الشعر حساسيةٌ مفرطة إتجاه العالم المحيط بنا,والشاعر هو الذات
المتسلحة بالرقة والحساسية كما يقول الشاعر الروسي - سيرجي يسنين
(1895م- 1925م)-(ماذا يعني أن تكون شاعراً.. إنها تعني فهما ً
للأمور بتعمق ٍ كامل وتسليحا ً لذاتك بالرقة والحساسية وأن يعيش
الناس في دمائك ويغتسلون في عروقك).
فالشعر معالجة لموضوعات إنسانية عبر الرؤى الثابته الغير
قابلة على الإندثار فهو عملية إنتزاع الأشياء من طابعها السكوني
الى ديناميكيتها المتفجرة،و تحويل المعاني الى رموز وجدانية، فالدم
مثلا ً ليس ذلك السائل الأحمر الي يجري في العروق بل هو رمز
للجريمة والتضحية معا ًوهكذا بقية الأشياء والموجودات,يقول الشاعر
الألماني ريلكه - ( 1875 م -1926م) - ((ليس الأشعار كما يقول الناس
ببساطة إنها مشاعر كلا إنها تجارب )) فالشعر يحمل أبعادا تتجاوز
الزمان والمكان لذا يكتب له الخلود فيما إذا إتصل بمفاهيم وحركة
إنسانية كبرى. فالشعراء يلتقون في هذه الحركة وإن إختلفت مشاربهم
ولكن الحالة الإنسانية تبقى هي القاسم المشترك الأهم, والهم الذي
يوحدهم فالعدالة والحق والثبات على المبدأ والتضحية من أجلها معاني
إنسانية تفجر مكنونات الحس الإنساني لدى الشعراء اين ما كانوا
وكيف ما كانوا، وهكذا يُشكل الشعر عاملا ً مهما من عوامل ترسيخ
مفاهيم الفكر في نفوس المجتمع، فهو تلك الأشواق الصاعدة من الأرض
الى السماء كما هي النبوة رحمات تنزل من السماء الى الأرض, فالشاعر
العراقي الكبير بدر شاكر السياب يقول (( ليس الشعر مجرد لغة محكمة
ومحض سيطرة على الأوزان والمفردات)) بل هو روحٌ منفعلة ومتفاعلة
وفاعلة بقضية ٍ ما تسيل على شكل مفردات, فحركة الإمام الحسين (ع)
إنسانية بحته, فليس الحسين قضية مذهبية ولا إسلامية بل هي قضية ٌ
مُجسِدة للمعاني الإنسانية لا تميز بين البشر، لذا إنفعل بها
الجميع سواء من إتفق أيديولوجيا ً مع الحسين أو لم يتفق، وسنستقرأ
نماذج مختلفة من الشعراء منهم العلماني كبدر شاكر السياب ونزار
قباني ومظفر النواب منهم الإسلامي كمصطفى جمال الدين والحلي
وغيرهم.
فللسياب محطة رائعةٌ مع الحسين وخطاب مهينٌ مع يزيد ففي قصيدته
(( خطاب الى يزيد أو الدمعة الخرساء)) يفجر السياب روحه غضباً على
رمز من رموز الرذيلة فيقول:
إرم السماءَ بنظرة إستهزاء واجعل شرابك مـن دم الاشلاءِ
وأسحق بظلك كـل عرض ناصع ٍ وأبـح لنعلك أعظـم الضعفاءِ
وأسدر بغِّيك يا يزيد فقد ثوى عنط الحسين مقطع
الأحشاءِ
ثم يعاتب شاعرنا المتخاذلين الذين يقفون موقف المتفرج حينما
تتغلب عليهم مشاعر الخوف والهلع من الحاكم الظالم فيقول:
والليل أظلم والقـطيع كـما ترى يرنـو اليـك بـأعيـن
بلـهاء
أحنى لسوطك شاحبات ظـهوره شأن الذليل ودب فـي استرخاءِ
لكن السياب وبحسه الشعري الإنساني المرهف يتأسى على أؤلئك الذين
تكون عاقبتهم الجحيم فهو يستلهم الحسين مشاعراً فالحسين كان يقول
ويبكي وهو ينظر الى جيش يزيد ( أبكي على هؤلاء القوم سيدخلون
النار بسببي) فيقول شاعرنا ليزيد :
حيران في قـعرِ الجحـيمِ معلق ما بيـن ألسنـة اللظى
الحمراءِ
أبصـرتُ ظلك يـا يـزيد يرجه موجُ اللهـيبِ وعاصفُ
الانواءِ
رأس تكـلل بالخنا واعتاض عن ذاك النضـار بحـية
رقـطاءِ
ويـدان مـوثقتان بالـسوط الذي قد كان يعـبث أمـس
بالاحياءِ
ثم يَعود السياب ليستلهم أجواء القضية الإنسانية لحركة الإمام
الحسين (ع) في قصيدته هذه ويلتقي معها, ويضارع قول السيدة زينب (ع)
ليزيد (( فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا وما جمعك إلا بدد
وأيامك إلا عدد وجندك إلا فند )) فيخاطب يزيد بأعتباره رمزاً من
رموز الاستبداد والظلم والاضطهاد الإنساني لا باعتباره الشخصي.
