شبكة النبأ: اللوحة تشكيل فني من
الألوان والأضواء والظلال تحاول القبض على تفصيل ما وتكثيفه في
لحظة راهنة لا تغادر راهنيتها الا رجوعا الى الماضي او مرورا الى
المستقبل في ذهن الناظر اليها، وهي بهذا تسجيل للحالة الانسانية
عاطفة ومشاعر واحاسيس لراسم اللوحة ومبدعها، انها تحاول ان تقول
اشياء واشياء قد يختلف المتلقي في بعض الامور مع قائلها لكنه في
المحصلة يستمع الى ما يقوله.
العين يد التصوير كما يرى ستيفان مالريه في كتابات عن الفن...
العين مسبار اللوحة، لا تعبر اللوحة عن نفسها الا من خلال النظر
اليها عبر كل تفاصيلها والوانها.. العين تستنطق كل تفصيل وتسائله
لماذا تلك الوقفة؟ ولماذا هذا الظل تحديدا؟ لماذا تلك الورقة
الساقطة؟ ولماذا قطرة الماء بهذا الشكل؟ لماذا تكون تلك المساحة
بهذا اللون دون غيره؟ تساؤلات عديدة احيانا قد لا يفكر الفنان فيها
ويفكر في تساؤلات اخرى.
لنتخيل لوحة الموناليزا الشهيرة لدافنشي بابتسامتها الغامضة، هل
تكون هي نفسها بدون هذه الابتسامة التي صنعت لها هذا المجد وهذا
الغموض المحيط بها.. او لوحة الغورنيكا لبيكاسو وصرخة الاحتجاج ضد
الحرب والعنف والدمار هل تكون هي نفسها دون الرؤوس المتعرجة.
وغيرها الكثير من اللوحات التي تستمد وجودها وديمومتها من خلال
تفاصيلها ومن خلال العين التي تسبر تلك التفاصيل وتعيد تشكيل
الكثير من خطوطها في وعي المتلقي، العين حين تنظر لا تنفصل عن
مرجعية صاحبها الثقافية والنفسية التي نشأت عليها، انها فاعلة
ومنفعلة تبعا للموضوعات التي تستنطق تفاصيلها.
احيانا لا تتفاعل مع بعض اللوحات لغرائبية مواضيعها او لشذوذها،
وهو، المتلقي، لا يغادر تلك المرجعية الحاكمة لقراءته... مثلا اذا
شاهد متلقي في بلد مسلم لوحة تمثل دفاعا عن المثلية الجنسية، العين
قد تنفعل ببعض التفاصيل العامة، الا انها لا تتفاعل مع التشكيل
المطلق مع ما يريده الراسم لها ويرفضها تبعا لمرجعية اخلاقية حاكمة
من عرف اجتماعي وديني لا مجال فيه لقبول ذلك الدفاع تحت اي تبرير..
وقل مثل ذلك عن مواضيع اخرى تختلف طبيعة التلقي والتعامل معها بين
ثقافة واخرى للمجتمعات البشرية.. تلك السطور هي عن اللوحة كتشكيل
فني بصورة عامة، كما عرفتها الفنون التشكيلية العالمية قديما
وحديثا. ماذا عن اللوحة الفنية في الاسلام كتشريع وكممارسة
اجتماعية؟
يذهب التشريع الى تحريم التصوير باعتباره تجسيدا للروح وهو منهي
عنه استنادا الى جملة من الاحاديث والمواقف النبوية.
في الممارسة الاجتماعية تختلف الصورة كثيرا.. انها تنأى عن هذا
النهي والتحريم بسلوكيات جمالية تبرز الكثير من المقدس وجمالياته،
ولا تلتفت الى التطرف في النهي الذي يطال كل شيء حتى لو لم يوجد نص
صريح عليه.
يمتاز المسلمون الشيعة مراجع ومقلدين بهذه القدرة على الاحتفاء
ب (المقدس الجميل) عبر صور ولوحات تجسد وجوه بعض الائمة عليهم
السلام.. انها تخيّل لتلك الوجوه من خلال استقراء الروايات
والاحاديث الوصفية للهيئات والاشكال والملابس والاسلحة والمواقف...
الفقه الشيعي لا يعارض ذلك بشرط الاحترام وعدم المساس بجلال وعظمة
هذه الشخصيات، وإلا فهو حرام قطعا.
على مدار الايام تجد كثيرا من تلك الصور التي يقتنيها الشيعة
ويعلقونها في بيوتهم.. تلك الصور لا تتحدد بموضوعة الوجوه لائمة
اهل البيت، بل هناك الكثير من الصور التي تجعل موضوعها وثيمتها
الرئيسية هي واقعة كربلاء ومقتل الحسين (ع) ومسيرة السبايا وغيرها
من المواقف في تلك الواقعة.
الصور في هذه الحالة هي مكون رئيسي من مكونات ما يعرف بالادب
الحسيني وهي ايضا لا تكون مقتصرة على رسم الوجوه على مجمل اللوحة
بل انها تزين البيارق والاقمشة المحمولة والرايات. وتتشكل في نوعين
فهي إما تجريد لفكرة من أفكار كربلاء وقيمها أو تصوير لمشهد من
المشاهد القارة في الذهن عن الثورة الحسينية.
