منذ أن بدأت الصحوة الإسلامية المعاصرة قبل أكثر من ثلاثين
عاماً وإلى اليوم وإشكالية التعاطي مع موسم عاشوراء في تغليب
الجانب الشعائري أو تغليب الجانب القيمي والثقافي، تثار بين الحين
والآخر، وتزداد الإثارات عند اقتراب موسم عاشوراء من كل عام.
ولقد كان إثارة هذه الإشكالية في شكل الإحياء العاشورائي
ومضمونه، من ضمن البحث عن العوامل الناهضة للأمة، وإعادة مراجعة
الممارسات والأفعال الدينية والثقافية ليتم إعادة صياغة تتناسب
ودعم الحراك الناهض والروح التي انبثقت من الصحوة الإسلامية
وتناميها.
ومن أفضل المعالجات لهذه الإشكالية هو التوازن في الفعل بين
الجانب الشعائري والجانب القيم، فلا إلغاء لأي جانب منهما، ولا
يمكن أن يغلّب جانب على حساب إضعاف الجانب الآخر، لأن لكل جانب
فعله وفائدته، لما عبّرت عنه الروايات عن أهل البيت (ع) في الدعوة
إلى البكاء والجزع وإظهار المظلومية والتركيز على الإعلام، وأيضاً
لما عبّرت عنه من دعوة إلى الإحياء العلمي لمبادئ ثورة الإمام
الحسين (ع) لأن الإمام (ع) هو قدوة لكل الأجيال.
وكذلك لما أثبت الواقع من صحة ونضوج هذا التوجه، وضعف التوجه
الذي أراد أن يلغي الشعائر ويسخر منها، وأثبت ضعف رأي من أراد أن
يلغي روح العطاء ونور العلم في ثورة الإمام الحسين (ع) لكي تكون
مناراً في كل عصر.
المحصّلة التي نريد الوصول إليها والتأكيد عليها هي أننا مهما
حاولنا أن ننتصر لإحدى هذه الرؤى، إلا أن النتيجة ستكون في الواقع
المعاصر الذي يعيشه أصحاب الرؤية، فهل يعبّر واقع من أراد أن يغلّب
الجانب القيمي، عن واقع قيم ثورة الإمام الحسين (ع)؟ في رفض الظلم
والظالمين، وفي الوقوف في صف المظلومين؟ أم هي لقلقة لسان؟ وعندما
يجدّ الجدّ يقل الديّانون ويختارون منهاج بعيدة عن مبادئ وقيم
الإمام الحسين (ع) التي حاربوا الشعائر من أجلها.
وفي الطرف المقابل هل سيجعل المغلّبين للشعائر ثورة الإمام
الحسين (ع) بمنأى عن الواقع المعاصر وتحدياته؟ وهل سيعتبرون هذا
الموسم للاستجمام والتنفيس عن هموم شخصية؟ أم سيكونون كما كانت
مواكب اللطم والتطبير في النبطية في لبنان التي واجهة الاحتلال
الإسرائيلي أثناء المواكب بكل بسالة؟
إذاً النتيجة في صحة هذا المسار أو ذاك تؤخذ بالمواقف المعبّرة
عن الروح الحسينية الأبية التي ترفض الظلم والظالمين، لأن الأمور
بمآلاتها الواقعية وليست بالشعارات.
عاشوراء وأصول السياسة
من أهم الغايات التي من أجلها صارت لكلمات أهل البيت (ع)
ورواياتهم، محورية واعتماد، هو أن تلك الروايات الشريفة بمثابة
الأسس التي تبنى عليها الأفكار، وهي أصول ثابتة، ينطلق من فهمها
واستيعابها، إلى الفروع في المتغيرات الزمانية والمكانية.
وسيرة الإمام الحسين (ع) هي سيرة نورانية كسائر سير أهل البيت
(ع)، يستلهم منها النور ليضيء به الحياة، ومن خلال هذا الأساس لا
يوجد أساس لمقولة إبعاد موسم عاشوراء عن الواقع، لأنه إما أن يؤسس
للواقع الجديد كحالة فكرية مغذية لسائر الأفكار، وإما أن يتم
الانطلاق منه إلى واقع جديد كواقع زماني يستفاد من حماسته ومن
الجذوة التي يشعلها في النفوس.
فقد فنّد الإمام مقولة أن الحدث الكربلائي غير قابل للانسحاب
على سائر الساحات التي تتوافر فيها ذات الموازين التي وجدت فيه
تاريخياً، فندها بمقولته (ع): (ولكم فيّ أسوة)، ليثبت أن قانون
الأسوة مازال ماضياً ولا يوجد نسخ له في الحدث الحسيني الكبير، نعم
إن عظمة الحدث ذاته لا يمكن الوصول إليه في المقام الرباني، وفي
الموقعية الواقعية التي أنقذ بسببها الإسلام ككل بعد انحراف كبير،
فإنه (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) كما قال الإمام الحسن (ع).
وتبقى كربلاء المسيرة، وكربلاء الواقعة، وكربلاء التفاصيل، كلها
ضمن قول الإمام الصادق (ع): (إنما علينا إلقاء الأصول وعليكم
التفريع)، فيأتي دور العقل لكي يستلّ من كربلاء أصول الفعل السياسي
ونهج العمل الحركي ورؤى الإصلاح ومناقبيات التغيير، فيوائمها مع
ظروف كل عصر ومصر.
mosawy.com |