ينظر بعض الكتاب الى حركة الامام الحسين (ع) على انها كانت
عبارة عن استجابة إندفاعية لرسائل ومطالبات المجتمع الكوفي المضطرب
ولهذا انتهت الى تلك المجزرة الدامية في كربلاء!
والواقع ان هذا الفهم ناتج عن قراءة منقوصة ومتابعة مبتورة غير
مكتملة لمجمل الحوادث التي رافقت الحركة الحسينية، وناشئ عن إغفال
لمواقف الإمام الحسين (ع) سواء إبان حكم معاوية أوأثناء حكم يزيد
بن معاوية.
إن النظر الى بعض الحقائق التاريخية كفيل لإبراز نتيجة مغايرة
لتلك التي ذهب اليها أولئك الكتاب. ومن هذه الحقائق هي:
1- موقف الامام الحسين (ع) من مطالبات
الكوفيين اثناء حكم معاوية:
لقد تكررت مطالبات الكوفيين من الامام الحسين (ع) بالقيام بتحرك
مضاد للحكم الاموي في حياة الامام الحسن (ع) وبعد وفاته. ورغم ان
الامام الحسين (ع) كان يمتلك شرعية التحرك خصوصا بعد نقض معاوية
لبنود الهدنة التي وقعها مع الإمام الحسن عليه السلام. لكن الامام
الحسين (ع) رأى أن التوقيت غير مناسب للتحرك آنذاك، فوجه زعماء
الكوفة إلى الإحتراس والتكتم والترقب، وكان مما قاله لهم: "
فالصقوا رحمكم الله بالأرض واكتموا في البيوت واحترسوا من الظنة
مادام معاوية حيا، فان يحدث الله شيئا وأنا حي كتبت اليكم رأيي "
2- رفض بيعة يزيد مبكرا في المدينة:
لقد حسم الإمام الحسين عليه السلام موقفه من بيعة يزيد بن
معاوية بجلاء ودونما مواربة، أمام الوالي الأموي على المدينة
الوليد بن عتبة وبحضور مروان بن الحكم، حين عرض عليه أمر يزيد بن
معاوية بأن يأخذ الحسين – وشخصيات أخرى - أخذا شديدا لا رخصة فيه
حتى يأخذ منه البيعة له. فأوضح له الإمام الحسين في حديث مفصل، عدم
أهلية يزيد للخلافة، ومما قاله في هذا المضمار حسب مقتل الخوارزمي
واللهوف " إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط
الوحي. بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب خمر، وقاتل نفس
ومعلن بالفسق "، وأنهى كلامه معه بإعلان موقفه الحازم قائلا: "
ومثلي لا يبايع مثله ". وقد مثل ذلك إعلانا مبكرا عن موقفه المبدئي
وإستعداده لتحمل كافة نتائج وتبعات هذا الموقف. وقال لمروان بن
الحكم لما نصحه في اليوم التالي على مبايعة يزيد، وقال له إنها "
خير لك في دينك ودنياك " فاسترجع الإمام الحسين (ع) وقال له "على
الإسلام السلام إذا بليت الإمة براع مثل يزيد " وقال لأخيه ابن
الحنفية، كما في فتوح أعثم ومقتل الخوارزمي " والله لو لم يكن في
الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية أبدا ".
ويلاحظ ان الإمام الحسين (ع) اتخذ هذا الموقف الصريح وهو في
المدينة ولما تأته رسائل الكوفيين بعد. بل يبدو أن الكوفيين لم
يكونوا قد أحاطوا علما بتطورات الوضع في المدينة ولا بموقف الإمام
الحسين عليه السلام، إلا متأخرا وبعد توجهه الى مكة المكرمة. وربما
كان موقف الامام الحسين هو الذي حرك الكوفيين وحفزهم ليكتبوا إليه
رسائلهم كما يدل عليه نص الخطبة التي ألقاها سليمان بن صرد الخزاعي
في المجتمع الكوفي حيث ورد فيها " أن معاوية قد هلك وأن حسينا قد
تقبض على القوم بيعته وقد خرج الى مكة... فإن كنتم تعلمون أنكم
ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا اليه..". من جهة أخرى، إن الإمام
الحسين عليه السلام، أفصح عن موقفه من حكم يزيد منذ البداية، وكان
ذلك في شهر رجب، وتحرك نحو مكة، بينما تلقى أول وأهم رسالة من
الكوفيين في شهر رمضان وكان آنذاك في مكة المكرمة.
