عندما نستحضر النماذج العظيمة
في التاريخ، والتي كان لها الأثر الكبير في حركة التاريخ وتغيير
مجراه، لابد أن نبحث عن المواصفات التي سكنت وعي تلك الشخصيات،
والتي كانت بدورها منطلقاً أساسياً لخياراتها، وباعثاً هامّاً في
تشكيل مجهودها، وبلوغ أهدافها
العباس بن علي (عليه السلام)، شخصية تاريخية متميّزة، وهو بطل
من أهم أبطال كربلاء، وهو الذي حمل راية الإمام الحسين (عليه
السلام) في مواجهة قوى الظلم والظلام والفساد، وقد صاغ لنفسه شخصية
من الصعب أن يجود بها التاريخ، تلك الشخصية التي انغرست في القلوب
وفي العقول، وفي الضمائر الحرة، عندما قدّم التضحيات العظيمة في
سبيل الله وفي سبيل الإصلاح في أمة الإسلام، حيث حمل راية أخيه
الإمام الحسين (ع)، ليصلح المعوّج من أمر الأمة، ويقوّم المائل
منها، حتى لو كان ذلك ثمنه دمه الشريف، يقدّمه فداء لهدفه المقدّس.
لابد لنا أن نهتم اهتماماً بالغاً في دراسة المواصفات التي
تحلّى بها العباس بن علي (ع)، حتى أصبح في قلب كل موال وفي ضمير كل
حر، وأصبح منبعاً للكرامات التي عايشها الناس في مختلف ظروفهم
ومصاعبهم. والمواصفات تعطينها سر من أسرار العظمة ونهجاً منيراً
لكل من يروم التميّز في طريق تلك العظمة.
وكما يبدوا لكل من تصفّح تاريخ العباس عليه السلام، أن مواصفاته
عديدة قد زقها من عين الإمامة الإلهية عندما كان ربيباً في أحضان
الإمام علي (ع)، وأمه المرأة الصالحة أم البنين (ع)، وبعد ذلك
معايشته للسلالة الطاهرة التي هو فرع منها، مع أخيه الإمام الحسن
(ع) والإمام الحسين (ع)، وكذلك مع أخته زينب الكبرى، إلا أننا سوف
نقتبس صفتين مهمتين، ذكرهما إمام معصوم، هو الإمام الصادق (عليه
السلام)، لنرى مدى أهمية هاتين الصفتين لعالمنا المعاصر ووقعنا
الراهن.
قال الإمام الصادق (ع): (قال الصادق عليه السلام: كان عمنا
العباس بن علي نافذ البصيرة صلب الايمان جاهد مع أبي عبد الله
وأبلى بلاء حسنا، ومضى شهيداً).
فالصفتان هما نفاذ البصيرة، وصلابة الإيمان، فكل صفة من هاتين
الصفتين لها أهميتها ولها دورها في الأثر الذي أحدثه العباس بن علي
(ع) في النهضة الحسينية المقدسة، فالإمام الصادق (ع) عندما ذكر
الصفتين ذكر بعدها النتيجة وهي أنه (جاهد مع أبي عبد الله وأبلى
بلاء حسنا....).. وهذا يقودنا إلى أن هنالك ارتباط قوي ومهم بين
هاتين الصفتين وبين تحقيق الإنجازات والعظمة التي تسنّمها العباس،
وبالتالي فإن ذلك سر من أسرار العظمة، وعلينا أن نستلهم منه
ونستضيء من نوره من أجل تحقيق الأهداف الكبرى، وبلوغ العظمة،
والحصول على التميّز.
(نفاذ البصيرة) أن تخترق بصيرته الأشياء وتنفذ في عمقها، ليصل
إلى الحقائق متجاوزاً المظاهر والشكليات، ويمكن أن نعرف مدى أهمية
هذه الصفة عندما نعلم أن الشغل الشاغل والهم الكبير لدى مروجي
الفساد بشتى أنواعه، هو سعيهم نحو التزييف والخداع والغش وتزيين كل
ما هو سيئ وفاسد، من أجل إقناع الناس بما لديهم، سواء كانت تلك
الأشياء بضائع تجارة مادية، أو بضائع ثقافية وقيمية، أو كان ذلك
تحريف لمواقف شخصيات أو تاريخ وسير وماشابه ذلك، كل ذلك لكي ينخدع
وينجذب الناس إليها.
