شبكة النبأ: لا يخفى على أحد من
المسلمين ما للأمام الحسين (عليه السلام) من منزلة عظيمة، مستمدة
من منزلة الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وقد دلت
الروايات والأحاديث الشريفة على مدى تعلق النبي (صلى الله عليه
واله وسلم) بابن بنته (عليه السلام) وتأكيده (صلى الله عليه واله
وسلم) المستمر على أن الحسين (عليه السلام) امتداد طبيعي لشخصه
الكريم فقد تجسد ذلك فيما تواتر عنه (صلى الله عليه واله وسلم)
كقوله: (حسين مني وأنا من حسين) وقوله: (أحب الله من أحب حسينا)
وقوله: (الحسين سبط من الأسباط) فأن المعنى المتبادر من التعبير:
(مني وأنا منه) يفيد شمولية الامتداد لعموم الصفات بين الشخصيتين
المقدستين، ما عدا النبوة، فكان من الطبيعي ان يكون لمقتل سبط
النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بالطريقة التي قتل بها، وذلك
الوقع المؤلم في نفوس المسلمين، فأن ما روي في كتب التاريخ والحديث
والسير يشير الى عمق الفاجعة، وشدة الحزن الذي أصاب المسلمين
باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) الى درجة تجاوز حدود الزمان
والمكان.
وكان للشعر حضور واضح في وصف أجزاء تلك المأساة لما له من تأثير
في النفوس، ويبدو ذلك واضحاً خاصة في شهر محرم، فقد لهج الشعراء
بذكر الحسين (عليه السلام) على مدى التاريخ الإسلامي فلا تجد حقبة
من الحقب ليس فيها ذكر ليوم الطف وأحداثه المأساوية فخزن الشاعر
يتجدد بتجدد ذكرى كربلاء (فما تجد مسلماً إلا وتجيش نفسه لذلك الدم
المهدور وكأنه هو الموتور، أجل فلا تختص بذلك فئة دون فئة ولا
طائفة دون طائفة) (1).
فالمأتم والمراثي تقام في كل أرض تطؤها أقدام المسلمين وحتى في
أبعد أصقاع العالم ففي الأندلس يصف لسان الدين بن الخطيب في كتابه
(إعلام أعلام) كيفية أقامة المأتم والمراثي في شهر محرم وصفاً
مفصلاً دلت على عمق الحزن والأسى على الإمام الحسين وشدة تعلق
المسلمين بسبط النبي وتجديد ذاكرة الأليمة كما ينقل نموذجاً لهذه
المراثي ومدى عناية الشعراء بهذه الفاجعة والنموذج هو واحد من
شعراء الأندلس أشتهر برثائياته الحسينية وهو أبو البحر صفوان بن
إدريس بن إبراهيم النجيبي المرسي (561 - 598ه) ثم يذكر واحدة من
رثائياته التي يقول فيها:
سلام كأزهار الربى يتنسم على منزلة الهدى يتعلم
على مصرع للفاطميين غيبت لا وجههم فيه بدور وأنجم
على مشهد لو كنت حاضر أهله لعاينت أعضاء النبي تقسم
على كربلاء لا أخلف الغيث كربلا وإلا فأن الدمع أندى وأكرم
مصارع ضجت يثرب لمصابها وناح عليهن الحطيم وزمزم
ومكة والأستار والركن والصفا وموقف حج والمقام المعظم
يتجلى في هذه الأبيات التي ابتدأ بها الشاعر قصيدته صدق العاطفة
والتحسر واللوعة والأسى بادً فيها وهي سمات استندت الى ملامح
عقائدية تمثلت في بكاء الموجودات على الحسين (عليه السلام) وبلغت
شدة الحزن الى درجة تجاوزت حدود البشرية لتشمل ابرز مقدسات
المسلمين في مكة وردت روايات تاريخية حول ذلك فقد روي أن الجدران
- بعد مصرع الإمام الحسين (عليه السلام) - كأنما تلطخ بالدماء
ساعة تلطع الشمس (2)وأن السماء والأرض والجن والملائكة كانت تبكي
على الإمام الشهيد(3) وانه ما رفع حجر إلا وجد تحته دم عبيط (4)
وقد استوحى الشاعر هذه الروايات التاريخية لخلق صور مليئة
بالإيحاءات والدلالات وتجلى ذلك في بيتيه الأخيرين ويواصل الشاعر
قصيدته:
لو أن رسول الله يحيى بعيدهم رأى أبن زياد أمه كيف تعقم
وأقبلت الزهراء قدس تربها تنادي اباها والمدامع تسجم
تقول: أبي هم غادروا أبني نهبة كما صاغة قيس ومامج أرقم
وهم قطعوا رأس الحسين بكربلا كأنهم قد أحسنوا حين أجرموا
فخذ منهم ثأري وسكن جوانحاً وأجفان عين تستطير وتسجم
أبي وأنتصر للسبط وأذكر مصابه وغلته والنهر ريان مفعم
