شبكة النبأ: بدأ الانسان حياته
متوحشا، مشردا، حاله حال الكائنات الاخرى، التي كانت تتصارع حد
الموت، من اجل لقمة العيش، من دون أن تنظم ذلك الصراع، والتنافس،
تعاليم دينية، او قيم، او اعراف، او اخلاق، او قوانين وضعية، لأن
الانسان كان جاهلا، الى الحد الذي جعله يعيش في المغاور، والكهوف،
والغابات، حاله حال الحيوانات والكائنات الاخرى.
ثم بدأت مراحل التشذيب، والتهذيب، على يد الاديان، والافكار،
والفلسفة، والمبادئ، والسنن، والاعراف، والقوانين الوضعية وغيرها،
فانتظمت حياة الانسان، وصار سيدا على الكائنات الاخرى، بذكائه
وسلوكه، الذي انتقل للصراع بينه وبين بني صنفه، بعد أن بدأ صراعه
مع الكائنات الاخرى.
حياة البشرية ما كانت تصل الى ما وصلت إليه، في جانبها
الايجابي، لو لا التهذيب الذي طرأ رويدا، على تفكير الانسان،
وثقافاته، ومن ثم سلوكه، وهكذا صارت الثقافات، هي التي تتحكم
بطبيعة سلوك الفرد والجماعة، وصارت هي المعيار، الذي يُقاس به مدى
التحضر، الذي وصل اليه هذا الشعب، او تلك الامة، إذ أن الثقافة
لابد أن تنعكس على السلوك، وتحدد طبيعته، من حيث الجودة او عدمها.
ولو تحدثنا عن الثقافة العاشورائية، سنسأل أولا ماهو مصدرها..
وماهي توجهاتها وحيثياتها وتفاصيلها.. وما الذي تدعو اليه هذه
الثقافة؟.
الجواب عن الشطر الاول للسؤال، سيقودنا الى الامام الحسين (ع)،
فهو مصدر الثقافة العاشورائية، كونه صاحب الوقفة، التي هدفت الى
اعادة امور المسلمين، ومسيرتهم، وحياتهم، الى نصابها، بعد الانحراف
الخطير، الذي تعرضت له، على أيدي حكام دنيويين، كان همهم الثراء،
واللهو، والسلطان، والاسلام الحنيف، الذي بدأته الرسالة المحمدية،
ظهر في مجمتع بدوي بالغ الجهل، لكنه تحرر من جهله، وتكونت بقوة
الاسلام المبدئية، دولة الاسلام التي صارت في حينها اقوى الدول في
العالم آنذاك، وكانت الموازنة، بين المادي الحياتي، والحقوق
الاخروية، دقيقة جدا، لكن الامور في ظل السلطة الاموية، بدأت تنحرف
بالاسلام، وبحياة المسلمين الى جادة اخرى، هي جادة التسلط المادي
فقط، وهو ما افقدها حالة التوازن، وقادها الى الانحراف عن المسار
الاسلامي المعروف، لذا.. كانت وقفة الامام الحسين (ع)، كنتيجة
لانحراف المسار، قضية مطلوبة، تستوجبها الاحداث السياسية،
والاجتماعية، والاخلاقية، المستجدة في حياة المسلمين، فأطلق الحسين
(ع)، مبادئه لتصحيح الامور، واعادتها الى سابق عهدها.
أما حيثيات الثقافة الحسينية، فهي إحقاق الحق، ونبذ الظلم،
ومقارعة الطغيان، ضد الحاكم الفرد المتسلط، وضد المسارات التي لا
تتسق مع الصواب، ونشر ثقافة الايثار، من اجل الآخر، الذي ليس هو
إبني، او أبي، او اخي، او امي، بالضرورة، بل هو الانسان أينما كان،
فهي اذن حيثيات ثقافية، تهدف الى خير الانسان أولا وأخيرا.
ولو تحدثنا عن الشطر الثالث من السؤال نقول، إن ما تدعو اليه
الثقافة الحسينية العاشورائية، هو وضع جميع الحيثيات، التي تتكون
منها هذه الثقافة موضع التنفيذ، بمعنى أوضح، أن الانسان لايكفي، أن
يقول بأنه يحب الامام الحسين (ع)، وأنه متألم على مصابه، وأنه
يقدّر، ويثمّن وقفته وتضحياته، وانه يؤيد ويسير على نهجه وثقافته،
ومع ان مثل هذه الاقوال مطلوبة، وينبغي أن تكون معلنه، لكنها تبقى
ناقصة، ما لم تتحول الى التطبيق العملي، فالثقافة العاشورائية، هي
ثقافة حياة ايجابية، عملية، قائمة على الارض فعلا، لا قولا، فحسب،
فمن يحب الامام الحسين (ع)، وينتهج ثقافة الفكر الحسيني، عليه أن
يبادر لتطبيق هذه الثقافة فعليا.
وتطبيق الثقافة العاشورائية، تعني عدم الخنوع للمتسلط الظالم،
وعدم السكوت على الظلم، ومقارعة الانحراف، وفي الوقت نفسه، العمل
على نشر الفضيلة، والتسامح، واشاعة حب الخير للغير، وتفضيل الآخر
قبل النفس، والتكافل في الملمات، والتشارك في صنع الحياة عموما، في
ظل العدل، والمساواة، وتكافؤ الفرص، وقبول الرأي الآخر، والتنوع،
والتعايش، بمحبة بين الجميع.
هذه هي حيثيات الثقافة العاشورائية، التي أفرزتها وقفة الامام
الحسين (ع) العملاقة، ضد الطغيان، ولابد لنا ونحن نؤمن بها، أن
نعمل بها أيضا، بما لايقبل الشك، وبما يجعل منها منهج حياة، لامناص
منه، وأن نتجنب القول بها، بعيدا عن العمل بها، بل وعلينا أن نفضح
المرائين، الذين يتسترون بالثقافة الحسينية ولا يعملون بها. |