لقد ارسى دعائم الظلم في النظام السياسي الإسلامي حفنة من وعاظ
السلاطين الذين نظـَّروا لحق الحاكم على المحكوم متغافلين عن حق
المحكوم على الحاكم وهم منْ نظـَّروا للإسلام بإعتباره سلطة دنيوية
متناسين أنه شريعة سماوية جاءت من أجل سعادة البشرية وخيِّل لهؤلاء
أن سعادة البشر تكمن في عبادة الحاكم دون الله وأعتقدوا أن السعادة
مطوية في قوة و بطش الحاكم والتفاف الجماعة حوله فكان لمصطلح
(وحدة الجماعة) و (عصا الطاعة) تأثير كبير في بنية التفكير السياسي
الإسلامي مما ساهم في عملية التحريف والتشويه لمبادئ الاسلام
وأدبياته الحركية.
ويستمر تكريس هذا النهج بُعيد وفاة النبي (ص) وتتخذ ملامحه
بالوضوح إذ بان الصراع الدائر بين الامام علي (ع) ومعاوية حينما
استُخدِم القرآن لأستغفال الناس وقد خُدع الكثيرون بهذا التحريف
وأطلق الامام علي قولته الشهيرة (كلمةُ حق ٍ يراد بها باطل) فيتم
التنازل عن الحق من أجل المصلحة, فهل هناك مصلحة إلا بالحق ومع
الحق ياله من تفسير غريب؟ ويتكرر المشهد بين الحسين بن علي وعبد
الله بن عمر, ولكن هذه المرة بصورة أخرى من التشويه للمبادئ
والقيم, فأذا كان المشهد الأول عن سابق أصرار وترصد كان الثاني عن
غير قصد, فنية الصاحبي عبد الله بن عمر الشفقه والنصيحة للحسين
لكن مع نسيان المبادئ التي جاء بها الإسلام وضربها عرض الحائط
وسنرى موقف عبد الله بن عمر مع الحسين بن علي الذي يترجم ذهنية
التشويه والتحريف للقيم في اللاوعي حينما عرض الحسين على عبد الله
نيته في الخروج وإعلان الثورة على يزيد فكان جواب الأخير إنشدك
الله يا أبا عبد الله أن لا تخرج ولا تفرق وحدة الجماعة, ولما رأى
أن الحسين مصمم على التحرك ضد الواقع الفاسد أراد أن يغير مجرى
الحديث وحتى يجعل الحسين رمز للبركة فقط لأنه سبط الرسول وليس عليه
تغير الواقع (كما يعمل في القرآن الآن في تلفزيونات الدول
الإسلامية وفي مراسم العزاء) طلب من الحسين الكشف عن بطنه !!!
ليقبله في الموضع الذي كان النبي يقبل الحسين فيه!!!وعلينا أن
تتأمل في طلب عبد الله بن عمر هذا, ثم قال قولته المعروفة (غلبنا
الحسين بن علي بالخروج , لعمري لقد كان رأي أبيه وأخيه أمراً ,
ورأى من خذلان الناس لهم ,. ما كان ينبغي أن يتحرك ما عاش , وأن
يدخل في صالح الناس (الجماعة) فأن الجماعة خير. وكأن الجماعة
الفاسدة وشيوع المنكرات أفضل من عملية الأصلاح والتغيير , وهذا
الموقف يشابه موقف قريش المشركة عندما قالت لأبي طالب كفّ عنّا ابن
أخيك، فانّه قد سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبابنا وفرّق
جماعتنا.
والعجيب في هذا الموقف أن هذا الصحابي هو من يروي الحديث عن
النبي (ص) القائل (من رأى منكم منكرا ً فليغيره بيده فأن لم يستطع
فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وقول أبي بكر وإني
سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول:"إن الناس إذا
رأَوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمَّهم الله بعقابه.
فكانت المصلحة مقدمة على الحق ووحدة الجماعة مقدمة على العقيدة
والمبدأ, متناسين مبدأ ً قرآنيا ً وسنة ً كونية سار عليه كل
الأنبياء و المصلحين وهو وجوب تغيير الواقع الفاسد مهما كلف ذلك
الأمرمن تضحيات ولو بتفريق وحدة الجماعة وشق عصا الطاعة للحاكم
الظالم.
