الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ

ملف عاشوراء

 
عاشوراء الحسين 1431هـ
عاشوراء الحسين 1430هـ
 عاشوراء الحسين 1429هـ

  عاشوراء الحسين 1428هـ

  عاشوراء الحسين 1427هـ

  عاشوراء الحسين 1426هـ

  من نبض عاشوراء 1425هـ

  من نبض عاشوراء 1424هـ

  عاشوراء في ذاكرة النبأ

 صور عاشوراء

اتصل بنا

 

 

الشعائر بنظرة غربية

الشيخ ياسر الصالح-البحرين

" المواكب السيارة - وهي تناهز الاثنين والعشرين موكباً – كانت قد أصبحت جميعها الآن داخل أسوار المدينة القديمة، عادت الطبول تُقرع من جديد، والجموع ما انفكت تصرخ: ياحسين، ياحسين.. وهي تلطم بشدة على صدروها، الجوقة النحاسية تعزف بأصدح الأصوات المتاحة، وعند كل زاوية حيثما يسمح المجال يسترسل الوعاظ المحمديون في سرد الحكاية المأساوية لموت الشهداء، ما كان ممكنا التحرك إلا مع الحشود ذلك أن الطرقات بالكاد تبلغ العشرين قدماً عرضاً.. ودقات الطبول وصيحات: يا حسين يا حسين لا تزال تتردد.."

هذه مقتطفات من رواية باسم (على سور المدينة) والتي يعود تاريخ كتابتها إلى أكثر من مئة عام، وبالتحديد عام 1888م، ومكان الحدث هو مدينة لاهور الباكستانية، والحدث -كما هو واضح وجلي- عاشوراء الحسين، ولكن المهم في الموضوع هو كون كاتب هذه السطور رجل بعيد عن الثقافة الإسلامية، فهو ليس رجلاً هندياً، أو عربياً بل وليس حتى شيعياً، وإنما هو شاعر وروائي انكليزي حائز على جائزة نوبل للآداب (عام 1907م) واسمه روديارد كبلينغ "Rudyard Kipling" حضر العديد من مواسم عاشوراء إبان الاحتلال البريطاني للهند، وكتب عنها في الصحف والمجلات، ثم كتب روايته (على سور المدينة) والتي تشكلت فصولها من مشاهداته تلك.

لقد شكلت الشعائر الحسينية وثورة الإمام الحسين(ع) مادة للبحث العلمي لدى الكثير من الدارسين والباحثين منذ القدم، فقد وجدوا فيها مادة تستحق البحث والتنقيب، فعمدوا إلى البحث عن المعنى والدلالة والأسباب، فانطلقوا من توصيف المظاهر إلى الغور في عمق المعاني المتجلية من هذه الشعائر، وكثيراً ما رأينا كتباً ودراسات لمفكرين وباحثين بعيدين عن الإسلام وعن التشيع، ولكنهم تكلموا بلسان من يفهم هذه القضية ويعيش تجلياتها، ويعاين عمق معانيها.

وليس ذلك بالأمر الغريب فثورة الإمام الحسين(ع) ليست حكراً على فئة أو طائفة، وإنما هي ثورة عالمية انطلقت من مدينة كربلاء وامتدت على طول خط الزمان والمكان، ولعبت دوراً كبيراً ومؤثراً في الكثير من منعطفات التاريخ ومستجداته، وكان الحكام الظلمة يحسبون لها حسابات عديدة، ففي الهند يقول ديفيد بينولت David Pinault بروفسور مساعد في كلية الدراسات الدينية في جامعة سانتا كلارا –ولاية كاليفورنيا في كتابه الشيعة: "كنت تجد المجلات والصحف البريطانية تُعلن النفير العام، وتدق جرس الإنذار عشية ذكرى عاشوراء من كل عام، حيث كانت تتوقع حدوث خروقات للأمن الامبريالي.."

الأربعين المهيب.. والإعلان الصارخ:

شكلت زيارة الأربعين الأولى بعد سقوط النظام المقبور في العراق صدمة للعالم، حيث تسمّرت عيون الملاين في كل أرجاء المعمورة أمام شاشات التلفاز، وهي تشاهد جموع الزائرين الزاحفين إلى كربلاء، مولدة أسئلة كثيرة ظلت حائرة تبحث لها عن إجابات، بينما الملايين تواصل زحفها المقدس إلى مرقد الإمام الحسين (ع).

