لِما تشكله كربلاء من رمز معنوي للصراع بين الخير والشر،
ومعلَماً اسلامياً حضارياً وإرثاً ثقافياً عمره الاف السنين، بقيت
هذه البقعة مركز إستهداف مباشر من قِبل القوى التي تعاقبت على حكم
العراق وكذلك القوى الخارجية التي دعاها الفكر المتطرف الى مهاجمة
المشاهد المقدسة في هذه المدينة ونهبها وقتل أهلها بحجة انهم
خارجين عن الدين..
حيث لاتزال ذاكرة العراق الحديث تحمل بين طياتها مآسي الهجمات
الوحشية التي كان يقودها التطرف الوهابي على مدينة كربلاء في
بدايات القرن الماضي ويعيث في أرضها وممتلكاتها وأهلها فسادا..
وبينما يعيد التاريخ نفسه ويطرح مشاهد العنف والدمار الذي خلفته
تلك الهجمات من خلال سنين الإرهاب التي مرت بالبلد منذ سقوط النظام
السابق عام 2003 وحتى الان تبرز مسألة الإحترازات الأمنية كواحدة
من أهم معطيات فرض القانون والحفاظ على سلامة المواطن والممتلكات
العامة...
ونظراً لما تشكله الإحترازات الأمنية التي تقوم بها المحافظة من
صرامة وتعقيد تحولت الى سلاح ذو حدّين، فهي من جهة تدابير واجبة
لضمان عدم حدوث أية اختراقات تؤدي لأذى المواطن وإلحاق الضرر
المادي والمعنوي في إستهداف مقدسات إسلامية غاية في الاهمية، ومن
جهة اخرى تشكل تلك الاحترازات عائقا كبيرا أمام حركة المرور وحرية
تنقل الوافدين والزائرين وتكبّل ساكني مركز المدينة الى حد كبير
وتحد من نشاطهم الإقتصادي والاجتماعي، فالأهالي ينتظرون بفارغ
الصبر اليوم الذي تحل فيه شروط الأمان في مدينتهم ليسترجعوا مساحة
الحرية الكاملة في الحركة بما يؤمّن لهم رزقهم ومزاولة مصالحهم
والتزاماتهم دون تعقيد.
ان الإنطباع الذي أخذ يتنامى في الفترة الاخيرة عن مدينة كربلاء
هو تحوّلها الى منطقة عسكرية مقفلة حيث لا تمر بشارع او زقاق إلا
وتصطدم بنقطة تفتيش، ولا ترفع نظرك لتمتعه بمشاهد الأبنية حديثة
التشييد إلا وترى الثكنات العسكرية منتشرة فوقها، فضلا عن إنك ان
هممت بأداء مراسم الزيارة للإمامين الحسين واخيه العباس (ع) وجب
عليك دراسة الموضوع جلياً ومعرفة أي الطرق ستسلك وأيها سيكون اكثر
سهولة من الاخر وفي أي يوم ستذهب بل في اي ساعة سيكون دخولك
المدينة!، حتى لا تنهك قواك من كثرة السير او الترجّل من وسائل
النقل وما يتبعه من التفتيش المتكرر، أما اذا فكرتَ ان تأتي بعيالك
او ذويك المسنَّين فأنها ستكون رحلة صعبة بسبب الإجهاد الذي ستعاني
منه أسرتك وأطفالك..
ونحن إذ نقول هذا الكلام انما نُذكِّر بأن تحقيق الأمن ليس في
زيادة الزخم العددي والتعبوي للعسكَر وتكريس مفاهيم القوة داخل
المدن خاصة ذات الاهمية الدينية والسياحية، وهذا ما أثبتته جميع
التجارب والدراسات والبحوث وحتى الحروب.. إنما القوة الفاعلة هي
التي ينتجها الإنسجام بين القوة الصلبة "العسكرية" والقوة الناعمة
"الإستخبارية والسياسية والادارية"، فهذان المفهومان اللذان أخذا
يلعبان دوراً محورياً متصاعد الاهمية في انحاء العالم ككل، كفيلان
في تحقيق الامن والنهوض بالوعي العام لدى الجماهير وترسيخ مفاهيم
المواطنة القائمة على اساس الشعور بالمسؤولية والإنتماء الحقيقي
للمجتمع.
ونحن على أعتاب عاشوراء وما يتخلله من مراسيم وشعائر حسينية
وزيارات مليونية من داخل وخارج العراق، يمكن ان نستفيد من عدّة
معطيات في محاولاتنا انتاج وضع أمني مستقر مع مجتمع مدني مسؤول
يبتعد عن العنف ولاتشيع في انحاءه ثقافة العسكرة:
- حصر نقاط التفتيش على المداخل الرئيسية للمدينة وتجهيزها
بالمعدات الحديثة اللازمة لكشف الاسلحة والمواد المتفجرة
والكيماوية ونصب كاميرات المراقبة على كافة مفارق الطرق الداخلية
والاماكن الحساسة. وقد تكون خطة الحكومة المحلية الحالية لبناء
منظومة أمن متكاملة للمدينة خطوة متأخرة لكنها بالإتجاه الصحيح.
- تفعيل دور المجالس المحلية في الأقضية والنواحي ودفعها
للمساهمة الفعالة في تقييم الموقف الامني باستمرار ورصد الحالات
المشبوهة والتبليغ عنها عن طريق سلسلة اتصالات مترابطة وفعالة
تؤمّن تغطية كاملة خاصة للمناطق المحيطة بالمدينة.
- التنسيق التام بين الاجهزة الامنية مع منع تداخل الصلاحيات
فيما بينها, والقضاء النهائي على أفكار ومحاولات تسييس القوات
المسلحة والوضع الأمني لأن ارواح المواطنين وممتلكاتهم لايمكن ان
تكون ضمن مساومات وصفقات سياسية او دعايات انتخابية.
- إشراك المواطن بالجهد الامني من خلال حملات توعية وتوجيه
منظَّمة تلتزمها الحكومة المحلية بالتنسيق مع عمليات المحافظة
وقيادة شرطتها، يتم من خلالها نشر الوعي الأمني في مؤسسات التعليم
وباقي دوائر الدولة، فضلاً عن ضرورة إشراك منظمات المجتمع المدني
في الجهود الرامية لخلق مجتمع يتحمل المسؤولية الوطنية والاخلاقية
والدينية في الانتباه والحيطة والحذر والتحرّك لصد أية محاولات
ترمي لزعزعة الأمن من خلال مراقبتها والتبليغ عنها.
ورغم نجاح الخطط الأمنية السابقة لدرجة كبيرة إلا أن مشكلة
التعقيد في الإجراءات وكثافتها المفرطة خاصة مع الزيارات المليونية
تبقى هي التحدي الأكبر أمام المسؤول والمواطن على حد سواء، من
ناحية المسؤولية الوظيفية ومن ناحية الالتزام بالواجبات والمستحبات
الشرعية. |