تمهيد
يعتقد البعض أن إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين في كربلاء،
وفي كل عام يدخل في إطار اجترار لواقع التفرقة والتباعد بل
والتناحر في بعض الأحيان الذي عاشته الأمة الإسلامية.
بينما يرى من يحيي هذه الذكرى أنها مناسبة للتقارب والعودة إلى
منهج الإسلام الأصيل الداعي إلى نبذ الظلم وإقامة العدل وإحقاق
الحق، وإبطال الباطل.
ومن الواضح أن القيم التي جاهد من أجلها الحسين وضحى بكل
مايملك من أجلها، تمثل جوهر الدين الإسلامي الأصيل وهي محل وفاق
بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم الفكرية والثقافية
والسياسية، بل هي محل وفاق عند غيرهم أيضا، وخصوصا أتباع الديانات
السماوية.
ولذا فإننا نقول وبضرس قاطع: إن راية ترتفع لإحياء هذه القيم
المتفق عليها تأخذ بامتياز عوامل بناء التقارب وتهدم الفواصل فتقرب
المتباعدين وتؤلف المتنافرين وتجمع المتفرقين.
الوحدة أم التقريب
يحمل مفهوم الوحدة بالمعنى الدقيق إنكارا لحقيقة قائمة، وهي أن
الوحدة تتنافى مع التنوع أصالة ووقوعا، لذا يمكن القول أنها غير
ممكنة، بل وليست مطلوبة، لأنها تفرض الجمود المميت للتقدم والتطور.
لذا يمكن القول أن الأنسب من ذلك هو مفهوم التقريب وهو الأقدر
على تجاوز الخلافات ووأد الصراعات مع الاحتفاظ بالخصوصية لكل طرف،
وبالتالي فهو قادر على الوفاء بجدلية الذات والآخر.
وربما يشكل عليه بأنه قد تجاوزه الواقع، فالعالم الذي نعيش فيه
دخل في عمليات تقريب واسعة لم تتجاوز المذاهب الإسلامية وإنما
تجاوزت أتباع الأديان السماوية جميعا وهي تطمح لصياغة عالمية في
مفردات كثيرة على رأسها الفكر والثقافة.
وهذا وإن صح إخبارا إلا أنه غير ممكن وقوعا، وهو نمط من أنماط
الاندماج وإلغاء الخصوصية ولكن على مستوى العالم، مع العلم أن
أربابه لايصرحون بذلك ولكن يعرف من سلوكهم.
الخلاف المذهبي
انطلاقا من مفهوم التقريب يمكن الحفاظ على مبدأ الاختلاف ونبذ
التهم والضغوطات المتبادلة بين أتباع المذاهب، وبدلا منها ينبغي
إحياء النقد والحوار الهادئ والهادف للوصول إلى الحق والحكمة لأنها
ضالة المؤمن.
وفي هذا الإطار فإنه يلاحظ على كثير من دعوات التقريب والوحدة
تجميدا للخلاف تحت ذريعة الأخطار المحدقة بالأمة الإسلامية.
وعملية التجميد هذه عادة لا تصمد في واقع كثيرا ما يتفاعل
طائفيا ومذهبيا بأحداثه ورموزه، لذا فإن الأنسب هو إحياء لساحة
الحوار مع احترام ماتوصل إليه كل طرف من قناعات مستندة إلى دليل
معتمد عنده على وفق مبانيه.
وينبغي أن يتسم الحوار بالوضوح والشفافية وبعيدا عن التعصب
والضغوط وأروقة الساسة.فعدم الوضوح يضيف إلى المشكلات القائمة
مشاكل جديدة أيسرها النفاق الاجتماعي والسياسي.
والتعصب يورث الضغائن والأحقاد، والخضوع للضغوط وهوى الساسة جر
الكثير من الويلات على أبناء الأمة.
ملف عاشوراء
لعل من أيسر الملفات المدرجة في قائمة الخلاف المذهبي هو ملف
عاشوراء، فالشيعة يحيون ذكرى هذه الواقعة في كل عام ولهم طقوسهم
وأساليبهم الخاصة في إحيائها، ويستندون في كل ذلك إلى حجة شرعية
معتبرة لديهم.
