تتكرر في كل عام ذكرى واقعه الطف الفجيعة وها هي هذه الايام
تلقي بظلالها على كل حدب وصوب حيث يتوشح كل مكان من الجدران
والبيوت و... وبالسواد وتلطم الصدور والروؤس وتذرف الدموع بالوجنات
حزنا واساً على مصاب ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) واهل بيته
الكرام (عليهم السلام) الذين بلغوا ذروة المصائب والفجائع في واقعه
عاشوراء ورسموا وخطوا بدمائهم الزاكية والطاهرة اروع وابهى ملحمة
في التأريخ البشري حيث هزّت ضمير الانسانية من اعماقه وأيقظته من
سباته.
ولكن السؤال الذي يختلج في ذهن كل عاقل لبيب القى السمع وهو
شهيد المتتبع لمراسيم إحياء هذه الواقعة العظيمة هو انه ما هي
الاسرار التي تكمن وراء خلود وبقاء (عاشوراء) طيلة هذه السنين
الطويلة والى يومنا هذا رغم كل تحيات الطغاة واهل الجور والمحاولات
التي سعت حثيثا عبر التأريخ لاخماد مصباح عاشوراء وجعلها في زاوية
النسيان والاهمال؟ ولكن ها هو الامر اليوم على العكس تماما حيث ان
نور الحسين (عليه السلام) يسطع ويزداد يوما بعد يوم تلألأ واشراقة
وبهاء ولم يقتصر ذلك على بقعة دون اخرى بل اخذ نوره ينتشر على كل
ارجاء المعمورة وللاجابة على هذا السوأل.
يجدر ذكر بعض النقاط نوجزها بما يلي:-
اولا: الامام الحسين (عليه السلام)
واهداف ثورته.
ان من اهم الاسباب التي اخلدت هذه الثورة هي ان بطلها وصاحبها
لم يكن متعلقا بزمان دون زمان آخر او مكان دون مكان آخر بل ان كلّ
الازمنة وكل الامكنة كانت تحتويه ولا تسعه لان شخصيته كانت عالمية
ونموذجيّة لكل الاحرار واصحاب الضمائر اليقظة.
فالقيم التي كان ينادي بها الامام (عليه السلام) وثار من اجلها
لم تكن قيما آنيّة وشخصيّة بل كانت تنبع من اعماق الوجود الانساني
اللاحب والفطرة التي فطرها الله على الاسلام فهذه الفطرة قد شابها
بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله) اهواء وفتن مالت بها عن
جادة الصواب واضلّتها في تيه الضياع والضلال فها هو الامام الحسين
(عليه السلام) }الذي هو من رسول الله (صلى الله عليه واله) والرسول
منه حيث قال (صلى الل! ه عليه واله) ((حسين مني وانا من حسين))(1)
{ يقوم بأعباء إصلاح هذه الامة وتنقية فطرتها وضمائرها وها هو
يقول) اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت
اطلب الاصلاح في امة جدي محمد (صلى الله عليه واله) اريد ان امر
بالمعروف وانهى عن المنكر واسير بسيرة جدي محمد وسيرة علي بن ابي
طالب) ((2.
الحسين (عليه السلام) كان ينادي بكل ما ينادي به كلّ حرا في كل
اصقاع العالم (الا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى
عنه)(3).
ثانيا: نكران الذات وتحمّل المسؤولية.
من الخصائص البارزة في الثورة الحسينية انه (عليه السلام) كان
يتفانى في سبيل الحق ولا يرى لنفسه شيئا بقدر ما كونها عاملة في
سبيل الله ومحققّة لأهدافه وقيمه السامية يقول الامام عليه السلام
في ذلك (فمن قبلني بقبول الحق فألله اولى بالحق)(4).
