شبكة النبأ: كل حركة ناجمة في
التاريخ تكون إما منبثقة من طاقة الفكر، وإما منبثقة من طاقة
العاطفة. فبينما نجد حركات الأنبياء والمصلحين انطلاقة من قاعدة
العقل المتمثلة في البرهان للمفكرين، والمعجزة للجماهير، نرى حركات
الملوك والرؤساء، انطلاقة من قاعدة العاطفة، المتمثلة في الإغراء
مرة وفي الإرهاب مرات. وباختلاف نوعية الحركات تختلف الوسائل.
حينما يستعرض التاريخ الحشد الحافل من الحركات الفكرية
والعاطفية تزهو حركة الإمام الحسين (عليه السلام) فريدة نابغة، فقد
كانت في واقعها انطلاقة من قاعدة الفكر، لماذا ؟
لماذا الانطلاقة؟
يشير الشهيد اية الله السيد حسن الشيرازي (رحمه الله) الى ذلك
بالقول:
1ـ هي امتداد حي لثورة الرسول الأكرم (ص)، وتضحية مخلصة،
لاكتساح الظلم والظلام، وإقامة العدل والنور. كما كانت في أسلوبها
انطلاقة من قاعدة العاطفة إذ حفلت بكل ما يعجب ويثير ، وتلونت
بالدماء والدموع.
2ـ حركة الحسين (ع) بطبيعتها انتفاضة المظلومين ضد الطغاة
والجلادين، وقدم الإمام لتأكيدها جميع رجاله ضحايا، وترك نساءه
سبايا واستمرأ العطش الأليم، الذي حال بينه وبين السماء كدخان،
وقضى على عدد من أطفالهن كما رفع كافة الشعارات التي تؤلب حوله
الحق والجماهير، وترك عدوه هشا خوارا.
3ـ حركة الحسين بواقعها ثورة فكرية، تحركت لإنقاذ أغلى وأعلى
المثل والقيم الرفيعة، متمثلة في أوسع الأديان السماوية الإسلام من
إمعات منحرفين، تطفلوا عليه لاستغلاله في سبيل إرواء المطامح
الجشعة الرعناء، فأدت دورا رساليا، في فضح أعداء الإسلام،
المتسترين باسمه وإعادة مفاهيمه المشوهة إلى أصالتها النبيلة.
الطاقة الخلاقة
استخدم الإمام الحسين (ع) طاقتي الفكر والعاطفة، ليلحق بالفكر
في آفاق المفكرين، ويتجلى بالعاطفة، في مجالات الجماهير، حيث يكل
الفكر، تنطلق العاطفة عبر الحواجز والحدود بلا ملل أو إعياء.
فمن طاقتي الفكر والعاطفة تألفت شخصية الإمام الحسين (ع) كقائد
شهيد، وتفجرت ثورته العارمة، كرحمة للشعوب ولعنة على الجلادين.
وأصبح الحسين أعظم قتيل تقام له المآتم كما لا تقام لسواه،
وأصبحت ثورته أقوى ثورة عصفت بذاتها حتى استقامت بعناصرها، استغنت
عن جميع الإسناد والاعتبارات، ارتفعت فوق كافة المستويات، فراية
الحسين تعلو وترفرف، حيث لم يبلغ الإسلام فالحسين قائم، حيث لا
يوجد النبي (ص) فالحسين قائم، حيث لم يتوسع علي والحسن
والزهراء(عليهم السلام) فالحسين قائم، حيث سار الإنسان ونبضت
الحياة، فالحسين قائم..
وإن كان علينا أن ننكر هذه التجزئة الجافية، فلا فصل بين الحسين
والإسلام، إنما الحسين بطل من أبطال الإسلام، حياته بند صميم من
منهج الإسلام، وثورته شعلة موجهة من ثورة الإسلام.
خصائص الثورة والثائر
الإمام الحسين (ع) شق الطريق في مزدحم الحياة أمام الإسلام شأن
القائد الجبار، الذي ينتشر به مبدأه، ولا يتطفل هو على مبدئه، لأنه
لم يكن ذلك القائد الذي يمتص حياة مبدأه ليحيا بها مترهلا مترفا،
إنما كان ذلك القائد، الذي يستنزف حياته الخاصة، ليروي بها مبدئه
(الإسلام) فيعيش بها قويا خالدا ولذلك:
1ـ الحسين لما وجد بني أمية وقد امتصوا كل ما في الإسلام من
مؤهلات الحياة حتى أوشك على التلاشي والضمور، رأى أن يغذيه بحياته
الخاصة لتمده بالبقاء. النقمة التي شاعت ضد حكومة يزيد تبلورت
ونضجت، تطورت إلى الثورة في نفوس الشخصيات العظيمة، التي تشعر
بمسؤوليتها عن مصير الأمة فسبقهم الإمام الحسين(ع) وعبر عنها قبل
أي إنسان آخر أدق وأعمق تعبيرن فكانت أولى ثمراتها ثورة الطف.
2ـ يعتبر الحسين النائب الحقيقي للرسول (ص) المسئول الأول عن
الإسلام. وجد الطارئين والمتطفلين عليه يتاجرون بالدين والحق
والفضيلة قد قلبوا المفاهيم كما قلبوا الطبقات، وموهوا الجاهلية
باسم الإسلام، وأحيوا الوجاهات التقليدية التي حاربها الرسول (ص)
ووجد المقدسات التي يستهزئ بها الطلقاء، الخمور التي تكرع أباريق
وأحواضا وانهارا،الغواني والغلمان والقرود التي تلوث خلافة
الإسلام، المآسي التي تنصب على الأفراد والجماعات.