بينما يقف الأغلب من أهل السنة موقف اللامبالاة وكأن الإمام
الحسين ابن بنت رسول الله هو ملك لطائفة خاصة من الناس، وربما وقف
البعض منهم موقفا متشنجا من إحياء هذه المناسبة ويشكل على ما
يرافقها من الطعن على من أمر بقتل الحسين وسبي نسائه، ومن شارك في
ارتكاب هذه الجريمة النكراء، أو على بعض الممارسات التي لا تتفق
حجتها مع مبانيه الخاصة.
ونحن هنا في هذه العجالة لا نريد الدخول في تفاصيل هذه
الممارسات، بل من الخطأ الولوج فيها، وبدلا عنه علينا أن نتفق على
أصول هذه القضية، فالاتفاق على كبرياتها يدفع الجميع إلى احترام
صغرياتها.
وكبريات إحياء ذكرى عاشوراء تجتمع في العناصر الآتية:
1. العنصر العقائدي
فالشيعة يعتقدون أن الحسين بن علي بن أبي طالب هو الإمام
الثالث المنصوص عليه من قبل الله عز وجل، وهو معصوم كما جميع
الأنبياء والمرسلين.
وهو غني عن التعريف فما روي في فضله عن رسول الله أشهر من
يبين، ومما روي: قوله : حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب
حسينا، حسين سبط من الأسباط.
بينما يكتفي أهل السنة بتبجيله وتقديره واحترامه باعتباره سبط
النبي، وقد روو في فضله الكثير من الروايات.
فيلتقي الطرفان في أن كل واحد منهما يقدر هذه الشخصية ويجلها
ويحترمها.
2. الممارسات في الذكرى
وهذه تعتبر من فروع الفقه فكما الاختلاف الموجود في تفاصيل
الصلاة والصيام كذلك في هذه الممارسات، وهذا يعود إلى الاختلاف في
تفاصيل مصادر التشريع وطرق فهمها ومناهج الاجتهاد فيها.
وهذا مما لا ينبغي الخوض فيه، لأنه لا يمكن لأحد أن يلغي
المصادر التي يعتمدها غيره في عملية استنباط الحكم الشرعي ويراها
الطريق الصحيح الموصل إليه.
3. قيم الدين
حيث يعتقد الشيعة أن الإمام الحسين ثار في وجه يزيد إحياء للدين
وقيمه، وقد قتل مظلوما.وهذا مما لا يرتاب فيه ذو بصيرة، والتاريخ
واضح في نقل ذلك، وشواهده بينة لا غبار عليها.
4. البيت الأموي
حيث ينتمي إليه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وهو ثاني خلفاء
هذا البيت، وهذه العائلة ذات تاريخ مشاكس ومعاند للرسالة منذ
قيامها، حتى أنزل الله سبحانه ذما لها في كتابه العزيز، فقال
سبحانه ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ
فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ﴾
سورة الإسراء، آية 60.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في كتاب الدلائل، وابن
عساكر عن سعيد بن المسيب؛ قال: رأى رسول الله بني أمية على
المنابر، فساءه ذلك.
وقال الفخر الرازي: وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وأخرج ابن
أبي حاتم عن يعلى بن مرة، قال: قال رسول الله : أريت بني أمية على
منابر الأرض، وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتم رسول الله
لذلك، فأنزل الله ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا...﴾.
هذا بالنسبة للعائلة، أما بالنسبة إلى يزيد فقد قال عنه ابنه
معاوية بن يزيد: نازع ابن بنت رسول الله فقصف عمره وانبتر عقبه
وصار في قبره رهينا بذنوبه، إن من أعظم الأمور علينا، علمنا بسوء
مصرعه وبئس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله وأباح الخمر، وخرب
الكعبة.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الرد على المتعصب العنيد
المانع من ذم يزيد، عن القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء،
إذ روى في كتابه المعتمد في الأصول بإسناده عن صالح بن أحمد، قال:
قلت لأبي: إن قوما ينسبوننا إلى توالي يزيد. فقال: يا بني! وهل
يتوالى يزيد أحد يؤمن بالله؟! فقلت: لم لا تلعنه؟! فقال: ومتى
رأيتني ألعن شيئا؟! لم لا يلعن من لعنه الله في كتابه؟! فقلت: وأين
لعن الله يزيد في كتابه؟! فقرأ ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن
تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ﴾.
وقال الإمام أحمد: وأي قطيعة أفظع من قطيعته في ابن بنته
الزهراء - كما حكاه الشبراوي في كتاب الإتحاف بحب الأشراف.