فالحق ليس ملكا لاحد دون اخر الحق لله الواحد القهار فالإمام
(عليه السلام) كأنه يبيّن بأن من يقبل الامام بقبول الحق ليس قبوله
هذا تعصبا لشخص الامام بذاته بقدر ما هو تعصب للحق نفسه وباعتبار
ان رساله الامام هي رسالة حقانية والهية حيث انه (عليه السلام) يعد
امتدادا لرسول الله (صلى الله عليه واله) الذي ((لا ينطق عن الهوى
ان هوإلّا وحي يوحى))(5).
فالحسين (عليه السلام) يعلّم الجميع بأفعاله واقواله كيف يكون
المرء موضوعيا مجردا عن تقديس الذوات والاشخاص لذواتهم خاصة بل
يكون عاشقا للحق والحقيقة والمبدأ الذي تفانى من اجله الحسين (عليه
السلام) نفسه وفدى في سبيله بالنفس والنفيس.
ونرى ايضا أن سيد الشهداء (عليه السلام) الذي لم يقم الا من اجل
الله كيف يرجع الامر كله (عند نكول الناس عنه) له ويجعله هو الحاكم
فيما بينه وبين من يردّ عليه ولم يقبل نهضته.
(......ومن رد علي هذا صبرت حتى يقضي الله بيني وبين القوم
ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين)(6).
السنا لله وانا اليه راجعون؟ فما دمنا نسعى ونثور من اجله وفي
سبيله فأن حوربنا وطوردنا فنحن ليس لدينا عداء شخصيّا مع من حاربنا
بل نرجع الامر الى ربنا لكي يحكم بينا وبينهم بالحق الذي عاديناهم
من اجله وهو احكم الحاكمين.
فما احلى هذا التفاني والذوبان في سبيل الله ؟
لم يطلب الامام (عليه السلام) لنفسه شيئا لان قضيته ليست شخصية
بل هو ثائر من اجل ربه فمن آمن بثورته فأنما آمن بربّه ومن رد عليه
فألله وحده هو القاضي والحاكم ويبلغ الحسين عليه السلام ذروة هذه
العبودية الخالصة ونكران الذات حيث يقول:(ليرغب المؤمن في لقاء
الله)(7) ولكن كيف يرغب المؤمن في ذلك ؟ يبيّن سيد الشهداء(عليه
السلام) مقصوده من ذلك موضحا ان الموت والتخلص من الظالمين خير من
الحياة معهم.!!!
نعم الامام يطلب (الموت) الذي هو عين الحياة مع الله ولا يطلب
الحياة مع الظالمين الذي هو موت بعينه. فما ابهى هذا النكران للذات
والتفاني لله؟!!
(......أني لا ارى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين
برما)(8).
ولم يكن موقفه عليه السلام جراء هذا البلاء الذي حل به الا
الرضا والتسليم لقضاء ربه ومشيئته (...... رضى الله رضانا اهل
البيت نصبر على بلائه ويوفيّنا اجور الصابرين)(9).
ثالثا: الصراحة والشجاعة.
من الخصائص البارزة الاخرى في الثورة الحسينية انه (عليه
السلام) كان صريحا في اهدافه وشجاعا مقداما لا تأخذه في الله لومة
لائم فهو (عليه السلام) عندما كان يراد ارغامه على بيعة يزيد قال
بكل صراحه وشجاعة (انا اهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف
الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم ويزيد فاسق شارب الخمر قاتل النفس
المحترمة معلن بالفسق ومثلي لا يباع مثله)(10).
وهو كان حتى في آخر لحظات عمره يقاوم أمام كل الضغوط التي تمارس
ضده لنزوله على حكم الباطل اذ يقول عليه السلام في ذلك (لا والله
لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا افر فرار العبيد)(11).