قم وأسمع أسمك وهو يغدو سبة ً وأنظر لمجدك فهو محضُ هباءِ
وأنظر الى الأجيال يأخذ ُمقبل ٌ عن ذاهب ٍ ذكرى أبي
الشـهداء
كالمشعلِ الوهاج - إلا أنـــــها نــــور الأله يجل
عن إطفـــــاء ِ
ثم يصل الى الثيمة الإنسانية لحركة الحسين التي تلتقي معها كل
الأرواح المُحبةُ للحريةِ والتواقة للإباء والرافضة للذل والخنوع،
هذه الثيمة التي عبر عنها الإمام الحسين بقوله ((والله لا أعطيكم
بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد)) فيقول السياب في ذلك
:
عزَّ الحسين وجل َّعن أن يشتري ريَّ الغليل بخطـــــةٍ
نكراءِ
آلى يـــموت ولا يوالي مارقا ً جمَّ الخطايا، طائش
الأهواءِ
ولنزار قباني إنفعالات مع روح الحسين ومبادئه, فقد مثَّلت له
كربلاء رمزية َ الصراع بين المضطهدين وبين المستبدين بين المشردين
وبين الذين يبنون مجدهم على جماجم المستضعفين فنراه في قصديدته
الرائعة (عندما يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان ) التي
ألقاها في بغداد سنة 1985م يصور حالة الصراع السرمدي بين هاتين
الفئتين وإن كان العنوان ساخراً إلا أن قباني يعبر عن رفضه
وإنفعاله بشكل ٍ ساخر كما هو الواقع ويستلهم الحسين مبادئً حينما
يقول
مواطنون دونما وطن
مطاردون كالعصافير على خرئط الزمن
مسافرون دون أوراق ٍ وموتى دونما كفن
هنا يعبر الشاعر عن غربة الإنسان الحر وغربة المواطن الذي يحمل
المبادئ لكي يعيش بكرامة إلا أنه لايجد ذلك متاحا ً جراء تسلط
أنظمة الغلبة والإستبداد, فهو يلتقي مع الشاعر السيد جعفر الحلي
الذي يصور حالة الحسين حينما يرفض الإذعان ليزيد (المبدأ)
فيقول الحلي :
لم يدري أين يريح بُدن ركابه فكأنما المأوى عليه محرمُ
وقد إنجلى عن مكة ٍ وهو إبنها وبه تشرفت الحطيم وزمزمُ
مثل ابن فاطمـــة ٍ يبيت مشردا ً ويزيـــــد في لذاته
متنعمُ
ثم يعود القباني لأستلهام كربلاء القضية وكربلاء المبدأ
بتمازج رائع بين الماضي والحاضر، فهو يعتبر كربلاء فكراً وليست
ذكرى فيقول
مواطنون نحن فى مدائن البكاء
قهوتنا مصنوعة من دم كربلاء
حنطتنا معجونة بلحم كربلاء
طعامنا..شرابنا
عاداتنا..راياتنا
زهورنا..قبورنا
جلودنا مختومة بختم كربلاء
هنا حينما يستذكر كربلا ء يريد أن يقول مازالت الفلسفة الحاكمة
متشابهة وما زال الحق مضيَّع وما زالت كربلاء حاضرة ً لم تمت،
فخلودها يكمن في مبادئها ومنطلقاها الإنسانية وليس في مأساويتها،
وهو يؤكد هذا المعنى في قصائده دائما ً كسميتك الجنوب الذي يخاطب
الجنوب اللبناني الذي نهل الفداء والتضحية من الحسين بقوله.......