وبين العالم الشرقي والغربي فرق شاسع، ففي الوقت الذي انبرى فيه من كفر الشيعة وطعن في معتقداتهم، في تلك المناسبة وغيرها، ظهرت إلى الساحة مجموعة كبيرة من الدراسات والأبحاث والتي عمدت إلى تحليل ودراسة الوضع الشيعي، وبالتحديد معالم تلك الزيارة العظيمة، والشعائر الحسينية المصاحبة لها، وكانت تلك الكتب والدراسات سبباً لدخول الكثير من الناس إلى الإسلام المحمدي الأصيل، وهذا ما يبرر لنا انتهاج القنوات العربية سياسة منع تغطية مراسيم الأربعين في الأعوام التي تلت.

يقول ولي نصر vali nasr أستاذ سياسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا في دائرة الدراسات العليا التابعة للأكاديمية البحرية في أمريكا في كتابه صحوة الشيعة: "في ذلك الأربعين بالذات الذي جاء غداة اليوم المشهور الآخر، يوم اسقط رجال الماريننز الأميركيون، وعراقيون مبتهجون، تمثال صدام حسين المجوف في ساحة الفردوس ببغداد، صادف أن كنت في ضواحي لاهور.. وكان جهاز التلفاز مولفاً على محطة السي ان ان، حيث أن الجميع كانوا يتابعون الأخبار الاتية من العراق، فتحولت التغطية المتلفزة إلى نقل مشاهد لشبان شيعة يقفون مكتظين متراصين، في ظل القبة المذهبة لمقام الإمام الحسين في كربلاء، كانوا جميعاً يرتدون قمصاناً سوداء، ويعصبون رؤوسهم بأوشحة خضراء اللون؛ كانوا ينشدون مرثاة بالعربية لإمامهم المحبوب، وهم يرفعون أكفهم عالياً نحوالسماء، كما لوكانوا يصلّون ثم ينزلونها في تساوق وانسجام لتقرع صدورهم في حركة إيقاعية متواترة ملؤها التفجع والتضامن.. كانت للصورة جاذبية المغناطيس، لقد كان الشيعة يومها في الشوارع والطرقات، وكانوا يرفعون عقيدتهم وهويتهم عالياً كي يراهما الجميع، فجعلنا نبحلق في شاشات التلفاز...". ويعزي ولي نصر أحد أسباب دراسته للشيعة وكتابته كتاب "صحوة الشيعة" إلى المشاهد التي شاهدها ذلك اليوم.. حيث أنه وقف مذهولاً أمام الزحف المقدس للشيعة، وهم يتوجهون إلى كربلاء: " ما إن سُحق نظام حكم صدام حسين حتى انطلق عشرات الألوف من الإيرانيين، والعديد منهم نساء فقيرات ومسنات، ليس عليهن سوى "الشادور" الأسود يغطي رؤوسهن وأجسامهن، وصرر صغيرة من الطعام يحملنها في أيديهن، فعبروا الحدود الإيرانية – العراقية، قاطعين حقول الألغام، واتخذوا طريقهم عبر الأراضي المقفرة في جنوب العراق لزيارة مقام الإمام الحسين في كربلاء، الذي اقفله صدام في وجه الحجاج الإيرانيين لسنوات طويلة"

عالمية عاشوراء:

كان ذلك الأربعين البداية لسلسلة من الأبحاث أجراها الكاتب ولي نصر ليكتشف أن مراسيم إحياء عاشوراء ليست حكراً على أهل العراق، وإنما هي ممتدة على خطوط الطول والعرض في الكرة الأرضية: " وهذه الشعيرة عينها ستجري فصولاً إنما بشيء من التحوير المحلي في ذلك اليوم – أي عاشوراء - في مدينة لكنوا الهندية، وفي العاصمة الإيرانية طهران، وفي مدينة كربلاء العراقية، وفي البحرين الجزيرة الكائنة في الخليج العربي، وفي بلدة النبطية في جنوب لبنان، إن عاشوراء عمل من أعمال التدين".

