|
كان يعلم السفير البريطاني في بغداد من عام ١٩٥١ حتى ١٩٥٤ السير
جون تروتبيك أن الشعب العراقي كان كارها ورافضا لخنوع المملكة
العراقية للإستعمار الإنجليزي. البريطانيون كانوا منزعجين من حالة
الشارع العراقي والإسلامي بصورة عامة وكانوا يخافون أن ما كان يحصل
في إيران ومصر وسوريا ولبنان في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات
سيحصل لوجودهم في العراق.
هذا الوضع المضطرب دفع السفير تروتبيك ليعبر عن نظرته حول
"العرق العراقي" (أترجم ما قاله تروتبيك جاهدا أن أكون أمينا في
إيصال معنى ما قاله في ترجمتي):
"العراقي، يبدو لي، أوفي أي معدل رجل القرية، لن ينسى شكوى
واحدة أبدا، كونه أحد أكسل المخلوقات الذي لا يملك حياة عائلية،
سيجلس (العراقي) في المقهى لعدة ساعات محاط برفاقه متحدثا عن
السياسة بلا توقف. بمزيج من الحزم واللباقة أي شخص قادر على إبقائه
عاقلا وظريفا لبعض الوقت، وأي مزحة قد تحول أفكاره في اللحظات
الصعبة. ولكن هناك جانب مُر، متحير، ومتعصب في طبيعته.
كونه لا يرى سوى البؤس والركود في كل مكان حوله، هو(أي العراقي)
لن يعترف حتى لنفسه الإجابة الواضحة أنه ينتمي إلى عرق أهوج وغير
مسؤول بصورة غريبة." (١)
لا تفاجئني عرقية وعنصرية تروتبيك فهو يمثل نموذج لسياسيي دول
الإستعمار وللأسف نموذج لكثير من صحافيي وسياسيي الغرب هذا اليوم.
في الحقيقة أن ما قاله وما كان يقوله وما لا يزول يقوله الكثير
منهم هو نتيجة طبيعية لأخذهم دينهم ومعتقداتهم من المنحرفين. فخذ
على سبيل المثال ما كان يقوله أحد أشهر المفكرين الإنجليز في القرن
التاسع عشر الميلادي جون ستيوارت ميل الذي لا تزال كتبه ومقالاته
تدرس في جامعاتهم حتى هذا اليوم ولا يزاولون يعتبرونه من المفكرين
المتحضرين ومن أشهر المدافعين عن حقوق المرأة في ذلك عصره. قلة
قليلة أشارت بأن ميل كان عنصريا حتى النخاع وللأسف أقواله العنصرية
لا تزال تُهمش.
في مقال كتبه عام ١٨٥٩ بعنوان "كلمات قليلة حول عدم التدخل"
متحدثا عن عدالة استعمار بريطانيا وفرنسا للهند والجزائر يقول ميل
بأن دول مثل الهند والجزائر "لا زالت بربرية" واستنتج بأن "لصلاحها
يجب عليهم (أي الهنود والجزائريين وشعوب دول الشرق) أن يُحتلوا
ويُمتلكوا من الأجانب". (٢)
قارن هذه العنصرية والغوغائية التي تدعي الحضارة والتمدن مع ما
كان يقوله ويدعو إليه شيخ بسيط وجليل من مدينة كربلاء المقدسة
المرحوم عبدالزهراء الكعبي الذي لم يتمتع بإمكانيات سياسيي دول
الإستعمار ولم يذهب إلى أشهر جامعاتهم وإنما نشأ وترعرع في حوزات
الإمام الصادق عليه السلام المحدودة الإمكانية وتربى في مجالس
الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
حينما يقرأ مقتل الإمام (ع) ويذكر مصيبة واضح التركي مولى الحرث
المذحجي الذي صرع في كربلاء في نصرة سيد الشهداء، يذكر الشيخ
الكعبي رحمه الله أن الإمام عانق ووضع خده على خد الغلام وهو مخضب
بدمه. ويعلق الشيخ الكعبي رحمه الله على هذه الحادثة أمام الباكين
قائلا:
"انظر إلى الحسين بن علي، رجل الدين والإنسانية، يضع خده مرة
على خد ولده علي الأكبر وكذلك أيضا مرة أخرى يضع خده على خد غلام
تركي. إذ لا يفرق إمامنا سلام الله عليه بين أفراد النوع الإنساني.
فالدين الإنساني هو الدين الإسلامي."
وهذا القول أيضا نتيجة طبيعية لتعليم وتربية الشيخ الكعبي رحمه
الله الذي أخذ دينه ومبادئه وخلقه من سيد الشهداء عليه السلام وسيد
البلغاء أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال قولته المشهورة:
"الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق."
المصيبة كل المصيبة أن الكتاب العرب تركوا تراث العدالة
والإنسانية الذي خلفه أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء وأبناءهم
المعصومين وشغلوا أنفسهم بتراث أمثال جون ميل دون وعي أو معرفة أن
نفس الأشخاص الذين يتفاخرون بقراءة كتبهم يعتبرونهم شعوب بربرية
وغير مؤهلة لإستيعاب نظريات "الرجل الأبيض".
وأنا شخصيا لا ألومهم لتوجههم للتراث الأعوج الذي خلفه ميل
وغيره فهم في نهاية الأمر مفلسون فكريا وأخلاقيا. فإن لم يقرؤوا
كتب ميل فكتب من يقرؤون؟ ابن تيمية؟ وإن لم يتفاخروا بمواقف ميل
فبمواقف من يتفاخرون؟ حكام الدولة الأموية؟
رحمك الله يا شيخ عبدالزهراء ورحم الله من أحيا شعائر الحسين -
شهيد الإنسانية- بشتى أنواعها.
............................................
(1) Quoted in Wm. Roger Louis, “The British
and the Origins of the Revolution” in The Iraqi Revolution of
1958, ed. Robert A. Fernea and Wm. Roger Louis, p. 35.
(2) John Mill. "A Few Words on
Non-Intervention." Fraser's Magazine 1859. |
