ان رسالة الاعلام التي اضطلع بها الامام علي بن الحسين زين
العابدين عليه السلام، لا تقل اهمية عن رسالة الدم التي اضطلع بها
سيد الشهداء الامام الحسين السبط عليه السلام، اذ لولا تحمل السجاد
عليه السلام لرسالة الاعلام لنجح الحزب الاموي في طمس معالم النهضة
الحسينية، ولمحى اي اثر لها في المجتمع الاسلامي بل والانساني بشكل
عام، لما كان يمتلك من الوسائل الضخمة التي سخرها لتضليل الراي
العام وتحريف وجهة المسيرة الحسينية، وهو، الحزب الاموي، الذي مارس
التضليل والخداع والتزوير باخطر وشتى صوره، لدرجة ان الحقيقة كادت
ان تنطلي على الكثير من الناس لولا رسالة الاعلام التي تصدى لها
الامام السجاد عليه السلام، فنجح في ايصال الحقيقة الى العالم ليس
في ذلك المقطع الزمني من تاريخ البشرية فحسب، وانما الى اليوم، بل
والى يوم يبعثون، فلولا رسالة الاعلام السجادية التي تكاملت مع
رسالة الدم الحسينية، لاندثر الدين والحق، ولما بقي من الاسلام الا
اثر بعد عين.
لقد تميز الامام السجاد بسفر ليس له مثيل، الا وهو الصحيفة
الكاملة السجادية التي تعرف بزبور آل محمد (ص) والتي هي عبارة عن
المجموعة الكاملة للادعية العظيمة التي دعا فيها الامام زين
العابدين ربه عز وجل، والتي سعى من خلالها الى اعادة صياغة الشخصية
(الاسلامية) التي دمرتها مخلفات فاجعة كربلاء، تلك الفاجعة التي
اثبتت مدى هشاشة هذه الشخصية، وعدم تشبعها بقيم وتعاليم الاسلام
كدين سماوي خاتم، لدرجة انها اقدمت على فعلتها الشنيعة في قتل سبط
رسول الله (ص) وعدد من اهل بيت الرسول الكريم والصحابة الاجلاء
وحفظة القران ورواة الحديث، وحز الرؤوس ونقلها من ارض المعركة الى
الكوفة ثم الى الشام ورض اجساد الشهداء وحرق خيام النساء والاطفال
وسبي اهل بيت النبوة والامامة، اهل بيت رسول الله (ص) الذين اذهب
الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
ان الفاجعة اكدت عدة حقائق مرة، يمكن تلخيصها بما يلي:
اولا: تهشم الشخصية (الاسلامية) التي فضحتها عاشوراء وكشفت عن
نفاقها وتناقضها وجبنها وانقلابها على نفسها عند مواجهتها اول
اختبار.
ثانيا: سوء العلاقة بينها وبين ربها عز وجل، تلك التي وصفها
الامام السبط عليه السلام بقوله {الناس عبيد الدنيا والدين لعق على
السنتهم، يحوطونه ما درت معائشهم، فاذا محصوا بالبلاء قل
الديانون}.
ثالثا: سوء العلاقات الاجتماعية التي تسببت بها عناصر مثل
انعدام الثقة بين الناس، بسبب سياسات الرشوة والترغيب والترهيب
التي مارسها الحكم الاموي الجائر، والتجسس وتتبع عورات الناس
والكشف عن اسرارهم وفضح خصوصياتهم والتربص والريبة، الى جانب
سياسات التمييز العنصري، التي تكرست على مدى نصف قرن تقريبا.
وبقراءة متانية لنصوص ادعية الصحيفة السجادية، يتبين لنا بان
الامام زين العابدين عليه السلام اراد بها ان يصحح هذه الانحرافات
الخطيرة، من خلال اعادة صياغة الشخصية، اولا، ليعيد لها توازنها
المطلوب، كما سعى بها لاعادة ارتباط هذه الشخصية بخالقها جل وعلا،
وتاليا تصحيح العلاقات الاجتماعية من خلال تحديد معالم الحقوق
الاجتماعية المترتبة بين الجميع، وبين الحاكم والمحكوم وبين العالم
والمتعلم وبين الغني والفقير وبين المراة والرجل وبين الاباء
والابناء.