وقال سبط ابن الجوزي وغيره: المشهور أنه لما جاءه رأس الحسين
جمع أهل الشام وجعل ينكت رأسه بالخيزران، وينشد أبيات ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلــوا واستهلوا فــرحا
ثم قالـــوا: يا يزيد لا تشـل
قد جزيناهم ببدر بعــدما
قــوم القتل بقتل فاعتـــدل
لست للشيخين إن لم أنتقم
مــن بني أحمــد ما كان فعل
إن يكن أحمد حقا مرسلا
لم يكــن عــترته الله خــذل
وقال أبو الفرج ابن الجوزي - في ما حكاه سبطه عنه: ليس العجب من
قتال ابن زياد للحسين ، وإنما العجب من خذلان يزيد وضربه بالقضيب
ثنايا الحسين ، وحمله آل رسول الله سبايا على أقتاب الجمال، وذكر
أشياء من قبيح ما اشتهر عنه، ثم قال: وما كان المقصود إلا الفضيحة
وإظهار الرأس، فيجوز أن يفعل هذا بالخوارج؟ والبغاة يكفنون ويصلى
عليهم ويدفنون، ولو لم يكن في قلبه أحقاد جاهلية وأضغان بدرية
لاحترم الرأس لما وصل إليه وكفنه ودفنه وأحسن إلى آل رسول الله.
وقال الشيخ الشبراوي الشافعي في كتاب الإتحاف: لا ريب أن الله
سبحانه قضى على يزيد بالشقاء، فقد تعرض لآل البيت الشريف بالأذى،
فأرسل جنده لقتل الحسين، وقتله وسبى حريمه وأولاده وهم أكرم أهل
الأرض حينئذ على الله سبحانه.
وروي عن نوفل بن أبي عقرب أنه قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز،
فذكر رجل يزيد بن معاوية فقال: أمير المؤمنين يزيد، فقال له عمر:
تقول: أمير المؤمنين؟ ! ! ! فأمر به فضرب عشرين سوطا.
وذكر أبو المحاسن جمال الدين ابن تغري بردى الحنفي: أنه أخذت
فتاوى الفقهاء بتعزير أحمد بن إسماعيل بن يوسف أبي الخير القزويني
الشافعي إذ قال على منبر النظامية يوم عاشوراء: يزيد إمام مجتهد،
ثم أخـرج من بغداد إلى قزوين.
والخلاصة
يجمع المعظم من أئمة الدين وعلماء المسلمين على فساد الحكم
الأموي واستعماله العنف والقوة والبطش في تثبيت أركانه، ولم يتجرأ
أحد عن الدفاع عن فساد هذا الحكم وظلم خلفائه إلا الشاذ النادر.
عناصر التقريب في عاشوراء
1. الإمام الحسين ليس حكرا على فئة، وليس ملكا لمجموعة أو
مذهب، وهو علم من أعلام الدين وإمام من أئمة المسلمين، وقد روى
المسلمون جميعا في حقه الكثير مما يوجب احترامه وتقديره وإتباعه.
2. قضية عاشوراء ليست قضية شخصية، وقعت بين متنازعين، وليست
حادثة عادية وقعت في مهملات الزمان والمكان، بل هي قضية كبيرة يعرف
حجمها وثقلها من حجم وثقل المبادئ والقيم والأهداف التي حملتها،
ونظرا لاتحاد عناصرها مع كل الرسالات والنبوءات في التاريخ وصف أهل
البيت شهيدها، بأنه وارث الأنبياء والمرسلين جميعا؛ آدم ونوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ويعضد هذا القول ماروي عن النبي
أنه من حسين.
وهذه القضية هي أيضا ليست ملكا لمذهب معين أو فئة معينة بل هي
لكل من انتمى لهذا الدين وآمن بشريعة سيد المرسلين، وإن شئت فقل هي
للبشرية جميعا.
لذا ينبغي التفكير الجاد في بنود هذه القضية للوصول إلى التفاعل
الإيجابي، وتجاوز حالة الحيادية التي يتعاطى بها بعض المسلمين،
والاحتكار الضيق للمناسبة من قبل الشيعة إن صح ذلك عنهم.
وهذا يتطلب جهدا فكريا وشعبيا من العلماء والفقهاء والمثقفين
وأعيان المجتمع حتى نتمكن من إذابة الجليد المتراكم، فنخرج من واقع
الحيادية السلبية والاحتكار إن وجد. للوصول بها إلى حالة إسلامية
عامة. |