ومن أجلى صور التحريف الذهني قولة ابن خلدون، وابن العربي ((إن
الحسين قتل بسيف جده)) وجمح ابن خلدون في الانحراف الذهني على
الرغم من اعتباره أهم عالم اجتماع عربي ومسلم ففي مقدمته يذكر أن
الحسين ظهرَ له فُسق يزيد ويؤكد على ذلك بقوله والقول لأبن خلدون
كما ظهر فسقه عند الكافة من أهل عصره (أي عامة الناس) فهو حين
يقول ظهر فسقه عند الحسين وعند عامة الناس فمعنى ذلك اعتراف صريح
من ابن خلدون بأن الحسين كان يشكل رمز للأمة وقائد وعليه تقع
مسؤولية أجتماعية ودينية بأعتباره شخصية مهمة فأشار له بمفرده من
جهة و ابن بنت رسول الله.
من جهة ثانية حيث أن الناس استنجدوا به للخلاص من الحكم
الفاسد ليزيد ولكن ابن خلدون وقع فيما وقع فيه الآخرون من الإنحراف
العقيدي فيقول (وقد بعثت شيعة اهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم
فيقوموا بأمره فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه
لا سيما من له القدرة على ذلك)، ففي التعليق على هذه الجملة أقول
أن الذين بايعوا الحسين وراسلوه لم يكونوا كلهم شيعته بل منهم من
كان على خلاف مع اهل البيت كشبث بن ربعي والحصين بن نمير وغيرهم,
فلم يكونوا شيعة الحسين والدليل أنهم فيما بعد كانوا في المعسكر
المحارب للحسين ولكن الذي دفعهم للمراسلة اسباب كثيرة أهمها البعض
كانت تدفعه المصلحة الشخصية والبعض الآخر كراهة ً ببني أمية والسبب
الأكثر أهمية هو عدم أهلية يزيد لتولي أمور الدولة ولكون توليته
مساس للنار وركون للظالمين و مخالفة صريحة للمبدأ القرآني القائل
(ولا تركنوا للذين ظلموا فتمسكم النار) وقول الرسول صلى الله عليه
وآله (من رأى منكم سلطانا ً جائرا ً مستحلا ً لحرم الله ناكثا لعهد
الله مخالفاً لسنّة رسول الله فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان
حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله).
كل ما تقدم يظهر ان ابن خلدون وبقية المعارضين قدموا المصلحة
على الحق ووحدة الجماعة الفاسدة على وحدة الجماعة الصالحة, فلعل
ابن خلدون وابن العربي وغيرهما لم يكونوا مرائين في كلامهم بل ان
ثقافة التحريف الذهني هي التي كانت مسيطرة على العقول كما حدث
للمتأخرين أيظا ً كأمتداد طبيعي للسلف , ويكمل ابن خلدون قوله عن
الصحابة المتأخرين عن نصرة الحسين فيقول (ولا يذهب بك الغلط أن
تقول بتأثيم الصحابة الذين قعدوا عن نصرة الحسين فأنهم أكثر
الصحاابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه..... فقد كان هذا عن
إجتهاد منهم كما لا يذهب بك الغلط بتصويب قتلته) ان بن خلدون في
هذه المقولة يناقض نفسه فأذا كان الذين تخلفوا عن نصرة الحسين
مجتهدين أذن فما المانع ان يكون القتله مجتهدين أيظا ً ولكن
مخطئين.
لعل القارئ هنا يميز الكلام ويظهر له التناقض, وكل هذا الأمر
يرجع الى الفكر التبريري لدى من تربوا على موائد الحكام ولا يخفى
عن الكثير ان ابن خلدون واحد ا ً من الذين تربوا على هذه الموائد.
