفع فيه تلك
القيم فهو يوم عاشوراء.
إن ما يعيشه الواقع العربي اليوم من أحداث سياسية متلاحقة
ومطالب للتغير ووقوف ضد الظلم والطغيان، يصنّف ضمن الربيع الحسيني،
حيث أن آثار النهج الحسيني كانت واضحة، وروح التغيير وروح الكرامة
ومجموعة من القيم الحسينية، كانت هي الصبغة الأساس في ذلك التحرّك،
وقد يستغرب من البعض من ذلك، فيقول أن مجموعة من الساحات التي كانت
محط الثورات الراهنة لم يكن فيها ذكر للإمام الحسين (ع) ولا إحياء
للشعائر الحسينية، فكيف تصنّف هذه الساحات ضمن الربيع الحسيني!
وللإجابة على ذلك نقول أن التأثير لأي فعل ليس بالضرورة يكون
تأثيراً مباشراً، فقد يكون التأثير بشكل غير مباشر، أي عبر تعدد
وسائط التأثير، وعبر ما يخلق من أجواء مؤثرة في التوجهات العامة،
أو من خلال التأثيرات المتراكمة تاريخياً في أصل الثقافة ونوع
الرؤى والمناهج.
وكذلك يمكن النظر لهذا الأمر من جانب آخر، وهو أن التاريخ
أنبأنا أنه كان هنالك نهجان متباينان، نهج يحكم بالحديد والنار،
ويتسلط على رقاب الأمة ويتأمر على الناس ويستغل الدين لمنافعه
الشخصانية، وكان هناك نهج يقابله ويتحداه ويقارعه، وهو نهج العدالة
والكرامة والتحرر من عبودية المال والناس إلى عبودية الله والرجوع
إلى الفطرة، وقد ظهر ذلك بجلاء في معركة كربلاء، وقد قاد نهج
الاستعباد والاستغلال يزيد بن معاوية، وقاد نهج التحرر والعدالة
والكرامة، الإمام الحسين (ع)، ومن هنا استمر النهجان تاريخياً،
فكان مما انبثق من نهج يزيد نظرية الولاء لولاة الأمر حتى لو كانوا
أفسق الناس وأفسدهم، وانبثق من النهج الحسيني، الولاء للقيم ذاتها
وللأشخاص بمقدار ما يتمثلون تلك القيم.
ومع تعاقب الزمن المشحون بالمغالبة الثقافية، تظهر القيم الحق
لتأخذ طريقها، ويتغلب النهج الحسيني الأصيل على ثقافة الاستعباد
وروح الانهزام، فيتكوّن ربيع الحرية والكرامة والعدالة، وتلك هي
القيم الحسينية ذاتها.
شعار السلمية.. مقاربة حسينية
يناقش منظرو الحركة الإسلامية مبدأ السلمية في التحرك المطلبي
أو عند القيام بعمليات التغيير الحضاري والسياسي تحديداً، ويأتي في
مقابل ذلك خيار القوّة والعنف كأساس للتحرّك، ولكلّ منحى من هذه
المناحي استدلال، سواء يستلّ هذا الدليل من الإرث المعرفي النصوصي
العقدي، أو من خلال المقاربة الواقعية والمنطقية.
فقد قالوا أن مبدأ السلمية واللاعنف، يعتمد على قول الله تعالى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ
كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، وفي الجانب الواقعي فإنهم يقولون أن هذا
النهج أقل ضرراً وأبلغ للحجة، واستدلّ من قال بالتحرك الذي يلجأ
للقوّة والعنف، أن قوله تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ
بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ
تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ
فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ
تُظْلَمُونَ)، هي الدليل على ذلك، كما أن الواقع يحتّم عليك أن
تتبنّى مقولة: ما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة.
وقد يبدوا للوهلة الأولى أن التمايز بين النهجين من الواضحات،
وأن التباين والتباعد بينهما بيّن، إلا أن الحقيقة ليست كذلك،
فهنالك تداخل بينهما، وهنالك ما هو أصل وما هو فرع، وهنالك مسألة
الابتداء ومسألة الدفاع، فلا يمكن الحديث عن النهجين بنوع من
التسطيح والتغافل، فهذه المسيرة الحسينية المباركة توضّح لنا
الفروق والخطوط الفاصلة بين النهجين، فقد كان الإمام الحسين (ع) مع
أخيه الإمام الحسن (ع)، في تحرّك سياسي وحضاري سلمي، وعندما وجد
الإمام أن الأمر استلزم رفع درجة المواجهة من أجل الدين، فقد نهض
وحشّد لذلك رجالاته واستدعاهم للوقوف إلى جنبه، ومع كل ذلك لم يبدأ
القوم بقتال، إلا أنه عندما اعتدي عليه قام وجرّد سيفه وسيوف من
معه لنصرة الدين والدفاع عن الحرمات.
إن الخطاب المغالط الذي يصف الحراك الجماهيري بالعنفية عندما
تدافع الجماهير عن نفسها أو حتى عندما تقوم باحتجاجات سلمية بحسب
الفهم السياسي الدولي، يأتي ـ ذلك الخطاب ـ من مصادر تريد وأد أي
تحرّك للشعوب ضد الظلم والعدوان، ليكون الناس في سبات ليلعب أمثال
يزيد بمقدرات الأمة ويستعبد طائفة منهم، فترى عمق المغالطة واضحة
حال احتياج الدول والحكومات إلى صدّ التحركات بالعنف، فإنها تبرر
لنفسها بألف تبرير.
فمن هنا يمكن أن نتخذ الخارطة الحركية المتوازنة بين النهجين،
في قول الله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ
اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وفي الحدث التاريخي نستلهم من سيرة الإمام الحسين (ع) بشموليتها
المؤشر التصاعدي للحراك الجماهيري ونوعه.
www.mosawy.com |