في كل عام، وعلى مرّ العصور، وحتى قيام الساعة، تتجدد ذكرى أبي
الأحرار وسيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه
السلام، ورضي الله تعالى عنه وأرضاه.
يعتبر شهر المحرم الحرام شهر العبرة والرجوع إلى الذات ومحاسبة
النفس أكثر من أن يكون شهرًا للحزن والتعزية والبكاء على قتل سبط
الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه
الميامين.
يقف المرء مذهولاً ومصدوماً من قسوة قلوب خلفاء بني أمية
وولاتهم وجنودهم في العراق حينما يتذكر أو يقرأ قضية الإمام الحسين
منذ خروجه من مكة باتجاه العراق، وإعلان ثورته على الظلم والفساد،
ومن ثَمّ استشهاده بتلك الطريقة الفجيعة في صحراء كربلاء.
أي إنسان غيور وصاحب ضمير حي لا يمكن أن يكون محايداً من تلك
الفجيعة الكبرى التي حدثت في تاريخ الإسلام، التي أثّرت في مسيرته.
فقد هزت تلك المصيبة الأمة الإسلامية، وأيقظت كثيرا من الضمائر،
فتولدت حركات الاحتجاج والمعارضة على الأنظمة الجائرة. وبعد مقتله
برز خلاف بين الشريحة الواسعة من الأمة التي نددت بالجريمة وطالبت
بالثأر، والقلة القليلة من النخب التي التزمت الصمت وقررت عدم
اتخاذ موقف تفادياً للفتنة حسب زعمها، وأما المنتفعون من البلاط
الأموي خصوصا الفقهاء والقضاة والولاة والعساكر الذين ساندوا
الطاغية يزيد بن معاوية، فبرروا قتل الإمام الحسين عليه السلام
بخروجه على خليفة المسلمين، وعدم تقديم فروض الولاء والطاعة له،
والرضوخ لإرادته.
لقد فضل الإمام الحسين عليه السلام الشهادة على العيش ذليلاً
تحت ظل حكم فاسد، وقاوم حتى الرمق الأخير، ولم يستسلم على رغم
مشاهدته لأجساد أبنائه وأهل بيته وأصحابه وهي مقطعة على رمضاء
كربلاء. يا ترى كيف كان حال الإمام حين حمل رضيعه الشهيد عبدالله
بعد أن أصيب بسهم وذبحه من الوريد إلى الوريد؟ كان الهدف من
استهداف الطفل الرضيع هو إرغام الإمام على الاستسلام، إلا أنه عليه
السلام أبى أن يرضخ للظلم، وقال كلمته الشهيرة: “إن كان دين محمد
لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خُذيني”.
يا ترى هل الأمة كانت بحاجة إلى يقظة ضمير؟ وإلام كان سيؤول
مصير الأمة لولا ثورة عاشوراء؟ وكيف أثّرت فلسفة الشهادة في
الإسلام على مسيرتها الخالدة؟ يذكر التاريخ أنّ راهباً مسيحياً
حينما شاهد رؤوس الشهداء مرفوعة على الرماح تتقدم قافلة أسارى أهل
بيت النبوة، وهم في طريقهم إلى الشام حيث مقرّ الطاغية يزيد، وقف
مصدوماً من ذلك المشهد الرهيب والمفجع، فلم يتمالك نفسه فصرخ في
وجه جنود الشام الذين كانوا يراقبون ويرافقون القافلة، قائلاً:
“ويحكم أتقتلون ابن نبيكم... والله ما فعلنا نحن بأهل بيت نبينا
كما فعلتم أنتم بأهل بيت نبيكم”.
يقظة ضمير الراهب جعلته يعلن إسلامه في محضر الشهداء والأسرى
المفجعين، وساند حركة الإمام الحسين وقيامه ضد الظلم. كان هذا أسرع
انعكاس لثورة الإمام الحسين على غير المسلمين، فكيف كانت تداعياتها
إذاً على مسيرة الأمة الإسلامية؟
الطاغية يزيد ومعه النخب المنتفعة من البلاط الأموي الذين
أسسوا أساس الظلم والجور عملوا على تحريف مسيرة الإسلام، ولولا
ثورة عاشوراء وما لحقتها من ثورات وانتفاضات ضد حكام الجور لكان
وضع الأمة أسوأ بكثير مما هي عليه.
لقد أراد الإمام الحسين من قيامه إحياء روح الإيثار والتضحية
والجهاد في الأمة، بعد أن تغلغل فيها روح الخنوع والانهزامية
والخمول. فقد ساهمت السياسات الماكرة والخادعة التي مارسها البلاط
الأموي في نشر ثقافة الصمت وعدم الخروج على الحاكم حتى وإن كان
ظالماً أو فاسدًا.
الحركة الجهادية التي قادها الإمام ساهمت في تصحيح كثير من
الاعوجاج الفكري والسياسي الذي أصاب الأمة، ولولا تلك الثورة لكان
الانحراف عن جادة الحق أكثر وضوحاً.
لقد شاءت إرادة الخالق أن تكون الأمة متيقظة، وفي مراحل مختلفة
سبب لها أسباب اليقظة، فكانت حادثة عاشوراء والدماء الزكية التي
أريقت ظلماً على أرض كربلاء إحدى الانعطافات المهمة في مسيرة
الأمة... السلام على الإمام الحسين يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم
يبعث حيا. |