شبكة النبأ: حين تتدفق هذه
الارتال المتواصلة من الزوار الكرام، الى مرقد أبي الاحرار الامام
الحسين عليه السلام، فإن هذا الفعل لم يكن عشوائيا، أو لا إراديا،
كما يحاول البعض وصفه وتصويره، بل ثمة دوافع ومحركات إنسانية صرفة،
مدعمة بالايمان الجاد بوقفة الامام عليه السلام، هي التي تقف وراء
هذه الحشود المتزايدة من الزوار، وتوجهها الى كربلاء المقدسة، من
كل حدب وصوب.
إن ملايين العراقيين الوافدين، الى أبي عبد الله الحسين عليه
السلام، من جميع مدنه وأريافه وحتى صحاريه، إنما يعبرون بمسيراتهم
الطويلة مشيا على الاقدام، عن إسنادهم لكلمة الحق، ووقفة البطولة
الخالدة للإمام الحسين عليه السلام، التي أعادت مسار الاسلام الى
طريق الصواب، بعد أن حرفه عن ذلك أعداء الاسلام، وتؤكد هذه
المسيرات، إيجابية الشخصية التي تشارك بمثل هذه الشعائر، والطقوس،
والفعاليات، ذات النزوع التشاركي، حيث يصبح الجميع، تحت دافع ومحرك
واحد، هو تأييد الامام الحسين عليه السلام، ثم الاستعداد التام
للسير في طريق الحق راهنا.
فالامر لا يقتصر على الجانب التأريخي فحسب، أي أن السير الى أبي
عبد الله عليه السلام، لا يمثل رفضا للظلم الذي تعرض له آل بيت
النبوة، وينتهي الامر عند هذه النقطة، بل هو إعلان قائم، لرفض
الظلم والطغيان في أي زمان، وأي مكان، وهذا تحديدا سر خوف السلاطين
الطغاة، من ملحمة الحسين عليه السلام، ومبادئها التي هددت ولا تزال
تهدد، عروش الظلم، كونها تدفع باتجاه التحفيز الايجابي الدائم،
للتغيير نحو الافضل.
إن الزائر لكربلاء المقدسة مشيا على قدميه، إنما يعلن للجميع،
معنيين وغير معنيين، بأنه صاحب شخصية ايجابية متفاعلة، وأنه على
استعداد لأي جهد يصب في تقويم الشخصية، من خلال مقارعة الاخطاء
وتصويبها، كما أنه بإقدامه على هذه المشاركة، إنما يؤكد إيمانه
برفض الظلم والقهر وسواهما، واستعداده للمضي في الطريق الصواب، بيد
أن الامر يتطلب الجهد القيادي، والتوجيهي الصحيح، أي أن الامر
يتعلق بالقادة، أو النخب التي ينبغي أن تقوم بدورها التوجيهي
الصحيح، لهذه الشعائر الايمانية المساعدة على التقارب بين الناس،
وأن توجّه الملايين الى ما هو صالح، ويصب في عملية بناء الانسان
إيجابيا، وهكذا يكون الماشي على قدميه في مسيرات إيمانية، صاحب
شخصية تبحث عن الخير والصواب.
وهذا ما يذكرنا مثلا (بمسيرة الملح) التي قادها القائد الهندي
الراحل (غاندي)، واستطاع من خلال التوجيه الروحي والفعلي للجموع
الهندية، أن يطور هذه المسيرة، وأن يصنع منها سلاحا فاعلا، لطرد
المحتلين الانكليز من بلاده، فبعد أن أبدى الانسان الهندي البسيط
وغيره، استعدادا للتفاعل والمشاركة الجماعية، في وحدة الموقف، تمكن
غاندي أن يطور هذه الشخصية، ويجعل منها قادرة على التفاعل،
والتأثير في تحويل الواقع الهندي آنذاك الى واقع أفضل.
إذن يمكن للمعنيين، أن يوظفوا هذه المسيرات المليونية التي
تتوجه الى مرقد الامام الحسين، في اربعينيته عليه السلام، بالطريقة
التي تبني الانسان، وتجعل منه عاملا مساعدا، على التغيير نحو
الافضل، من خلال الاستعداد المتواصل للجموع المشاركة في العمل
الجماعي، المتمثل بالانخراط في الأرتال المتدفقة على كربلاء
المقدسة، وحين يعترض البعض على هذه الشعيرة، ويعلن بأنها مضيعة
لجهود الناس وما شابه، فإنه يغفل تماما عن الطابع التشاركي لهذه
الشعيرة، ويغفل نزوع المشارك فيها الى التفاعل، والعطاء الجمعي،
الذي يجمعه مع الآخرين، في هدف ومبدأ واضح ومحدد، وهو رفض الظلم،
والتطلع الى التقدم والبناء الامثل للانسان.
وهكذا فإن المشاركين في المسيرات المليونية المتواصلة نحو
كربلاء المقدسة، إنما يعبرون عن وحدة الموقف والكلمة، لهذه
الملايين المنتصرة لذواتها ولموقف الامام الحسين عليه السلام، وهذا
بحد ذاته تعبير واضح ودقيق، عن ميول الانسان ونزوعه صوب الحق، وهذا
أيضا، ما يُطلق عليه فطرة الانسان التي تدفعه نحو الصواب.
وثمة التلاحم الاجتماعي الذي ينتج عن هذه المسيرات، حيث يشترك
الجميع في تقديم الخدمات المطلوبة للزائرين، وهم يقطعون مئات
الكيلومترات مشيا على الاقدام، فيجدون ما يحتاجونه في السرادقات
المنصوبة على الطرقات والمواكب والبيوت التي تستقبلهم، وتقدم لهم
ما يحتاجونه، من مأكل ومشرب ومنام، وهذا ما يدفع بدوره، الى تعميق
اللحمة الاجتماعية للشعب، وكلنا تابع او شاهد على شاشات التلفاز،
او سمع من الآخرين، أو قرأ في الصحف وغيرها، مشاركة غير المسلمين
وغير الشيعة في تقديم هذه الخدمات للزائرين، وهذه الخطوة تنم عن
روح ايجابية، تتطلع الى المشاركة، والعطاء، والتفاعل مع الجميع،
وهي احدى بذرات هذه الزيارة، التي تجمع المسلمين وتقرّب بينهم،
وتجعلهم يتمتعون بالروح الايجابية، المستعدة للتفاهم، والتسامح،
والتعايش، وفق رؤية متوازنة، مستمدة أصلا من مبادئ أبي الاحرار
عليه السلام، التي تضع الانسان كقيمة عليا، وتحثه على مقارعة
الخطأ، أيا كان نوعه او مصدره.
وهكذا يبقى الامر منوطا بالقادة والنخب، إذ يبقى دورهم هو الذي
يمكن أن يجعل من هذه المناسبات، والشعائر، دوافع ومحركات، لبناء
الشخصية الايجابية، النازعة الى التطور والحضور الدائم. |