ثم ينتقل ليصف بعض المشاهدات في مدينة لاهور في باكستان: " وفي الشوارع الفرعية الضيقة لمدينة لاهور القديمة ثمة نساء يجهشن بالبكاء، وسط جو مشحون بالترقب، ومن وراء المنعطف يترامى صوت ضربات إيقاعية، مصحوبة بالإنشاد العالي، وما هي إلا لحظات حتى تلوح للناظر الكتلة البشرية الهائلة للموكب، وهي عبارة عن صفوف طويلة من الرجال، يرتدون لباساً أسود بالكامل، ويسير كل أربعة منهم متكاتفين.. ويتقدم الجميع رجل عجوز أبيض اللحية، وهم في إثره يقرعون صدورهم بكلتا يديهم هاتفين بصوت واحد: يا حسين.. ويمضي الموكب في طريقه ولكن أصداء الصيحات والضربات الخافتة تظل تتردد عبر الجدران العتيقة للمدينة القديمة" أما في الهند فيقول: " كانت الفيلة تتقدم مواكب عاشوراء الملوكية في لكنوا إبان القرن الثامن عشر، وكانت الجموع ترفع مجسمات ضخمة تمثل أهم المزارات الشيعية في الهند والعراق على أكتافها لساعات طويلة، وإلى يومنا هذا لا يزال حمل تلك المجسمات يحتل مكانة بارزة في احتفالات عاشوراء في لكنو"

التشيع.. ذلك الإسلام المميز:

وهو في كتابه لا يكتفي بسرد المشاهد والمظاهر، وإنما يتعمق في دراسته، ويحاول فهم أبعاد القضية، ثم لا يخفي إعجابه بالإسلام الشيعي فيقول: " في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام من كل عام يُظهر الشيعة وجها مميزاً للإسلام، وجهاً يرى التعلق بالقيم الروحية في الانفعالات الوجدانية والطقوس، لا في الشرائع والعبادات المألوفة التي تتخلل حياة المسلمين.. حيث يقدم الشيعة فرادى وجماعات عرضاً مهيباً لتدينهم وهويتهم.." كما ولا يخفي ولي نصر عمق تأثير هذه الشعائر على الناس بمختلف أطيافهم وأجناسهم حينما يقول: "ولا أخال مشاهداً في ذلك اليوم المعروف بذكرى عاشوراء بمنجى من التأثر بعرض الشيعة الدال على مدى تعلقهم بمعتقداتهم، ولن تفوت أحد رؤية التفرد الذي يطبع الإسلام الشيعي ".

 ويقول في مكان آخر من كتابه صحوة الشيعة: " لا ريب في أن مشاهد عاشوراء وأصواتها تسبي العقول قبل القلوب، فهي شعيرة زاخرة بالرمزية، والعواطف الجياشة.. ذلك أنها تُعرّف بالشيعة، وتجدد ارتباطهم بمعتقدهم وبيئتهم"

رمزية الشعائر.. وعمق الدلالات:

المواكب الحسينية زاخرة بالرمزية، وتتنوع مظاهر عاشوراء بين علم وكف، وبين خيل أبيض وقُربة ماء، وهذه الرموز جعلت ولي نصر vali nasr يبحث عن دلالاتها محاولاً فهم الأبعاد التي تنطوي عليه مثل هذه المظاهر، فقد لفت انتباهه – على سبيل المثال – الكف المعدنية المعروفة بكف العباس، مما جعله يبحث عن معنى الكف، وعن قصة صاحبها: "يتقدم كل موكب ثلة من الشبان يحملون عُمداً معدنية طويلة، مزينة بشرائط رفيعة من القماش الأحمر والأخضر والأبيض، ترفرف وتفرقع مع هبوب النسيم، وقريباً من طرف العُمد؛ ثمة علم أسود مثلث الشكل، وفوقه رأساً ينهض شكل محفور بعناية لكفٍ بشرية نافرة.. ترمز الكف إلى العباس بن علي أخي الحسين، الذي قُطعت كفاه يوم كربلاء وهو يحاول جلب المياه من نهر الفرات قبل أن يُستشهد، وهذه الكف النافرة والراية السوداء علامة فارقة تجدها على بيوت الشيعة، ومساجدهم، وفي المواكب العاشورائية من الهند إلى الشرق الأوسط"

مظهر آخر لفت انتباه الكاتب وهو توزيع المياه في أيام عاشوراء في الطرقات والحسينيات: " يدور الصبية والفتيان عارضين الماء على جموع الحاضرين، وكل من يشرب منهم يبتهل بالدعاء للحسين الشهيد" واستطاع أن يفهم من خلال هذه الرمزية كيف أن الإمام الحسين(ع) قُتل عطشاناً بأرض كربلاء.