3- توجه الامام الحسين (ع) نحومكة
المكرمة وجعلها مركزا لانطلاقه:
وتوجه الإمام الحسين الى مكة في 28 رجب سنة 60 هـ حيث مهوى
أفئدة المسلمين وملتقى جموعهم ووفودهم من مختلف الأقطار، من حجاج
ومعتمرين وقادة سياسيين وإجتماعيين. وكان قد لزم الطريق الأعظم
ورفض أن يتنكبه خوفا من الطلب. وقد مكث فيها حتى الثامن من ذي
الحجة، مما يعني إن تواجده فيها تزامن مع موسمين إسلاميين مهمين
يتوافد المسلمون فيهما إلى مكة، وهما شهر رمضان بالإضافة إلى أشهر
الحج. وبذا غدت مكة، بما تمثله من أهمية دينية وإجتماعية، مركز
إنطلاقته، لينقل منها أصداء موقفه من الحكم الأموي للرأي العام
المسلم ويشرح أبعاد حركته لهم ويوصل صرخته إلى مختلف حواضر
المسلمين. وفي مكة قام الامام الحسين بنشاط فكري وسياسي وإعلامي
مكثف تمثل في الآتي:
أ- كان يعقد لقاءات مفتوحة مع الناس، وحسب تعبير الطبري وغيره
من المؤرخين " فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن كان بها من
المعتمرين وأهل الآفاق " كما التقى فيها ببعض القادة السياسيين
المعارضين للحكم الأموي مثل عبدالله ين الزبير.
ب- قام بالقاء عدد من الخطب والكلمات المتضمنة لأهدافه
المبدئية، ووجه الناس للقيام بمسؤولياتهم الدينية والإجتماعية.ومن
خطبه التي ألقاها في مكة، لما أراد الخروج منها، حسب بعض المصادر
كاللهوف " خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما
أولهني إلى اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه،... لا
محيص عن يوم خط بالقلم رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه
فيوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول لله لحمته،... ألا ومن كان
باذلا فينا مهجته وموطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإ،ي
راحل مصبحا إنشاء الله "
جـ - تلقى رسائل الكوفيين وكانت أول رسالة وأهمها هي من سليمان
بن صرد الخزاعي ورفاقه وهم: المسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب
بن مظاهر. وكان قد استلمها في العاشر من شهر رمضان سنة 60 هــ.وهذا
يؤكد أن تحرك الإمام الحسين عليه السلام قد سبق مطالباتهم ورسائلهم
إليه.
د - أرسل رسائل الى عدد من رؤساء أهل البصرة، و حسب الطبري،
أرسل إلى كل من مالك بن مسمع البكري والأحنف بن قيس والنذر بن
الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم وإلى عمرو بن عبيد بن معمر.
وقد بين فيها أهدافه ومبادئه وحثهم على التحرك والإلتحاق به. وجاء
في رسالته إلى أهل البصرة، حسب الطبري "فإن الله اصطفى محمدا (ص)
على خلقه، وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه وقد
نصح لعباده وبلغ ما أرسل به (ص)، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه
وورثته وأحق الناس بمقامه....وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب،
وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه (ص)، فإن السنة قد أميتت، وأن
البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري، أهدكم سبيل الرشاد
" كما أرسل إلى بني هاشم كتابا موجزا في المبنى عميقا في المعنى
والمغزى، فقد جاء فيه، حسب الكامل لابن قولويه " أما بعد فإن من
لحق بي استشهد ومن تخلف لم يدرك الفتح "
هــ - أرسل موفده الخاص مسلم بن عقيل في مهمة إستطلاعية إلى
الكوفة لدراسة الوضع فيها وتقديم تقرير عنه، وحمله رسالة إلى أهل
الكوفة، وذلك قبل أن يتخذ قراره بالتوجه صوب العراق. ومما جاء في
كتابه الذي حمله مسلم بن عقيل " وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم،
ومقالة جلكم، إنه ليس علينا إمام فأقبل، لعل الله أن يجمعنا بك على
الهدى والحق. وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي،
أمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم. فإن كتب إلي أنه قد أجمع
رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم، على مثل ما قدمت علي به رسلكم،
وقرأت في كتبكم، أقدم إليكم وشيكا، إن شاء الله، فلعمري ما الإمام
إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على
ذات الله ". كما أرسل رسولين آخرين إلى رجالات الكوفة من الطريق،
وهما قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الله بن يقطر، أخاه من الرضاعة،
وحملهما كتب ورسائل إلى بعض الشخصيات الكوفية.