الشاعر هنا تكلم بلسان حال الزهراء (عليه السلام) وهي تخاطب
أباها (صلى الله عليه واله وسلم) بدموع حرى وتصف له حال ابنها
الحسين وما جرى له في كربلاء وتمثل هذه الأبيات امتدادا للصور
الموروثة في مراثي الحسين (عليه السلام) الى حد بعيد أبيات دعبل من
قصيدته التائية الشهيرة:
أفاطم لو خلت الحسين جدلاً وقد مات عطشاناً بشط فرات
أذاً للطمت الخد فاطم عنده وأجريت دمع العين بالوجنات
لكن شاعر هنا قد أضاف إليها صوراً أخرى من مأساة الطف بقدر
أجادته في تقديم الصورة المفجعة لمراثي الإمام الحسين وفي ختام
القصيدة يقول:
فيا أيها المغرور والله غاضب لبنت رسول الله أين تيمم؟
ألا طرب يقلى ألا حزن يصطفى ألا أدمع تجري ألا قلب يضرم
قفوا ساعدونا بالدموع فأنها لتصغر في حق الحسين ويعظم
ومهما سمعتم في الحسين مراثياً تعبر عن محض الأسى وتترجم
فمدوا أكفاً مسعدين بدعوة وصلوا على جد الحسين وسلموا
في البيت الاول يذم الشاعر قتله الإمام الحسين (عليه السلام)
ويؤكد على غضب الله عليهم لأنهم لم يراعوا حرمة رسول الله في ذريته
ثم عبرت خاتمته للقصيدة عن عميق حزنه وتفجعه على الإمام الحسين
(عليه السلام) إضافة الى إيمانه بمنزلة الحسين ووجاهته عند الله
بالإشارة الى الصلة، بين النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وسبطه
الإمام الحسين (عليه السلام) وقد عرف هذا الشاعر برثائياته
الحسينية الكثيرة فقد (قصر أمداحه على أهل البيت (عليه السلام)
وأكثر من تأبين الحسين (عليه السلام) (5) و إضافة إلى صفوان فقد
أشتهر من الشعراء من الشعراء في الأندلس برثاء الحسين في النصف
الأول من القرن السابع الهجري القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد
الله القضاعي البلنسي الملقب ب (ابن الآباد) والمقتول في 20 محرم
658ه والذي ألف كتابين في رثاء الحسين هما: (اللجين في رثاء
الحسين) و (درر السمط في أخبار السبط) والكتاب الثاني ذكره
المقري في كتابه (نفخ الصليب في غصن الأندلس الرطيب) وقد ذكر
الدكتور عبد اللطيف السعداني أن: (المقري أغفل نقل بعض الفقرات من
الكتاب مما يشم منه رائحة التشيع ثم أنه اكتفى بنقل جزء من الباقي
فقط) (6).
ومن شعراء الأندلس الذين اشتهروا برثاء الحسين (عليه السلام)
أبو البقاء الرندي صاحب المرثية الأندلسية الشهيرة:
لكل شيء أذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
والتي تقع في أثنين وأربعين بيتاً وهي من عيون الشعر العربي وقد
وصف ابو جعفر أبن الزبير في (صلة الصلة) مشاعرنا فقال: (شاعر مجيد
في المدح والغزل وغير ذلك وعنده مشاركة في الحساب والفرائض ونظم في
ذلك وله تواليف أدبية وقصائد زهديه. . الخ) ولكن شاعرنا أشتهر
بالرثاء أكثر من باقي أغراض الشعر حتى عد (شاعر رثاء الأندلس) ومن
رثائياته الحسينية يقول:
أبيت فلا يساعدني عزاء إذا ذكر الحسين وكربلاء
فخل الوجد يفعل ما يشاء لمثل اليوم يدخر البكاء
عفا من آل فاطمة الحواء
بعينك يا رسول الله ما بي دموعي في انهمال وانسكاب
وقلبي في أنتهاب والتهاب على دار مكرمة الجناب
عفتها الريح بعدك والسماء
بكيت منازل الصبر السؤاة بمكة والمدينة والفرات
معالم للعلا والمكرمات عفت أثارها وكذاك يأتي
على آثار من ذهب العفاء
وقد اشتملت المرثية الحسينية الأندلسية على عدة وظائف أهمها
الحزن لما أصاب الحسين(ع) في كربلاء ووصف شجاعته وبأسه وصلابته
وتضحيته في الدفاع علن الإسلام وصلته القريبة من رسول الله (صلى
الله عليه واله وسلم) فأكد الشاعر على هذه الصلة تعبيراً عن ولائه
الصادق لأهل البيت النبي (صلى الله عليه واله وسلم) والبراءة من
أعدائهم كما جاءت هذه المراثي جزءاً من موضوع يشتمل على أحداث الطف
وما جرى على أهل بيت النبي في كربلاء مثلما كانت دليلاً على بقاء
الذكرى الحسينية الخالدة حية في ضمائر الأجيال والشعراء في كل
العصور.
