شبكة النبأ: أي عمل يحمل مضموناً
حسينياً لا يمكن أن يكون فقط تمثيلاً لوقائع حادثة تاريخية قد توقف
تأثيرها، حيث إن عاشوراء كانت وستبقى تتفاعل مع حركة الإنسان
والتاريخ، وإن عاشوراء نهضة استثنائية قام بها الإمام الحسين (عليه
السلام) ضد طاغية متهتك وفقهاء فجار، ليوقظ بثورته الدامية – وقد
أيقظ - ضمير أمة طالما تخاذلت أمام جبروت السلطة. كما أن عاشوراء
إنبثاقة حضارية لم تتوقف، تهدف الى خلاص الإنسان، لذلك فإن كل ما
يذكِّر بعاشوراء فهو عمل صالح بشرط أن يكون خالصاً لوجه الله، فعن
أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله (عزوجل): "فمن كان يرجو
لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" قال:
"الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية
الناس، يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه".
إن حدث كربلاء نهضة لنقد الذات وتغيير حكم فاسد وإصلاح واقع
مأزوم، كما أن ذكرى الطف لم تكن مناسبة للندب والتعزية فحسب، إنما
عبر للاعتبار، وثورة من أجل العدل والحرية، ومشاهد موت تصنع حياة.
كربلاء .. ساحتها ما زالت مفتوحة
الاستبداد بالحكم، وقمع الحريات، من أبرز العوامل التي وجدها
الإمام الحسين (عليه السلام) تستوجب إعلان نهضته الخالدة والتي
كانت أولى مراحلها وأكثرها عنفاً ما جرى في العاشر من المحرم
الحرام لسنة 61هـ. ولقد دعا سيد الشهداء (عليه السلام) من كربلاء
الإنسانية جمعاء عبر أمة جده وأبيه إلى تحرير العقل والرأي،
والتحرك نحو بناء نظام حكم يحفظ كرامة الإنسان ووجوده، ويخضع فيه
الجميع إلى سلطة القانون, فيستمد الحاكم والمحكوم قيمتهما عبر
التزامهما بقيم ذلك القانون واحترامهما له، وتفانيهما في خدمة
المجتمع, وعزم (عليه السلام) على ترسيخ قيم العدل والمساواة بين
أبناء الأمة في الحقوق والواجبات، وسيادة مبدأ الكفاءة والاستقامة
فيمن يتولى شؤون الحكم والإدارة لضمان العدالة في تسيير أمور
الناس.
مسؤولية الجميع
إن من أبرز ما كرسته كربلاء ثقافة النقد ومساءلة ذوي الحكم
والسلطة صغيرها وكبيرها، فليس لأحد حصانة تمنع عنه محاسبة الشعب
له، وذلك لخطورة دور صاحب السلطة وأهميته, كما أشارت كربلاء الى أن
تغيير حال الأمة وإصلاحه هو مسؤولية الجميع، وعادة ما تتوهج شرارة
الثورة عندما تعيش الأمة حالة من الركود والحيرة والتيه الفكري
والتدليس في الدين والضياع السياسي, فيبرز المصلح أو الثائر لتغيير
الأوضاع من خلال كشف زيف المزيِفين والمزيَفين وتقويم نمط تفكير
المجتمع، وإيقاظ الحس والوعي الحركي للأمة، وتثبيت مبدأ ضرورة
تغيير الأنظمة الفاسدة وتفعيل روح الثورة والفداء من أجل ذلك.
التلاعب بالدين بين أزمة واقع وأزمة وعي
كان معاوية مكشوفاً في منهجه الذي يعتمد توظيف الدين للسياسة،
وذلك حينما رفع جيشه المصاحف حكماً بين جيشين متحاربين. تحكيم
مخادع بغطاء ديني لغرض سياسي أدى في إحدى نتائجه الى انقسام جيش
أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتمرد مجموعة
عرفت بالخوارج، وقد لاقت الأمة الإسلامية – وما زالت – من نهجي
معاوية والخوارج الأذى والتخريب والتحريف والتقتيل. وسعى المنهجان
الى تغييب أهل البيت (عليهم السلام) عن المشهد الإسلامي، حيث أراد
معاوية من ذلك تكريس حكم الأسرة الأموية التي نزت على عرش الخلافة
مكراً وبطشاً، والخوارج أرادوا تملك أمور الأمة، حيث باتت الحياة
عندهم لا تتسع لغيرهم. وقبل واقعة عاشوراء تفشت في الأمة تيارات
فاسدة أدت الى تفسخ المجتمع، فيما كان فقهاء السلطان يبررون للحكم
الأموي بغيه واستبداده، وحينما خرج الإمام الحسين (عليه السلام)
لطلب الإصلاح صرَّح علماء البلاط بإدانة كل من يخرج على الحاكم
المسلم، فأفتى شريح القاضي بـ: "إن الحسين خرج عن حده، فليقتل بسيف
جده". وهو ما يؤكد أن كثيراً من الأحكام الفقهية والتنظيرات
العقدية والرؤى التاريخية نتجت بدوافع سياسية. وهناك من انخدع بهذا
المنهج التبريري أو خادع، فهذا ابن العربي يقول: "إن الحسين لما
خرج عن حده قتل بسيف جده". وهذا ابن خلدون يصرح: "إن الحسين قتل
بسيف جده". ويضيف قائلاً: "الحسين مثاب في اجتهاده والصحابة الذين
كانوا مع يزيد على حق واجتهاد".