و- قرر الإمام الحسين عليه السلام، مغادرة مكة المكرمة متوجها
نحو العراق في توقيت لافت للنظر، في يوم التروية، وهو يوم الثامن
من ذي الحجة، بعد أن أمضى فيها عدة أشهر، وبعد تلقى تقريرا إيجابيا
من رسوله مسلم بن عقيل عن الوضع فيها. وقد أشفقت عليه بعض الشخصيات
مسيره نحو العراق، ونصحوه بالبقاء في مكة، أو التوجه إلى أماكن
أخرى غير العراق، ولكنه أبدى تصميما على ذلك. وكان مما رد على ابن
الزبير، حسب الطبري وغيره، " إن أبي حدثني أن بها كبشا يستحل
حرمتها، فما أحب أن أكون ذلك الكبش " وقال لابن عباس، كما يذكر ابن
كثير في تاريخه وغيره " لئن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن
أقتل بمكة وتستحل بي " ورد على أخيه ابن الحنفية، كما عن ابن طاووس
في اللهوف " خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي
يستباح به حرمة هذا البيت "ولما سأله الفرزدق في الطريق، كما في
الطبري والإرشاد للمفيد، فقال: ما أعجلك عن الحج ؟ فقال له " لولم
أعجل لأخذت " وقال لبعضهم، كما يروي الطبري " وأيم الله لوكنت في
جحر هامة من هذه الهوام، لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم، ووالله
ليعتدن علي كما إعتدت اليهود في السبت ". ولما سأله محمد بن
الحنفية عن معنى حمل النساء والأطفال معه، أجابه حسب اللهوف " إن
الله شاء أن يراهن سبايا ".
وهذه المضامين التي حملتها أجوبة الإمام الحسين عليه السلام،
تدل بما لايقبل الشك، بأن الإمام الحسين عليه السلام كان يتمتع
بوعي تام ورؤية واضحة، وكان مدركا للنتائج التي تنتهي إليها مواقفه
وتحركه ضد الحكم الأموي. وكانت رسائله وخطبه وكلماته تتمحور حول
موقع أهل البيت عليهم السلام وأحقيتهم بخلافة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطالبة بالتغيير
وإحياء الكتاب والسنة وإماتة البدعة، ومؤهلات الخليفة ومسؤوليات
الإمام، وعدم أهلية يزيد بن معاوية للخلافة، وإلى الموت والشهادة
في سبيل الله.
ومن الجلي ان هذه الخطوات والأعمال تحمل في طياتها دلالات واضحة
وتؤكد بما لا يقبل الريب في ان مواقف الامام الحسين وتحركاته كانت
تسبقها دراسة موضوعية وإعداد وتخطيط واتخاذ للوسائل المتاحة
والخطوات المناسبة.
4- تصميم الامام الحسين على موقفه
المبدئي رغم تغير الأوضاع:
وتسارعت الأحداث في الكوفة، واداركت السلطة الأموية الموقف فيها
بتعيين عبيدالله بن زياد واليا عليها، بناء على توصية سرجون
المستشار اليهودي ليزيد بن معاوية، كما ينص الطبري وغيره. وتمت
السيطرة على الوضع فيها بممارسة أساليب البطش والإرهاب والإغراء
وشراء الذمم. وانقلب الموقف السياسي في الكوفة لصالح السلطة
الاموية وانتهى الوضع الى مقتل ممثل الامام الحسين مسلم بن عقيل
وهاني بن عروة ورسوليه الآخرين، بالإضافة الى مقتل بعض الزعماء
واعتقال آخرين. ولما علم الإمام الحسين (ع) بتلك التطورات أحاط بمن
كان معه ودعاهم للإنصراف، وظل هو ثابتا على موقفه المبدئي المتمثل
في رفض بيعة يزيد بن معاوية ومعارضته لها مهما كانت النتائج وهي
القضية المحورية في حركة الامام الحسين (ع).
ومما يجدر الإلتفات إليه في هذا السياق، هوأن المؤرخين كالطبري
وغيره ذكروا بأن الإمام الحسين عليه السلام، إطلع على تطورات
الأحداث وتغير الوضع في الكوفة لصالح السلطة الأموية، وهو في زرود
وفي رواية في الثعلبية، وهي بعض المنازل أو المحطات بين مكة
والعراق، ثم لما وصل زبالة، تأكد لديه الخبر، فأخبر به من كان معه،
وقال لهم " فمن أحب منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام ". و
هذا يعني أنه عليه السلام، علم بتغير الوضع السياسي بالكوفة قبل
وصول أول كتيبة عسكرية لملاحقته ومحاصرته بقيادة الحر بن يزيد
التميمي، والتي وصلت والركب الحسيني في شراف.