النوع الأول هي رسوم التجريد وهي عادة تتمثل في رموز مستجمعة من
الحادثة ومن أدوات المعركة وشخوصها وأفكارهم، وهي علامات وإشارات
مستقطعة بدقة لتشتغل في الفكر كرموز دالة على كربلاء عند المتلقي
الخاص حتى أصبحت قارة في ذهنه على أن تشحن بما أمكنه أن يشحنها من
معاني وترميز دال في شكل استعارات تدمج بين الماضي والحاضر من خلال
الفكرة والرمز. كما هي صورة اليد الخارجة من تربة متشققة مثل
الجراح ومضمخة بالدماء والتي ترفع إصبعا بما يدلل على القوة
والتحدي والتي يشع من خلفها النور مثل شمس مضيئة وكأن كل شعاع يمثل
قيمة من القيم التي تتضمنها الثورة الحسينية مثل الوحدة العدل
السلام الحرية، توجد هذه اللوحة في موكب السنابس وهي عبارة عن فكرة
رسمها وخطها الأستاذ أحمد الإسكافي وطورها كل من الفنان جعفر عبد
الحسين والفنان عقيل حسين وخطها عبد الشهيد الثور، وعديدة هي
الرسوم التجريدية التي تمثل صورة يد أو سيف أو كفن وشموس وأقمار.
ويكفي أن تلقي نظرة على أي موكب من مواكب العزاء لتجدها ماثلة
أمامك.
أما النوع الثاني فهي رسوم المشاهد وهي في العادة عبارة عن
مواقف تمثل حالة الثورة والمأساة وذلك من خلال إعادة رسم مشهد
المعركة كاملا بحسب ما يصوره الذهن من خيول منطلقة وفرسان متشابكة
ورؤوس مقطوعة وأيدي تتهاوى وسهام ورماح مصوبة، ودماء تضمخ الصورة
ونظرات تعمق الموقف ووجوه متقابلة بين شدة الجمال والنور والبراءة
وبين شدة القبح والغلظة والقسوة وكأنك لست أمام مشهد جامد بقدر ما
أنت أمام قصة ذات مشاهد عدة حتى أنك لتستطيع أن تجزئها وتتابعها
زمنيا المشهد تلوى الآخر، وهي رسوم ناتجة من السرد المتصور لأحداث
المعركة. كما هي لوحة الفنان عقيل الدرازي والتي تعرض في المنامة
مقابل مأتم بن زبر.
وقد تقدم في اللوحات مشاهد مستقطعة فتقوم كل لوحة بتصوير كل
شخصية على حدة وأبرز موقف لها في الذاكرة السردية، وذلك لاستدعاء
المعاني التي انشحن بها كل موقف من المواقف في كربلاء. كما فعل
الفنان عبد الكريم البوسطة في رسومه في مأتم راس رمان، فناك لوحة
تمثل العباس وهو يمتطي فرسه حاملا قربة الماء في طريقه للنهر لسقي
الأطفال العطاشى وهو يتلقى رشقات السهام والسيوف وتقطع يده وما إن
تشاهد اللوحة حتى تستدعي كل معاني الشجاعة والإيثار وتستحضر أبياته
الشهيرة.
يا نفس من بعد الحسين هونني
هذا حسين وارد المنون
والله ما هذا فعال دين
وبعده لا كنت أن تكوني
وتشربين بارد المعين
ولا فعال صادق اليقين
وهناك من الرسوم واللوحات ما يمثل بعض المقولات المشهورة لشخوص
كربلاء، وذلك لما تتسم به هذه المقولات من محورية في المأساة أو
الثورة والتضحية، والاستشهاد. كما هي اللوحة التي توشحت بمقولة إن
كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني في أكثر من منطقة.
فيما يختص بصور الائمة عليهم السلام، وهو فن يختص بالشيعة يعود
تاريخه الى العصر الصفوي ويسمى (شمايل نقاري).. وهو فن جاء كما
يؤكد الكثير من الباحثين في تاريخ الفنون نتيجة التقارب مع أوروبا
خلال الفترة الصفوية، وأن الكثير من المستشرقين الذين زاروا إيران
في تلك الفترة حملوا معهم لوحات تصور المسيح وبعضها يعود إلى العصر
البيزنطي.
وقد شكل مجيء الأرمن وسكناهم في أصفهان الأرضية المناسبة لشيوع
هذا الفن في إيران، حيث نجد الكثير من الرسوم التي تصور حياة
الأنبياء ومحنهم وهو ما نراه على جدران كنيسة وانك في أصفهان.
وقد وظف الفن الإيراني لتصوير الأئمة الاثني عشر، وتوجد لوحات
تعود إلى العهد القاجاري والزندي تمثل الإمام علي والسيدة فاطمة
والحسنين (ع).
ويذهب الباحثون ان هذا الفن قد تعزز في الفترة البهلوية بعد
دخول الطباعة وتم تكليف فنانين بإنجاز لوحات تصور النبي محمد صلى
الله عليه وآله وسلم والإمام علي وآل البيت (ع)، ومن ذلك لوحة
شهيرة للإمام علي وقد جلس أسد عند قدمه، وتعكس ملامحه حالة من
الإيمان والقوة. |