ويواصل ولي نصر تقصيه لرموز المواكب؛ فيتتبع رمزية الخيل الأبيض فيقول: "...يسير جواد أبيض غير مركوب، لكنه مجلل بسرج بديع الصنع، وقد شُكّت أرياش بيض رأسه المطأطئ، يستقطب الحصان جُلّ الانتباه، وسرجه الخاوي يُذكر المشاهدين بصاحبه الصريع الذي هو موضع تعظيم وتبجيل الجموع، ويتعقب الحصان عدد من النسوة آلائي يغطين رؤوسهن بالأوشحة، ويلطمن على صدورهن برفق صائحات: يا حسين.. "

كربلاء.. والعمق الشيعي

فهم الباحثون الغربيون أن الشعائر والمظاهر في القضية الحسينية لدى الشيعة ما هي إلا تعبير ظاهر عن فكر عميق مستوحى من ثورة الإمام الحسين (ع)، التي شكلت حدثاً بارزاً في التاريخ الإسلامي؛ يقول كامران سكوت Kamran Scot Aghaie البروفسور المساعد في جامعة تكساس في كتابه شهداء كربلاء: "بالنسبة إلى الشيعة يُشكل استشهاد الحسين حدثاً تأريخياً غير عادي، ونقطة تحول تاريخية، وتجليا ميتاتاريخيا ( أي بما يخرج عن نطاق التاريخ الواقعي) للحقيقة في آن معا"

أما فرنسوا تويال Francois Thual – مدير الدروس في المدرسة الحربية العليا للجيوش الفرنسية (أرض، جو، بحر) ومستشار رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي ومتخصص في الدراسات الإستراتيجية - فيرى مفاهيم الشهادة والعدالة واضحة وجلية لدى الشيعة فيقول في كتابه الشيعة في العالم: "إن أهمية مذبحة كربلاء لا تُقاس بمجرى الحدث: معركة صغيرة بين فريقين دامت يوماً واحداً، وأسفرت عن بضع عشرات القتلى، لكن موت الحسين حفيد النبي سيُتخذ رمزاً، ويصبح شعاراً في الإسلام، قوامه الصراع من أجل الخير والحق، والاستشهاد الضروري لكل مقاتل من أجل العدالة، وهكذا وُلدت لدى الشيعة لمدى أجيال العلاقة بين الاستشهاد والحقيقة، وبين الألم والعدالة".

وقد تعلّم الشيعة من ثورة الإمام الحسين(ع) رفض الباطل بكل أنواعه، ومواجهته مهما كلف الثمن؛ يقول عظيم نانجي Azim Nanji بروفيسور الدراسات الإسلامية ومدير معهد الدراسات الإسلامية في لندن في كتابه الإمام الحسين الدور النموذج: " بالنسبة إلى الشيعة كربلاء هي رمز الشقاء والعزاء، لكنها تجسد أيضاً معنى الرفض لتكبيل السلطة الإسلامية الحقة بالاعتبارات البراغماتية، والاستعداد حتى لتحدي السلطة غير الشرعية ليس فقط سلطة الخلفاء بل وسلطة أي حاكم لا يكون على مستواها "

ويبين ولي نصر المكانة التي يحتلها الإمام الحسين(ع) عند الشيعة وكيف أنه أصبح قدوة لهم في صفات كثيرة: " لم يغدُ الحسين نبراساً للتشيع الرامز لحقه في المطالبة بقيادة العالم الإسلامي فحسب؛ بل صار كذلك مثالاً حياً للشهامة والشجاعة في النهوض بالقضية العادلة، قضية الوقوف في وجه الطغيان" وهكذا فإن: " كربلاء عند السنة مجرد تاريخ، ولو أنها فصل قاتم من فصوله، لكنها عند الشيعة هي البداية، هي النواة الصلبة التي ينعقد حولها الإيمان ذاته، إن كربلاء تلخص مُثُل التشيع العليا، ألا وهي الإخلاص للائمة كأصل من أصول الدين، والالتزام بإحقاق الحق في وجه الظلم والاستبداد".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 23/كانون الاول/2009 - 6/محرم/1431

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م

[email protected]