واللافت في هذا الخبر هو أن الإمام الحسين عليه السلام، وعلى
الرغم من علمه بالإنقلاب الذي حدث في الكوفة، إلا أنه لم يطرأ أي
تحول أو تبدل على موقفه المحوري في حركته، وهو تمسكه بعدم شرعية
خلافة يزيد بن معاوية. بل يذكر الطبري، أن أحدا من بني عكرمة، قال
له في بطن العقبة، وهي منزل قبل محطة شراف، وقبل وصول جيش الحر
التميمي الرياحي، فناشده الله أن ينصرف، وقال له " فو الله ما تقدم
إلا على الأسنة وحد السيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك، لوكانوا
كفوك مؤونة القتال ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا،
فإما على هذه الحال التي تذكرها فإني لا أرى لك أن تفعل " فرد عليه
الإمام الحسين عليه السلام " يا عبد الله ليس يخفى علي الرأي ما
رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره ثم ارتحل " وذكر المفيد في
الإرشاد أنه قال له بعد ذلك " والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه
العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى
يكونوا أذل فرق الأمم ".
5 - رفض كافة عروض الاستسلام:
وحاولت السلطة الاموية أن تؤثر على موقف الامام الحسين (ع)
وخيرته مرارا بين القتل أوالرضوخ بالبيعة ليزيد والإعتراف بشرعيته،
ولكنه رفض كافة العروض من الحكم الأموي وفي محتلف المناسبات. ومن
أهم تلك العروض التي عرضت عليه هي:
أ- لما عزم على الخروج من مكة المكرمة، بعث إليه الوالي الأموي
عمرو بن سعيد بن العاص كتابا يحذره فيه من الشقاق والهلاك ويعرض
عليه " الأمان والصلة والبر وحسن الجوار " فرد عليه الإمام الحسين
كما في تاريخ الطبري " فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله
عزوجل وقال إنني من المسلمين، ودعوت إلى الأمان والبر والصلة، فخير
الأمان أمان الله ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا،
فنسأ ل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانة يوم القيامة.."
ب- عرض عليه الحر الرياحي قائد أول كتيبة تابعة للسلطة الأموية
أرسلت لمحاصرة الامام الحسين في الطريق، عرض عليه ان يدخله الكوفة
على عبيد الله بن زياد سلما. فقال له الحسين "الموت أدنى إليك من
ذلك ".
ج- عرض عليه عمر بن سعد قائد الجيش الاموي رسالة من عبيد الله
ورد فيها: " فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي فابعث بهم الي سلما "
د- عرض عليه في التاسع من المحرم أحد القادة وهوعروة بن قيس "
جاء كتاب الأمير يعرض عليكم ان تنزلوا على حكمه أوننازعكم "
ه- في اليوم العاشر من المحرم التفت اليه قيس بن الأشعث أحد
قادة الجيش قائلا " أولا تنزل على حكم بني عمك فإنهم لن يروك إلا
ما تحب " فأجابه الإمام الحسين عليه السلام " أنت أخو أخيك، أتريد
أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل ؟ ثم قال: لا والله لا
أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد، وفي رواية ولا أفر
فرار العبيد "
و– يروي الطبري وغيره من المؤرخين أن الوالي الأموي عبيد الله
بن زياد، رحب باقتراح تقدم به عبد الله بن أبي المحل، الذي كانت أم
البنين عمته، فكتب أمانا للعباس بن علي وإخوته، وأرسله ابن أبي
المحل مع مولى له يقال كزمان، ولما عرض عليهم، أجابوه " لا حاجة
لنا في أمانكم، أمان الله خير لنا من أمان ابن سمية " وحسب المفيد
في الإرشاد وغيره، أن أحد كبار قادة الجيش الأموي، أو الرجل الثاني
فيه، وهو شمر بن ذي الجوشن الذي وصل توا من الكوفة، دعاهم يوم
التاسع من المحرم، وعرض عليهم الأمان، فردوا عليه قائلين " لعنك
الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ". وحست مقتل
الخوارزمي أن كلاهما عرضا عليهم الأمان. ولا تخفى انها كانت محاولة
مكشوفة لإبعادهم أو تحييدهم عن معسكر الإمام الحسين عليه السلام.
وقد يقال، بان الإمام الحسين عليه السلام، كان يعلم بأن تلكم
العروض كانت عروضا كيدية غير واقعية وغير جدية، وهذا قد يصدق على
بعضها، ولكن لا يختلف أحد في أن موقف الحكم الأموي كان سيختلف من
الإمام الحسين عليه السلام، لو أنه آثر السلامة ورضخ للضغوط
الإجتماعية والسياسية وبايع يزيد بن معاوية وأقر بشرعية خلافته،
سواء منذ اليوم الأول، أوفي أي من وقت من الأوقات، كما فعل غيره من
الصحابة والتابعين.