ولعل قوله في يزيد يثبت ذلك وهو(ولا تقولن إن يزيد وإن كان فاسقا ً
ولم يُجِز الخروج عليه فأفعالُهُ عندهم صحيحة ,وأعلم إنما ينفذ من
أعمال الفاسق ما كان مشروعا ً , وقتال البغاة عندهم من شرطه أن
يكون مع الأمام العادل, وهو مفقود في مسألتنا , فلا يجوز قتال
الحسين مع يزيد ولا ليزيد , والحسين مثاب في إجتهاده والصحابة
الذين كانوا مع يزيد على حق وإجتهاد) في الحقيقة هذا الكلام يمثل
قمة الأنحراف الذهني لدى شخصية مهمة في تاريخ الثقافة و العربية
والاسلامية , فكيف يكون من قتل الحسين مثاب والمقتول مثاب في آن
واحد على قضية تمثل صراع بين الحق والباطل مع الاعتراف والتأكيد
على فسق القاتل فكيف يمكن ان اكون في جانب الباطل وأثاب على هذا
العمل ,إذن اين العدالة السماوية في جدلية العقاب والثواب اذا كان
الجميع على درجة واحدة ومنزلة واحدة من الحق والباطل.
ومن هنا يتضح لنا ان التسويق للحاكم الظالم والتنظير له هو جراء
ذهنية التحريف التي ابتليَّ بها المسلمون الى يومنا هذا والذي جرت
على الشعوب ويلات كبيرة وكأن عمل رجال الدين ووظيفتهم هي حماية
الظلم والحفاظ على كراسي الدكتاتوريات ففي عهدنا الحالي هناك جمع
من هؤلاء المبررين والوعاظ المنحرفين. فالشيخ محمد الخضري وهو شيخ
أزهري محترم وحامل علم كبير إلا أنه يحمل الى جنب ذلك ذهنية تحريف
كبيرة فيقول عن خروج الحسين (الحسين أخطأ خطأ عظيماً في خروجه هذا
الذي جر على الأمة وبال الفرقة، وزعزع ألفتها إلى يومنا هذا) سوف
لن أعلق على كلامه هذا ولكن اكتفي بالقول اي الفة التي يتحدث عنها
هذا الشيخ الف القتل والتسلط الفة الاضطهاد القومي الذي مارسه
الأمويون على غير العرب , كان الأولى بالشيخ ان يراجع تاريخ
المغرب العربي والعراق ولعله قرأ عن تاريخ الحجاج شيئا ً وهو سيئة
صغيرة من سيئات بني أمية فهل الحجاج كان نتيجة ً لخروج الأمام
الحسين على يزيد وهل الحكام العرب اليوم الذين يناصرون الصهاينة هم
أحد اسباب خروج الحسين وهل ما اصاب الأمة من وهو واستكانة كان
واحدا من الأسباب ايظا ً وهل ما فعله العثمانيون وغيرهم أعمال وحدت
الأمة, وخروج الحسين فرقها الى يومنا هذا كما يقول.
ولكن ذهنية التحريف التي يحملها وعاظ الظلمة ومنظري السلاطين هي
التي كانت وراء إنحطاط الأمة وليس كما يدعي ان خروج الحسين هو
السبب. ولا ننسى في معرض القول هذا أن ذهنية التحريف لها وجهان
الأول وجه المخالفين والمعارضين للثورة الحسينية , ووجه ٌ آخر هو
للموالين و المناصرين للحسين ولعل الوجه الآخر هو الأخطر وألأهم من
الأول فأذا كان الأول عن سابق قصد وأصرار في التحريِّف إلا أنه ذو
وجه واضح يمكن ان يرد عليه ويناقش , إلا ان الثاني هو أخطر كما
بينت لأنه يعطي المبررات والحجج الى الأول.
فما نراه من الممارسات الخاطئة التي يمارسها البعض بحجة الولاء
والحب للأمام الحسين في الحقيقة تسئ الى الثورة الحسينية ومبادئها
العظيمة وتحولها الى مجرد طقوس كرنفالية معتادة لا حياة فيها
ولست هنا بمعرض الحديث عن هذه الأعمال ولكنها بالنتيجة وجه ٌ من
أوجه التحريف الذهني والتي يعتقد ممارسوها أنها ممارسات تعظيمية
للحسين. ولانها كسابقتها هي تحريف ذهني وان كان غير مقصود.
* كاتب وأكاديمي |