بل كان الامام (عليه السلام)صادقا حتى مع اصحابه حيث يصرح لهم
بانه لا ينتظرهم الا الموت والقتل وانهم في حل من بيعته ان شائوا
فليذهبوا ولينجوا بانفسهم من الموت. نعم لا يوجد أية ضابيّة في
حركة الامام (عليه السلام) بل انها كانت تتسم تتّسم بالشفافية مع
العدو والمجتمع وحتّى مع أصحابه لأنّه لم يكن يقود أناسا لايدرون
أين ينتهي بهم المطاف ؟ بل كان يجعلهم على بصيرة تامّة من أمرهم
حتّى يكون إتّباعهم لامامهم عن دراية وليس مجرّد تقليد أعمى له.
يقول ألامام (عليه السلام)لأصحابه بعدوصول نبأ مقتل ابن عمّه
(مسلم بن عقيل) اليه:(قدأتاني خبرفظيع عن ابن عمّي مسلم يدّل على
أنّ شيعتنا قدخذلتنا ,فمن كان منكم يصبر على حرّالسيوف وطعن
الأسنّة فليأت معنا والّا فلينصرف عنّا)(12)
رابعا:المظلومية:
من السمات البارزة في النهضة الحسينية وألتي أصبغت عليها
هذاالكمّ الهائل من الأحترام والتبجيل على مدى العصور والدهورهي
مظلوميّة مظلومية الامام واهل بيته الكرام وظلاماتهم التي تلقي
بظلالها الثقيلة على قلب كل حر يتصدع لها حزنا وكمدا.
فالحسين (عليه السلام) لم يكن طالباً للسلطة وان كان ذلك حقه
ولكنه ابي ان يعترف بحكومة يزيد كونها غير شرعية (وسنبحث في اسباب
عدم شرعيتها في ابحاث اخرى ان شاء الله).
فعندما منع الامام من الدخول الى الكوفة من قبل جيش حر بن يزيد
الرياحي فحينذاك طلب الامام من العدو ان يسمح له بالرجوع الى
المدينة او الذهاب الى ايّة بقعة اخرى ولكن ابي القوم إلانزول
الامام على امرهم والبيعة لهم او قتله ورفض الامام الاعتراف بنظام
الحكم وان فرضنا جدلاً شرعيته هو حق شرعي وقانوني تعترف به اليوم
مواثيق حقوق الانسان في العالم حتى ان الحسين (عليه السلام) كان
الى اخر لحظة يتجنب ان يبدأ القوم بقتال ولكنهم سعوا حثيثاً لقتله
حتى قال (عليه السلام) (لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام
لاستخرجوني حتى يقتلوني).(13)
فمراجعة المشاهد المروعة التي يرويها لنا التأريخ حول ما جرى في
كربلاء هو مما تقشعر له الجلود وتندى له الجبين ويرفضه كل ضمير حيّ
يقض فمنع الحسين (عليه السلام) واهل بيته واصحابه الكرام من الماء
وقتلهم عطاشى وبتلك الطريقة البشعة وحرق الخيام وأسر اهل بيته هو
ما يرفضه كل انسان ذي ضمير حر وطاهر وتحرمه نصوص المواثيق العالمية
لحقوق الانسان في العالم يقول الحسين (عليه السلام) في ذلك:
(اما ترون الى ماء الفرات يموج كأنّه بطون الحيتان يشربه اليهود
والنصارى والكلاب والخنازير وآل الرسول – صلى الله عليه وآله –
يموتون عطشا)(14)
إنّ جانب مظلومية الحسين(عليه السلام) بلغ من اهميته طوال
التأريخ مابلغ حتى نقل عن الزعيم الهندي في تأريخنا المعاصر
(مهاتماغاندي) انه قال:
(تعلمت من الحسين كيف اكون مظلوماً فانتصر)(15)
خامساً: إعلام اهل البيت (عليهم السلام):
لقد دأب ائمة اهل البيت(عليهم السلام) على احياء هذه الشعيرة
والنهضة على مدى العصور والدهور وإتبعهم على ذلك السلف الصالح من
العلماء والاولياء واستمر ذلك الى يومنا هذا فمشاهد العزاء والنحيب
والبكاء التي بدأت من واقعة الطف الى يومنا هذا هو خير دليل على
ذلك وكما يقول سيد الشهدا(عليه السلام): (انا قتيل العبرة لا
يذكرني مؤمن إلابكى)(16)
فالحسين (عليه السلام) هو عِبرة وعَبرة.