لقد رفض الإمام الحسين كافة تلك العروض وظل ثابتاً على موقفه
المبدئي الذي اتخذه من أول يوم وإن أدى به الى خوض معركة غير
متكافئة عددياً وتنتهي الى مقتله ومقتل أهل بيته وأنصاره وتؤدي الى
سبي نسائه وأطفاله وقد أعلن " والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل
ولا أقر اقرار العبيد ".
" ألا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة
وهيهات منا الذلة " " ألا واني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد
وخذلان الناصر.. " " إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع
الظالمين إلا برما "
إن ملاحظة الحقائق السابقة بالإضافة الى كلمات الامام الحسين
(ع) وخطاباته التي تؤكد على أن مواقف الإمام الحسين كانت قائمة على
أسس مبدئية واضحة منذ اليوم الأول وأن كافة تحركاته كانت مدروسة
وأنه لم يكن متفاجئاً بنتائج مواقفه وهو القائل مبكرا.. " وأيم
الله لوكنت في ثقب هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني. "
هل عرض الإمام الحسين (ع) أن يضع يده في
يد يزيد بن معاوية ؟:
أورد الطبري ومن نقل عنه من المؤرخين، أن الإمام الحسين عليه
السلام، عرض على عمر بن سعد في كربلاء، أن يرجع إلى المكان الذي
أتى منه، أو أن تسيره السلطة الأموية إلى أي ثغر من ثغور المسلمين،
أو أن يأتي يزيد بن معاوية فيضع يده في يده، ولكن الوالي الأموي
عبيدالله بن زياد على الكوفة والبصرة رفض ذلك، وأصر على أن ينزل
الحسين على حكمه، الأمر الذي رفضه الحسين عليه السلام !!
والواقع ان هذه القصة تم حبكها بطريقة غير ذكية، بحيث تظهر آثار
الحبك عليها بوضوح. كما ان أغراض التشوية لحركة الإمام الحسين
ومواقفه المبدئية جلية عليها. وقد روجها الأمويون كمحاولة لتبرئة
يزيد بن معاوية من جريمة قتل الإمام الحسين عليه السلام، وقد
تبناها بعض أهل الحديث المدافعين عن الحكم الأموي بالفعل. وهي
تتعارض مع منطق الحوادث وتسلسلها، ولا تنسجم مع مواقف وكلمات
الإمام الحسين عليه السلام. من جهة أخرى أن الطبري يذكر بأن عقبة
بن سمعان مولى الرباب زوجة الإمام الحسين عليه السلام الذي رافق
الإمام الحسين منذ المدينة وشاهد كل الحوادث عن كثب، وهوممن بقي من
معسكر الحسين حيا، لكونه لم يكن من المقاتلين أصلا، بخلاف ما ورد
في بعض المصادر من أنه قتل مع الحسين عليه السلام. فقد أنكر عقبة
بن سمعان صحة هذه الحكاية وكذبها، وأكد أن الإمام الحسين قال لهم "
دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس ".
وسوف نبحثها مفصلا في مقالة أخرى.
أما ما ورد في بعض كلماته وخطاباته عليه السلام وكذلك بعض خطب
آله أثناء مسيرة السبي، من قبيل قوله: " اني لم آتكم حتى أتتني
كتبكم.. وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم " فإنه يعبر عن تزامن
تاريخي طبيعي، وعن حقيقة أنهم بالفعل كانوا كتبوا إليه، وكما يتضح
جليا من تسلسل الأحداث. ومن جهة أخرى إنه عليه السلام، انما أشار
إلى في مضمار الإحتجاج المنطقي معهم، لكي يحملهم المسؤولية. كما
انه كان يستهدف من ذلك، التأثير على أفراد الجيش الأموي وتبصير
المضللين منهم، وتغيير قناعاتهم واستقطابهم أو تحييدهم على الأقل،
ويلقي عليهم الحجة. وإلا فبطبيعة الأحداث تثبت أن الحكم الاموي لم
يكن ليتركه (ع) يعيش طليقاً دون أن يبايع ويقر بشرعية خلافة يزيد
بن معاوية.
وهو الأمر الذي كان يتعارض مع الموقف المبدئي الجوهري للإمام
الحسين (ع) والذي أعلنه منذ اليوم الأول من حركته حين قال " مثلي
لا يبايع مثله "، وظل ثابتا عليه حتى الرمق الأخير من حياته حين
قال " لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد ". |