يوجد في التاريخ تجربة رائدة لشخصية شيعية عالمية بارزة، تقلدت
منصب قيادي رفيع جدا في نظام حكومة دولة من الدول الكبرى، شخصية
تعاملت مع النظام بشروط ليس حبا في المنصب والرئاسة وخدمة النظام
وتحقيق مأرب شخصية لمصلحة الذات، إنما لأجل كشف الحقيقة (حقيقة
النظام المتستر بالدين) وتقديم درس في فنون السياسة!!.
شخصية الإمام الرضا
انها شخصية الإمام علي ابن موسى الرضا (ع)، التي هي كبقية
شخصيات أئمة أهل البيت (ع) الذين هم امتداد للرسول الأعظم (ص) وحبل
الله المتين. وسيرة الإمام الرضا مليئة بالدروس والعبر في جميع
المجالات ومنها القيادية، وبالتحديد في التعامل والتعاطي مع النظام
الحاكم, فالإمام الرضا عليه السلام المولود في المدينة المنورة 11/
ذوالقعده/148هـ. عاش في ظل الظلم والعدوان من قبل الحكومة العباسية
، وعانى من مظاهر ذلك الجور والظلم وأعظمها اعتقال والده الإمام
موسى الكاظم (ع) الذي اختطف من بين أبنائه وأهل بيته من المدينة
المنورة وأرسل إلى الخليفة في بغداد وتم سجنه لسنوات طويلة من عمره
الشريف، حتى استشهاده في غياهب السجون.
استلم الإمام الرضا عليه السلام والإمامة والقيادة للائمة في ظل
ظروف سياسية صعبة، ففي عهده تواصل الصراع بين الخير والشر، وبين
الحق والباطل، وبين النظام الحاكم الفاسد المتمثل في حكم العباسيين
مع المعارضة للظلم والفساد والتي تدعو للإصلاح والعدالة المتمركزة
في أهل البيت (ع)، وتصاعدت وتيرة المعارضة للنظام، وسط اصطدام مسلح
بين أقطاب السلطة الأمين والمأمون، انتهى بمقتل الأمين على يد أخيه
المأمون، وسيطرة المأمون على الحكم، ولكن خوف النظام العباسي من
أهل البيت استمر، مع ازدياد قوة المعارضة التي تطالب بحق آل البيت
(عليهم السلام) بالحكم، ولهذا عمل المأمون على امتصاص الغضب، ومارس
أسلوبا جديدا وهو الاستقطاب والتقريب ومحاولة الاحتواء، عبر تقريب
الإمام الرضا (ع).
فالإمام علي ابن موسى الرضا (ع) في عهد المأمون العباسي، قبل
باستلام منصب رفيع جدا في الدولة وهو ولاية العهد، (مكرها مضطرا
بولاية العهد) حيث عبر عن الإمام عن ذلك بدعائه لله:"اَللّهُمَّ
اِنَّكَ تَعْلَمُ اَنّي مُكْرَهٌ مُضْطَرٌّ، فَلا تُؤاخِذْني، كَما
لَمْ تُؤاخِذْ عَبْدَكَ وَ نَبِيَّكَ يُوسُفَ حينَ وَقَعَ إلى
وِلايَةِ مِصْر"َ. بعدما رفض ذلك العرض لعدة مرات بشدة، ولكن
المأمون العباسي ـ المصر على تسلم الإمام الرضا الذي يشكل رأس حربة
المعارضة لأهل البيت (ع) المنصب لتحقيق أهداف سياسية خاصة ـ هدد
الإمام الرضا بالقتل..، فقبل الإمام في نهاية الأمر بولاية العهد
بشروط، ـ وفي ذلك أهداف سياسية ـ ومن تلك الشروط كما جاء على لسان
الإمام الرضا (ع): "أنني لا آمر و لا أنهى و لا أفتي و لا أقضي و
لا أولي و لا أعزل و لا أغير شيئا مما هو قائم فأجابه المأمون إلى
ذلك كله".
لماذا لم يوافق الإمام الرضا (ع) على ولاية العهد إلا بشروط
محددة؟
حتما هناك أسباب كثيرة لدى الإمام (ع)، ولكن بالتأكيد منها عدم
إعطاء الشرعية للنظام الدكتاتوري الاستبدادي الظالم، وعدم السماح
للنظام من استغلال وجود الإمام وتحميله أي مسؤولية في الحكومة
الظالمة والفاسدة، والعمل على إرساء العدل.. حول ذلك يقول الإمام
الرضا (ع): "اللّهُمَّ لا عَهْدَ اِلاّ عَهْدُكَ وَ لا وِلايَةَ
اِلاّ مِنْ قِبَلِكَ، فَوَفِّقْني لإقامَةِ دينِكَ وَ اِحْياءِ
سُنَّةِ نَبِيِّك، فَاِنَّكَ اَنْتَ المَوْلى وَ النَّصيرُ، وَ
نِعْمَ المَوْلى اَنْتَ وَ نِعْمَ النَّصير"ُ.
إن الإمام علي ابن موسى الرضا (ع) أراد من خلال ذلك أن يقدم
درسا ـ وبالذات للقيادات الشعبية القادمة ومنها الدينية ـ بعدم
شرعية وصحة الدخول ومساعدة الحكومات الدكتاتورية الظالمة، ـ بدون
اضطرار (..)، وبشرط عدم المشاركة في الظلم ـ مهما كانت التبريرات
ولو كان ذلك عبر مناصب رفيعة، وان كان الشخص يملك الكفاءة، لان
الحاكم غير العادل الذي يصل لكرسي الحكم بشكل غير شرعي وديمقراطي
حقيقي وبدون تأييد الرعية لا ضمانة له، وانه سيستغل أي شخصية بما
يخدم أهدافه ونظامه وسلطته.
والحالة الوحيدة في التعامل تكون في حالة الإكراه والاضطرار
والتعرض للأذى...، وبشرط عدم الظلم والمشاركة فيه، والعمل على رفع
الأذى عن المظلومين.
وهذا لا يعني عدم إمكانية العمل مع الحكومات في المواقع التي
تخدم الشعب، فهناك حالات تستدعي العمل مع الحكومات بشرط عدم الظلم،
وتلك الحالات تعتمد على الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والفكرية.
وعلى المواطن مهما كان دينه ومذهبه وفكره، ومهما كان منصبه خارج
الحكومة أو داخلها، أن يكون أداة تأثير بشكل ايجابي لخدمة عامة
الناس والدفاع عن مصالح المظلومين والمستضعفين، وفضح النظام، لا
أداة ووسيلة بيد النظام!
وبلا شك إن الأئمة (ع) ومنهم الإمام الرضا (ع) يدعون الناس
وبالخصوص شيعتهم ومحبيهم أن يكونوا دعاة إصلاح بإعمالهم لا
بأقوالهم فقط، وبضرورة الدخول والمساهمة بالعمل في الحكومات
العادلة ـ حسب الأحكام الإلهية ـ القائمة على الديمقراطية الحقيقية
التي تمثل إرادة الشعب، التي تعتبر الضمانة لجميع أفراد الشعب.
وفيما نحن نحيي ذكرى وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) الذي
استشهد مسموما في 17/2/ 203هـ. على يد النظام العباسي.
نأمل الاستفادة من تجربته الرائدة في التعامل مع النظام الحاكم
بما يتوافق مع المبدأ دعم العدالة والإصلاح، والدفاع عن المظلومين
وتعرية النظام الفاسد.
السلام عليك يا مولاي يا شمس الشموس وأنيس النفوس أيها السلطان
العظيم يا أبالحسن علي ابن موسى الرضا. |