اي ان العبرات والدموع التي تسكب عليه ليست مجرد تعبيراً
عاطفياً على مصابه فحسب بل هي تحمل رسالة شامخة في الإعتبار من
واقعة عاشوراء والإيمان بمبادئها واحياء ذكراها وذكرى قيمها التي
اريقت دماء الحسين(عليه السلام) واصحابه الكرام من اجلها فنحن لا
نبكي لمجرد مصيبة تأريخية حدثت قبل اكثر من الف عام وإنتهت وعفا
عليها الدهر بل هي نهضة وواقعة حية وقائمة ما قام الدهر وما قامت
السموات والارض تتصل بظهور الامام الحجة (عجل الله تعالى فرجه
الشريف) ونحن ببكائنا ونحيبنا على سيد الشهداء (عليه السلام) نهيئّ
انفسنا لاتّباع نهضته ورفع رايته مع الامام القائم المنتظر (عجل
الله تعالى فرجه الشريف) الم نقرأ في زيارة عاشوراء (... فأسأل
الله الذي اكرم مقامك واكرمني بك ان يرزقني طلب ثارك مع امام منصور
من اهل بيت محمد صلى الله عليه وآله)؟(17)
نعم يجب ان نرى ببصائرنا ونسمع باسماع قلوبنا دويّ هذه
النهضة.فعاشوراء هي كانت ولا زالت بين أظهرنا وأيدينا فلنسمع ولنرى
تلكم الفتية الابطال الذين كانوا لا ينفكون ليلة عاشوراء عن
العبادة ما بين راكع وساجد وكان لهم دويّ كدويّ النحل علّنا سمعنا
دويّهم كيف لايزال يملأ الخافقين ويستنزل عبارات المحبين ويدقّ له
قلوب المخلصين...
m_JAWAD_1982@HOTMAIL.COM
.......................................
المصادر:
1_إبن عساكر ,ترجمة الأمام الحسين (عليه السلام)
,ص 115
2_الموسوي ,السيدحسين أبوسعيدة ,بلاغة الامام
الحسين (عليه السلام),مؤسسة الشهداء,الجزء الثالث ص 222
3_الإعتمادي , لمحة من بلاغة الحسين (عليه
السلام),ناشرالطيّارص118و119و120
4_ الموسوي ,السيدحسين أبوسعيدة ,بلاغة الامام
الحسين (عليه السلام),مؤسسة الشهداء,الجزء الثالث ص 222
5_القرآن الكريم ,سورة النجم ,الآية 3و4
6_ الموسوي ,السيدحسين أبوسعيدة ,بلاغة الامام
الحسين (عليه السلام),مؤسسة الشهداء,الجزء الثالث ص 222
7_ الإعتمادي , لمحة من بلاغة الحسين (عليه
السلام),ناشرالطيّارص118وص119وص120
8_نفس المصدرص118وص119وص120
9_نفس المصدرص109وص110
10_الأمين العاملي ,السيّدمحسن ,في رحاب أئمّة
أهل البيت (عليهم السلام),دارالتعارف للمطبوعات ,المجلّدالثالث
,ص73
11_ الإعتمادي , لمحة من بلاغة الحسين (عليه
السلام),ناشرالطيّارص138
12_نفس المصدر ص116
13_نفس المصدرص180
14_نفس المصدر ص124
15_إبن قولويه ,جعفربن محمّد,كامل الزيارات,باب
36,ص117
16_موقع سفينة النجاة الإلكتروني
www.annajat.org
17_القمّي ,عبّاس ,مفاتيح الجنان ,من منشورات
الفيروزآبادي ,زيارة عاشوراء ص529 |