يقول محمد بن جابر الهواري الأندلسي من قصيدة طويلة في مدح أهل
البيت (عليه السلام):
وكان الحسين الصارم الحازم الذي متى يقصر الأبطال في
الحرب يشدد
شبيه رسول الله في البأس والندى وخير شهيد ذاق طعم
المهند
لمصرعة تبكي العيون وحقها فلله من جرم وعظم تمرد
فبعداً وسحقاً لليزيد وشمرة ومن سار مسرى ذلك
المقصد الردى
لقد وظف الشاعر في هذه الأبيات عدة صور وصفية لم تعتمد على
الخيال ولكنها اكتسبت تأثيرها من خلال تركيز الشاعر على النبرة
الرثائية الحزينة، ففي البيت الأول يصف الشاعر الإمام الحسين (عليه
السلام) بالصارم لشجاعته وبأسه ثم يشير إلى الصفات المشتركة بين
الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وسبطه الإمام الحسين
(عليه السلام) في أشارة إلى عمق الفاجعة ثم يذكر مصرعه المؤلم الذي
أوجب لعن يزيد والشمر وكل من حذا حذوهما في إلحاق الأذى بعترة
المصطفى (صلى الله عليه واله وسلم) وهناك محور آخر أكدته المراثي
الحسينية الأندلسية يتعلق بالسبايا من نساء الحسين ونساء أهل بيته
وخاصة السيدة الحوراء زينب بنت علي بطلة كربلاء فقد كانت جزءاً
مهما من مأساة الطف يقول أبو القاسم محمد بن هاني الأردي الأندلسي
320 - 362.
إلا أن يوماً هاشمياً أظلهم يطير فراش الهام عن كل مجثم
كيوم يزيد والسبايا طريدة على كل موار البلاط عثمثم
وقد غصت البيداء بالعيس فوقها كرائم أبناء النبي المكرم
ويقول أبو عبد الله محمد بن مسعود الغافقي المعروف بابن أبي
الخصال (465 - 540)
أتنتهب الأيام فلذة أحمد وأفلاذ من عاداهم تتودد
أيضحى ويظمى أحمد وبناته وبنت زياد ورد هالا يصرد
وما الدين إلا دين جدهم الذي به أصدروا في العالمين وأوردوا
كما تناول الشعراء الأندلسيون المواقف الخالدة لأصحاب الحسين
(عليه السلام) فقد أستمد هؤلاء الشعراء مقومات الإشادة بأولئك
الأبطال مما روي عن الأمام الحسين (عليه السلام) حينما خاطب أصحابه
قائلاً (أني لا أعلم أصحابا أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت
أبر وأوصل من أهل بيتي فجزآكم الله عني جميعاً خيراً) فقد تجسد في
هؤلاء الأبطال الموقف المبدئي العالي والإخلاص للعقيدة حينما صمموا
على القتال الى جنب الحسين على الرغم من أنه (عليه السلام) خيرهم
بين البقاء متعه أو تركه أن شاءوا فما كان منهم إلا التفاني في
الموت دون أبن بنت رسول الله فهؤلاء الرجال (موفوراً الإيمان على
أتم الاستعداد لبلوغ أعلى ما يشهده المؤمن الكامل اليقين) (7)
يقول أبن أبي الخصال:
عرج على الطف أن فاتتك مكرمة وأذر الدموع بها سحاً
وهتاناً
وأبك الحسين ومن وافى منيته في كربلاء مضوا مثنى
ووحدانا
يا ليت شعري أني جريح الطف دونهم أهين نفساً تفيد العز من
هانا
وتتعدد المحاور والموضوعات ويستمر الشعراء في الاستلهام من
أحداث الطف ودروسه العظيمة التي جسدها سيد الشهداء وأهل بيته وصحبه
ولتبقى القضية الحسينية خالدة في ضمير الزمن متجددة في تعاقب
الأجيال والحقب وهي تردي أنصع صفحات التاريخ البشري وأكثرها
إشراقاً صفحة الخلود التي كتبها سيد الشهداء بدمه الطاهر.
..........................................
الهوامش:
1 - عبد الحسيب طه / أدب الشيعة
2 - تاريخ الطبري ج 2 ص 448 والكامل في التاريخ
ج 4 ص 90
3 - الصواعق المحرقة ج 2 ص 568
4 - مختصر تاريخ دمشق: 7/ 149 والصواعق المحرقة
2/ 568
5 - المضمون في تاريخ الأدب العربي / عمر خروخ
6 - مجلة الهادي العدد 3 ص 1392مقال تحت عنوان
(حركات التشيع في المغرب ومظاهرة
7 - الدافع الذاتية لأنصار الحسين 26 - 27محمد
علي عابدين
المصادر إضافة إلى الهوامش
8 - تراجيد يا كربلاء - إبراهيم الحيدري
9 - تاريخ النياحة على الإمام الشهيد الحسين بن
علي / صالح الشهرستاني ج 1
10 - المدائح النبوية في الشعر الأندلسي /
فاطمة عمراني
11 - مجلة العربي تموز 1973. |