يا لابساً عباءةَ الحسين
وشمسَ كربلاء
يا شجرَ الوردِ الذي يحترفُ الفداء
يا ثورةَ الأرضِ التقت بثورةِ السماء
يا جسداً يطلعُ من ترابهِ
قمحٌ وأنبياء
ويعود للمقارنة مرة أخرى في قصيدته ( الروافض والحسين) ويشعل
شرارة الصراع بين المعسكرين حينما يسْخر من الذين يرتضون الذل ولا
ينفعلون بالحس الإنساني للحسين فيقول
سأل المخـالف حين انـهكـه العـجب هل للحسين مع الروافض من
نسبْ
لا يـنـقضي ذكـر الحسين بثـغرهم وعلى إمتداد الدهر
يوقد كاللهبْ
وكـأنَّ لا أكَــلَ الزمـــانُ على دمٍ كدم الحـسين
بـكـربلاء ولا شــربْ
فأجـبـتـه ما للـحـسين وما لـــكم يا رائــدي
نــدوات آلـيـة الطـربْ
لعل القباني كان له موعداً مع الشاعر الفارس ابي فراس الحمداني
في البيت الأخير، فقد قال الحمداني في قصيدته الميمية الرائعة وهو
يصف الصراع الأبدي للمعسكرين معسكر الأخلاق والمبادئ ومعسكر
اللاأخلاق واللامبادئ
تنشى التلاوة في أبياتهم سحرا وفي بيوتكم الاوتار
والنغمُ
إذا تلوا آيــــةً غنى إمامـكم قف بالديار التي لم
يعفها قدمُ
ويكشف القباني عن سر القاء والانفعال بالحسين (ع) فيقول
من مـثـله أحــيى الكـرامة حـيــنـما مـاتت على أيــدي
جــبابـرة الـعـرب
وأفـاق دنـيـاً طـأطـأت لـولاتــــها فــرقى لـذاك
ونـال عــالية الـرتــب
و غـدى الصـمـود بإثـره مـتـحفزاً والـذل عن وهـج
الحيـاة قد احتـجـب
وللنوَّاب حكاية ٌ أخرى......
لقد كان الحسين معلما ً وملهما لشاعر ٍ متمرد ٍ يعشق الإباء
ويهيم بالحرية ولا يبالي سطوة الجبابرة مادام يتملك أجنحة ً
للطيران والتحليق في عالم الحق والرفض ذاك هو مظفر النواب الذي
يقول في قصيدته الجميلة (الوقوف بين السماوات ورأس الحسين)
تعلمت منك ثباتي وقوة حزني وحيدا
وكم كنت يوم الطفوف وحيدا
ولم يك أشمخ منك وأنت تدوس عليك الخيول
في مقطع رائع من مقاطع هذه المعلقة النوابية يصور لنا الشاعر
أن الخلود الحقيقي هو خلود المواقف العظيمة وليس في أقبال الدنيا
أو السعي اليها, وان الموت لا يخيف إلا الجبناء
مذ أبيت يبايعك الدهر
وارتاب من نفسه الموت مما يراك بكل شهيد
فأين ترى جنة لتوازي هذا مقاما
هل كنت تسعى اليها حثيث الخطى
أم ترى جنة الله كانت تريد اليك الوصول؟؟
مرة ً أخرى تؤكد الحقيقة ذاتها أن اللقاء بين عشاق الحرية
والإنسانية يتم رغم إختلاف الايديلوجيات، فالنواب يلتقي في هذا
المقطع من قصيدته بشاعر أطلق عليه ( ناعي الطف) هو الشاعر السيد
حيدر الحلي حينما يصف الحسين بقوله
ترجل للموت عن سابق ٍ له أخلت الخيلُ ميدانها
كأن المنية كانت لديه فتاة ً تواصل خلصانها
تزيد الطلاقة في وجهه إذا غيّر الخوف ألوانها
يعاود النواب إستلهام روح كربلاء وهو يثور على الواقع الفاسد
الذي عاشه العرب ومازالوا رغم تبدل الأزمان وإختلاف الشخوص
فيقول
لله مما بتاريخنا من مغول ومما به من ذرا الاتكال وعنه انحذار
السيول
اننا في زمان يزيد كثير الفروع
وفي كل فرع لنا كربلاء
وكشف احدى وعشرون عمرو بن عاص ونصف
نعم ثم نصف
وينطلق في مقطعه الأخير بمقارنة جميلة توضح حقيقة الصراع الأزلي