انها محاولة رسالية رائعة لممارسة التغيير والاصلاح، وهي ذات
الرسالة السماوية التي اضطلع بها رسول الله (ص) وامير المؤمنين علي
بن ابي طالب عليه السلام والحسنان المجتبى والشهيد، في الامة،
بعيدا عن قمع السلطة التي لم يكن بامكانها الامساك بصاحب الرسالة
بالجرم المشهود للاقتصاص منه.
وبذلك تثبت صحة النظرية التي تقول بان ائمة اهل البيت عليهم
السلام يسعون الى هدف واحد، بوسائل شتى تعتمد الواقع والمتغيرات
والظروف الاجتماعية والسياسية والنفسية.
لقد تصدى الامام لرسالة الدعاء لتحقيق تغيير جذري في الامة، من
خلال معالجة الامراض الروحية التي اصيب بها المجتمع، واذا اضفنا
هذه الرسالة الى رسالة التربية والتعليم التي اضطلع بها الامام،
خاصة مع العبيد والطبقة المسحوقة من المجتمع، والتي انتجت آلاف
العلماء الاحرار الذين انتشروا في قبائلهم وفي مختلف المجتمعات،
فسنعرف اي انجاز عظيم حققه الامام السجاد عليه السلام في الامة
مستندا الى رسالة عاشوراء وكربلاء.
ان الدعاء اهم واخطر حبل ممدود بين السماء والارض، انه النسغ
الصاعد من العبد الى ربه عز وجل، ولقد وظفه الامام السجاد عليه
السلام باحسن معنى وافضل تاثير، من خلال تفعيل حضوره الاجتماعي
بشرطه وشروطه.
فالدعاء له تاثير ساحر اذا عرف المرء كيف يوظفه فلا يكون بديلا
عن العمل، وان يقرنه باخلاص النية والتصميم على ترك الذنب وكل ما
هو خطا، والعكس هو الصحيح فقد يتحول الدعاء الى مادة مخدرة عندما
يتصور المرء انه البديل عن العمل، او انه لقلقة لسان، يكفي ان
يتحدث به الى ربه، وهذا خطا كبير، فالدعاء لا يترك اثرا ابدا اذا
لم يكن مقترنا بالتصميم على التغيير.
لقد تحدث القران الكريم في ايات عديدة عن فلسفة الدعاء وشروطه
ومقوماته، ولقد حثتنا آيات الكتاب العزيز على اللجوء الى الدعاء في
الشدة والرخاء، وفي الباساء والضراء، وفي كل حال، شريطة ان لا نشرك
في دعائنا مع الله احدا، فيكون تضرعنا اليه عز وجل، ولا يكون ذلك
الا اذا تيقنا بانه عز وجل هو وحده بيده الامور وهو القادر على كل
شئ.
ففي قوله عز وجل {واذا سالك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة
الداع اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} ما يدل
على ان الدعاء حجر الزاوية في رشد الانسان والارتفاع به الى مصاف
الكمال في الاخلاق والعمل، فبالدعاء يصيب الانسان الحق ويهتدي
اليه، كما ورد في تفسير الاية المذكورة عن الامام جعفر بن محمد
الصادق عليه السلام.
ان الانسان بحاجة الى الدعاء دائما، ليبقى قريبا من ربه عز
وجل، وتزداد الحاجة في ظروف القهر، وفي الظروف العصيبة، كالتي نمر
بها اليوم، نحن العراقيون، فما احرانا الى ان نتوسل الى الله عز
وجل ونتضرع اليه لان يهدينا سبل النجاة والنجاح، ويبصرنا عيوبنا
ويلهمنا التقوى والعمل الصالح، وان يمكننا من تحقيق اهدافنا
العليا، التي نرجو ان تكون لله فيها رضى ولانفسنا ولاجيالنا
القادمة مصلحة واجر وثواب.
قراءات في الزبور
للاسف الشديد، فاننا، عادة، لا نقرا الا عددا محدودا جدا من
ادعية الصحيفة السجادية، وكم اتمنى ان يقرر الواحد منا ان يقراها
بالكامل، وان على مدى عام كامل مثلا، لنكتشف بانفسنا انها مدرسة
كاملة ومتكاملة فيها من:
علوم العقائد، وعلى راسها التوحيد، كما في النصوص التالية؛
{الحمد لله الاول بلا اول كان قبله، والاخر بلا آخر يكون بعده،
الذي قصرت عن رؤيته ابصار الناظرين، وعجزت عن نعته اوهام الواصفين.
ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا، واخترعهم على مشيته اختراعا، ثم
سلك بهم طريق ارادته، وبعثهم في سبيل محبته}.