لقد افتتح الأمويون حكمهم بـ"فقه التبرير" عبر شرعنة (الجبر)
الذي به يكون الإنسان مُجبْراً فيما يأتيه من أفعال، وذلك في خطبة
للصحابي معاوية بن أبي سفيان في جنده بحرب صفين قائلاً: "وقد كان
من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض، ولفَّت
بيننا وبين أهل العراق، فنحن من الله بمنظر، وقد قال الله ولو شاء
الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد". وهكذا روج معاوية
وأتباعه فكرة أن ما حدث كان بقضاء الله وقدره. وأما يزيد بن عبد
الملك فقد أحضر سبعين شيخاً يشهدون له أن ليس على الخليفة من حساب
ولا عقاب، لأنه مجبور على تولي الخلافة، ومن ثم فهو مجبور على ما
سيقترفه من أعمال في سبيلها!. وبغطاء (فقه الجبر) ارتكب يزيد بن
معاوية جرائم لا نظير لها في تاريخ البشرية حيث أرسل جيشاً بقيادة
مسلم بن عقبة اجتاح به المدينة المنورة وأباحها لجنوده ثلاثة أيام،
ما يزيد عن خمسة آلاف من الناس، كما قام هذا الجيش بضرب الكعبة
بالمنجنيق، وبعد التنصل من المسؤولية الأخلاقية الدنيوية تحت غطاء
(الجبر) نادوا بـ(إرجاء) الحكم على الأمويين إلى يوم القيامة.
والغرض من ذلك: عدم مشروعية الثورة على السلطة الأموية أو تخطئتهم،
طالما أن الله سيتولى محاسبتهم بنفسه يوم القيامة!. وحصلت السلطة
الأموية على تبرير "ديني" يكفي في "إيمان" الأمويين الإقرار
بالشهادتين دون أن يرتب عليهم أية التزامات تجاه الدين أو الشعب.
وهو ما يشير الى تناقض فقهي دخلت فيه الشعوب التي ثارت – مؤخراً -
على حكامها، فإما أن فقهها لا يصلح لهذا الزمان أو أن ثورتها غير
شرعية!.
والى يومنا هذا، المصالح ترسم تدين الناس، فقد برر سلفيون
الترحم على طاغية النظام البائد في العراق بقولهم أنه بالرغم من
ارتكابه للعديد من الجرائم إلا أنه نطق الشهادتين قبل موته.
والغريب أن رجل دين "سلفي" برر بذات التبرير لـ"علي الكيمياوي"
الذي عاث ظلماً وفساداً في بلده. لكن رغم أن الشيعة ينطقون
الشهادتين جهاراً نهاراً ليس هناك سلفي واحد "يبرر" لهم اعتقادهم.
في السياق نفسه، يترحم البعض على الإرهابي الزرقاوي مبينين إن ما
فعله الزرقاوي من قتل وذبح في العراق هو جهاد في سبيل الله، ومن
بواكير الأعمال "الوطنية" لبعض ثوار اليوم هدم أضرحة أولياء
وعلماء، الأمر الذي يدعو الى استكشاف حقيقة التغيير الجاري في
المنطقة، لفهم حشود تطالب بالحرية وتصلي خلف إمام تكفيري أفتى
بجواز قتل المدنيين! أو حزب يطالب بالعدالة ويدعو للعفو عن إرهابي!
أو من يطالب بحكم ديمقراطي وفضائيته الدينية تصرخ بفتاوى تبيح قتل
الشيعة... وإن الإشارة الى هذه الأمثلة ليست اختزالاً لمشهد
التغيير الذي أقدمت عليه الشعوب في تونس ومصر وغيرهما أو حكماً
نهائي ضده، إنما هو تشخيص حالة وليدة قد تتحول في المستقبل القريب
الى ظاهرة خطيرة، وهو ما ينبغي أن يكون في دائرة اهتمام أتباع أهل
البيت (عليهم السلام) في العالم.