3ـ كان شعور الإمام بالمسئولية اقوى وأعمق من غيره، فلم يجد
بداً من الثورة للقضاء على الوضع الفاسد. وبدأ (ع) بتوجيه الحكام
وتوعية الجماهير، في أوسع الخطب والأدعية، التي أكثر من إلقائها في
عرفات منى وفي كل مناسبة ومجمع، لكن حيث كان الارتداد بالفساد
التحجر، عجزت الخطب والمواعظ إلا عن الإعداد للثورة فأصبحت الثورة
محتومة لا يعالج الوضع الفاسد إلا بها. لكنها لم تكن موقوتة ترفض
التأجيل، غير أن توغل يزيد في الإعراض والدماء والأموال، والمشاكل
التي تواترت من كل اتجاه لتترسب على قلب الحسين حتى بلغت أكثر من
عدد اللحظات، هي التي جعلت تحدو بالثورة إلى الإمام، وتطوي أمامها
المراحل والعقبات، حتى إذا انصهرت الآمال والآلام في إرادة الحسين،
وتجمعت إرادة الأمة في تفكير الحسين، فأصبحت قضية وثورة، رأى
الإمام أن يخوض معركة كان يعلم منذ اللحظة الأولى أنه يخسرها حتى
الأبد، لكنه كان يعلم أن الإسلام يربحها حتى الأبد، فأكد علمه
بمصير الثورة قائلا:
(خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة..وكأني
بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء).
فلسفة وحتمية
رضي الإمام الحسين (ع) أن يموت شهيدا كما عاش شهيدا، أحب الموت،
كما أحب أعداؤه الحياة، فقال: (ما أولهني إلى إسلافي اشتياق يعقوب
الى يوسف والله إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين
إلا برما).
السيف الذي ضرب خراطيم الخلق، حتى قالوا: (لا إله إلا الله) لم
يكن ليهاب الذين انقلبوا على إعقابهم، لينخروا في كيان المسلمين،
كان السيف وحامله تلبية لنداء الله و:
1ـ ثورة المظلومين على الظالمين، ثورة الحق على الباطل، ثورة
النور على الظلام، ثورة الإسلام على الارتداد.
2ـ ثورة حكيمة جبارة استهلكت عددا يسيرا من الرجال، لكنها مرغت
في الوحول جباه المردة الطواغيت، وعبدت طريق الثورة للمظلومين،
ورسمت خطواتها ومناهجها، بدقة وحذق وإتقان، فاقتبست منها الثورات،
وتخرج عليها الثوار.
3ـ ثورة جامعة حلقت بالمفاهيم الثورية، إلى ابعد المستويات،
وحفلت بجميع معاني التضحية والشمم والإباء وكان عطاؤها غنيا حرا
يمنح بلا بخل أو نفاذ، رغم إفلاسها المادي، وضحولتها البشرية في
موازين الأرقام.
4ـ كانت مثالية جريئة فالحسين (ع) لم يكن مظلوما قبل ثورته،
بمقدار ما رضي أن يكون مظلوما بثورته وبمقدار ما رضي أن يكون
مطاردا من اجلها لتحرير مفاهيمه وأهدافه من الطامعين المنحرفين،
وكانت جماهيرية مبدئية تتجاهل جميع الخصوصيات الفردية فلم تترك
عذرا للمبطئين الجبناء.
5ـ ثورة الإمام الحسين تمثل إرادة الجماهير المستضعفة ، التي
تستسلم للعذاب طويلا ، لتسددها ضربة قاضية إلى أعدائها في الصميم،
بحيث لا تخطأ ولا تلين.
6ـ يزيد لم يكن الرجل الذي يجعله الله خليفته، أو يتقبله الناس
رئيسا، لم تتوفر فيه مؤهلات الخليفة أو الرئيس ، وإنما كان رجلا
مكنه السيف من رقاب الناس، فكان استقراره على العرش دليلا على تمكن
الفردية الرعناء من المجتمع.
كان الحسين ذلك الرجل الذي جعله الله خليفة، وتقبله الناس
رئيسا، توفرت فيه مؤهلات الخليفة والرئيس، ولكن السيف فصله عن
القيادة والاجتماع، فكان استشهاده دليلا على انحسار آخر القيم
الإسلامية والإنسانية عن المجتمع.
7ـ لئن قتل الحسين وكثر أصحاب يزيد، ذلك دليل آخر على صدق
الحسين (ع) وكذب يزيد، لأن العظماء قليلون، والتافهين كثيرون، وما
فرزت جبهة الحق عن جبهة الباطل إلا وتحيز أكثر الناس للباطل واقلهم
للحق، لقد صدق الحسين يوم قال: (الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على
ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلَّ الديانون)،
لكن أكثر الناس لا يشعرون.
8ـ لئن أدرك يزيد ثأر بدر في الحسين عندما اصطدم بالقوات
الأموية يوم عاشوراء، واستخف الزهو بيزيد حتى انشد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القوم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
وهذا دليل على أن الحسين (ع) كان يمثل الإسلام، بينما كان يزيد
يمثل الكفر.
وما ضر الحسين أن يخسر حياة الدنيا، وهو يرى ما عند الله خيرا
وأبقى، وقد قال الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
أموات، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله،
ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم
يحزنون). |