فمن لا يمتلك بصيرة نافذة، فإن المظاهر الخداعة سوف تأخذه إلى
ما هو سراب لا ينفع، أما صاحب البصيرة النافذة فهو الذي لا تهزه كل
مظاهر الخداع والتزيين والدعايات الكاذبة، فيعرف حقائق الأمور
وبواطنها، من خلال النظر إلى الغايات والنوايا.
فكم نحن بحاجة ماسة اليوم إلى صفة نفاذ البصيرة في عالم تتكالب
فيه مختلف القوى على الإسلام وعلى المسلم لحمله على الانحراف عن
مبادئه وقيمه، فإنهم يأخذون الشباب بعناوين التقدّم، ويأخذون
النساء باسم التحرر والانفتاح، ويسلبون العقول من خلال تزيين
الأفكار وتقديم نماذج وشخصيات خادعة لتكون قدوات بديلة عن القدوات
الحقيقة، فمن يحصل على نفاذ البصيرة ستعصمه من الإنحراف والانجرار
وارء كل صيحة وكل موضة وكل نمط، ويمكنه أن ينتقي ماهو صالح لحياته
ولمجتمعه ودينه.
(صلابة الإيمان) الصفة الأخرى التي تحلّى بها العباس بن علي
(ع)، وهذه الصفة بالغة الأهمية بنفسها، وهي مكملة للصفة الأولى،
حيث أن نفاذ البصيرة تقوم بمهمة التصدّي للإغراءات والتعرّف على
الحقائق، وصلابة الإيمان مهمتها التزوّد بالمناعة تجاه مصاعب
الحياة وتحديات الواقع، قالشخصية التي تمتلك الصلابة والقوة في
إيمانها بالله وعقيدتها بالسنن الإلهية ويقينها بوعد الله تعالى،
فإنها لا تهتز عند مواجهة شتى أنواع المصائب والمصاعب.
إننا نعي أهمية صلابة الإيمان بحق في عالمنا اليوم لما نراه من
تردٍّ واسع في مجال تحمل الناس لتحولات الحياة ومتغيراتها، فنرى
الانهزام والمرض واللجوء إلى الادمان والانتحار نتيجة عدم
الاستطاعة في مواجهة مشكلاتهم الشخصية أو الاجتماعية أو حتى
المشكلات التي تواجه العاملين في سبيل الله.
أن يكون الإنسان صلب الإيمان فهذا يعني أنه يمتلك الدرع الواقي
لشق طريق العظمة والتميّز، فلا يكفي أن يمتلك نفاذ البصيرة، بل
لابد أن تكتمل الحلقة بصفة الصلابة في الإيمان، لأن العارف قد يصاب
بحالة نفسية تشل تفكيره، إن لم يتعود الممارسات الإيمانية، والعالم
بالحقائق قد يميل مع مطالب النفس والشهوات، إذا لم يلجأ إلى ركن
وثيق، والعامل البصير قد تتعطّل حركته وفاعليته إذا لم يتصل بينبوع
الإيمان.
إننا نرى المظاهر واضحة في حياة العباس بن علي (ع) حسب ما ذكره
الإمام الصادق (ع) بأنه (جاهد مع الحسين (ع))، حيث التزم نهج
الإمام (ع) ولم تغره كل المظاهر الأخرى، لأنه عرف أن الإمام الحسين
(ع) هو الإمام المفترض الطاعة، وأن طاعته ونهجه هو الحق وهو سفينة
النجاة ومصباح الهدى.
وكانت فاعليته نتيجة صلابة إيمانه، لذلك فإنه (أبلى بلاء
حسناً)، حتى أنه لم ير لحياته مع الفساد قيمة، ففضل قيمة الحياة
الأبدية الخالدة (فمضى شهيداً).
عندما نستحضر هذه المعاني في شخصية العباس بن علي (ع) فإن هذا
يحتّم علينا أن ننتهج سبيله ونقتدي به في حياتنا المعاصرة لمواجهة
التحديات الراهنة والمختلفة في جميع المجالات، ولكافة الفئات
العمرية، بحيث تدخل هذه المعاني في المناهج التربوية منذ التنشئة
الحديثة وحتى تنمية الشخصية في مراحلها المتقدّمة، وذلك لكي نحصل
شيئاً فشيئاً على مجتمع قائم على مبادئ المنعة والقوة، ولديه
القدرة على التحدّي والمواجهة.
http://mosawy.com |