امتحان صعب
إن عمق الانتماء لكربلاء ينبغي أن يدفع المؤمن الى بلورة حبه
لسيد الشهداء (ع) الى كلمة طيبة، وعمل صالح، وعلم نافع، وخلق رفيع،
ونصرة المظلوم، وإصلاح ما فسد من أمور الناس، ومد يد العون للمحتاج
والضعيف، ورعاية الأيتام والأرامل، واتخاذ كبير المسلمين أباً
وأوسطهم أخاً وصغيرهم ولداً، والنظر الى الناس على أنهم إما أخ في
الدين أو نظير في الخلق، وإن عاشوراء نهضة إصلاحية لم تتوقف منذ أن
انطلقت في العام 60 هـ، وإن ساحة الفوز والخسارة ما زالت مفتوحة
للجميع، كما أن عوامل الفوز والخسارة تحيط الجميع، يقول المرجع
الديني السيد صادق الشيرازي (دام ظله): "لقد سقط في حادثة عاشوراء
ويسقط فيها كثيرون، حتى ممن كانوا يُعدون من أتباع أهل البيت
(عليهم السلام)، ليس في عامها الأول فحسب، بل في كل عام، وفي هذا
العام أيضاً، وفي الأعوام اللاحقة، حتى قيام الساعة. وأول طائفة
سقطت في عاشوراء هم أكثر من ألف شخص دخلوا مع سيد الشهداء (عليه
السلام) إلى كربلاء، وكانوا ممن يصلون خلف الإمام، ويقبلون يديه،
ويسألونه عن مسائلهم الشرعية، فكانوا على استقامة في الاعتقاد
بالإمام الحسين (عليه السلام) إلى ليلة عاشوراء، إلا أنهم سقطوا في
تلك الليلة بخذلانهم الإمام الحسين (عليه السلام) وتفرقهم عنه،
لأنهم لم يعاذوا من هذا الافتتان، فأخذوا ينفرطون من حوله جماعات
جماعات. ولكن نجح في هذا الامتحان الصعب القليل من أتباع أهل البيت
(عليه السلام)، وهم القلة الباقية مع الإمام (عليه السلام)، إذ
أعاذهم الله من الافتتان".
المحور الإصلاحي
عبر الحقب التاريخية كان للمجالس الحسينية الدور الحيوي في
استنهاض الأمة من أجل الحفاظ على قيمها وإصلاح أمورها، وقد وردت
روايات تؤكد أهمية هذه المجالس وضرورة وعي أهدافها، قال الإمام
الصادق (عليه السلام) لأحد أصحابه: "يا فُضيل تجتمعون وتتحدثون؟"
قال: "نعم سيدي"، قال (عليه السلام): "أحيوا أمرنا رحم الله من
أحيا أمرنا، والله إن تلك المجالس أحبها". وإن من المهم التذكير
بمأساة كربلاء، لكن من المهم أيضاً بلورة هذا التذكير الى فعل مؤثر
في الوعي باتجاه تجسيد نظرية الإصلاح الحسينية الى نتائج على
الأرض، وإن النمط العاطفي الذي عليه هذه المجالس فهو لغرض نقل
المأساة الى عقول الناس عبر عاطفتهم، وبالتالي دعوتهم الى التخلق
بها.
إن الاهتمام بالمحور الإصلاحي ضمانة إضافية لإنشداد الناس الى
المجالس الحسينية، حيث إن واقع بعض مجتمعاتنا يحتاج الى عملية
إصلاح جذري، لاسيما وأن الخلل قد أصاب البعض في ضوابط محبتهم لأهل
البيت (عليهم السلام)، وهو ما أشار إليه سماحة السيد صادق الشيرازي
(دام ظله) في لقائه بجمع من طالبات العلوم الدينية قائلاً:
"محبتكنَّ لأهل البيت (عليهم السلام) وإظهارها هو أمر حسن وفاضل،
ولكن نيل مقام القرب منهم يتطلب العمل باﻹسلام، وليس إظهار المحبة
لهم فقط، وإن إظهار الانسان محبته للإمام (عليهم السلام) ليس
دليلاً قاطعاً على محبة اﻹمام لذلك الشخص أو أنه يوجب محبة اﻹمام،
بل إن الامتثال لسيرة اﻹمام والالتزام بها هو الذي يوجب محبة اﻹمام
(عليه السلام)".
* نشرة اجوبة المسائل الشرعية
http://alshirazi.com/rflo/ajowbeh/ajowbeh.htm |