بين النور والظلام, بين العقل واللاعقل بين الأمس واليوم غاضبا ً
مزمجراً لاعناً مستلهما مواقف الحسين (ع) مستمدا ً منها العزم
والقوة والمقاومة فيقول
لعنت زمانا خصى العقل فيه يقود فحول العقول
امام الشهادة عهد على عاتقي
كبرياء السماوات في ناظريك نقاوم
نعرف أن القتال مرير
وأن التوازن صعب
وان حكوماتنا في ركاب العدو
وان ضعاف النفوس انتموا للذئاب
وعاثت ذاب من الطائفية تفتك بالناس
ما أنت طائفة انما امة للنهوض
تواجه ما سوف يأتي
اذ الشر يعلن دولته بالطبول
لست أبكي
فانك تأبى بكاء الرجال
ولكنها ذرفتني أمام الضريح عيوني
ولعل أجمل مقارنة في القصيدة هو ربط الماضي بالحاضر بصورة لخصت
فلسفة عاشوراء وسر ديمومتها وأزليتها وسر الوهج السرمدي الذي
يعتريها على طول الزمن, فأين ما وُجِد يزيد وُجد الحسين فهذه جدلية
أبدية هي جدلية الحق والباطل
يطافُ برأسكَ فوقَ الرماح
ورأسُ فلسطين أيضا يطاف به في بلاد العروبة يا للمرؤة والعبقرية
بالدبل
أما العراقُ فينسى لأن ضريحَك عاصمةُ اللهُ فيه
وجُودُ بنيه أقلُ من الجودِ بالروحِ جودٌ خجول
ويؤكد الشاعر مصطفى جمال الدين أممية الإمام الحسين وإنسانية
مبادئه وان عاشوراء قضية قبل أن تكون عاطفة أو حادثةً مأساوية ففي
قصيدته الذائعة الصيت (ذكرى الحسين)
يقول
أنا لستُ شيعيـا لأن على فمي ذكرُ الحسينِ أُعيدُ فيه
وأطنبُ
ولأن في قلبي عصارة لوعةٍ لأساه تذكرها العيون
فتسكبُ
ولأن أمــــي أرضعتني حبه ولأنه لأبي وجــــدي
مذهـــــبُ
لكنني أهوى الحسين لأنه للسالكين طريق حقٍ
أرحـــبُ
ويَذكر جمال الدين الاسباب التي تجعل من ذكرى الحسين موضوع
متجدد ودائم ويؤكد على أن سر التجدد هو وجود الظلم فكلما إزداد
الظلم تجددت كربلاء فيقول في مطلع قصيدته
ذكراك تنظفئ السنيين وتغربُ ولها على كف
الخلود تلهب ُ
لا الظلم يلوي من طماح ضرامها أبداً ولا حقد
الضمائر يحجبُ
ذكراك مدرسة الذين تعرضوا للسوط يحكم في الشعوب
ويرهبُ
ويصف جمال الدين أن الخلود بنيان أسه الحسين لا يعلو إلا بفكر
كربلاء وأن التاريخ لا يكتب إلا بدماء كربلاء فهذه العلاقة
الرمزية بين الحسين وبين الخلود علاقة ُ مستديمه وباقية فيقول
إيه أبا الأحرار أي كريمةٍ تبني الخلود وليس منك لها
أبُ
حتى إذا التارتخ أرهف سمعه ليعيد من صنعوه فيما
يكتب ُ
دوى بآذان الزمان هديرك الصا في وضاءت من سناه
الأحقبُ
وبعد الف وثلاثمائة وسبعون عاماً مازال الحسين واقفا ً يلُّوح
للأحرار بسيفه ويحثهم على الثورة من أجل أن لا تنتهك المبادئ ومن
أجل أن لا يعيش الإنسان تحت طائلة الخنوع والذل، لذا بقي خالدا ً،
فالمفتشون عن الحسين عليهم أن يبحثوا في قلوب الثوار فسيجدونه
هناك. فالعظماء حينما يموتوا لا يُبحث عن جدثهم في التراب بل في
قلوب الناس وإن كانت كربلاء تحمل رمزية الجدث فأن الحسين في عقول
وقلوب محبي النور كيفما كانواواينما كانوا
مازلت أحمل ُ أكفانا ً..... ممزقة ً
وحفنة ٍ من رمال خبأت وجعي
أمشي و خلفي تمشي الفُ عاصفةٍ
كأنها ولدت في كربلاء معي
جواد جميل (النائب حسن السنيد)
* كاتب وإعلامي |