{والحمد لله على ما عرفنا من نفسه، والهمنا من شكره، وفتح لنا
من ابواب العلم بربوبيته، ودلنا عليه من الاخلاص له في توحيده،
وجنبنا من الالحاد والشك في امره}.
وفي المعاد، كما في النص:
{ثم ضرب له في الحياة اجلا موقوتا، ونصب له امدا محدودا، يتخطى
اليه بايام عمره، ويرهقه باعوام دهره، حتى اذا بلغ اقصى اثره،
واستوعب حساب عمره، قبضه الى ما ندبه اليه من موفور ثوابه، او
محذور عقابه (ليجزي الذين اساؤوا بما عملوا ويجزي الذين احسنوا
بالحسنى) عدلا منه تقدست اسماؤه، وتظاهرت آلاؤه (لا يسال عما يفعل
وهم يسالون)}.
وفي العدل، كما في النص:
{لقد وضع عنا ما لا طاقة لنا به، ولم يكلفنا الا وسعا، ولم
يجشمنا الا يسرا، ولم يدع لاحد منا حجة ولا عذرا، فالهالك منا من
هلك عليه، والسعيد منا من رغب اليه}.
وفيها عن النبوة، كما في النصوص:
{الحمد لله الذي من علينا بمحمد نبيه صلى الله عليه وآله دون
الامم الماضية والقرون السالفة، بقدرته التي لا تعجز عن شئ وان
عظم، ولا يفوتها شئ وان لطف، فختم بنا على جميع من ذرا، وجعلنا
شهداء على من جحد، وكثرنا بمنه على من قل.
اللهم فصل على محمد امينك على وحيك، ونجيبك من خلقك، وصفيك من
عبادك، امام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة، كما نصب لامرك
نفسه، وعرض فيك للمكروه بدنه، وكاشف في الدعاء اليك حامته، وحارب
في رضاك اسرته، وقطع في احياء دينك رحمه، واقصى الادنين على
جحودهم، وقرب الاقصين على استجابتهم لك، ووالى فيك الابعدين، وعادى
فيك الاقربين}.
وفيها عن فلسفة البلاء والامتحان، كما في النص:
{ثم امرنا ليختبر طاعتنا، ونهانا ليختبر شكرنا}.
وفيها من علوم الطب والطبيعة، كما في النصوص:
{والحمد لله الذي ركب فينا آلات البسط، وجعل لنا ادوات القبض،
ومتعنا بارواح الحياة، واثبت فينا جوارح الاعمال، وغذانا بطيبات
الرزق، واغنانا بفضله، واقنانا بمنه}.
وفي التفضيل، كما في النص:
{والحمد لله الذي اختار لنا محاسن الخلق، واجرى علينا طيبات
الرزق، وجعل لنا الفضيلة بالملكة على جميع الخلق، فكل خليقته
منقادة لنا بقدرته، وصائرة الى طاعتنا بعزته}.
وفي اللجوء الى الله تعالى، والتوكل عليه وحده، كما في النصوص:
{اللهم انك من واليت لم يضرره خذلان الخاذلين، ومن اعطيت لم
ينقصه منع المانعين، ومن هديت لم يغوه اضلال المضلين، فصل على محمد
وآله، وامنعنا بعزك من عبادك، واغننا عن غيرك بارفادك، واسلك بنا
سبيل الحق بارشادك.
اللهم صل على محمد وآله، واجعل سلامة قلوبنا في ذكر عظمتك،
وفراغ ابداننا في شكر نعمتك، وانطلاق السنتنا في وصف منتك}.
وفي عظمة خلق الله عز وجل، وحكمته ورحمته بعباده، كما في
النصوص:
{الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوته، وميز بينهما بقدرته،
وجعل لكل واحد منهما حدا محدودا وامدا ممدودا، يولج كل واحد منهما
في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد، فيما يغذوهم به،
وينشئهم عليه.
فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب،
وجعله لباسا ليلبسوا من راحته ومنامه، فيكون ذلك لهم جماما وقوة،
ولينالوا به لذة وشهوة، وخلق لهم النهار مبصرا ليبتغوا فيه من
فضله، وليتسببوا الى رزقه، ويسرحوا في ارضه، طلبا لما فيه نيل
العاجل من دنياهم ودرك الاجل في اخراهم، بكل ذلك يصلح شانهم ويبلوا
اخبارهم، وينظر كيف هم في اوقات طاعته، ومنازل فروضه، ومواقع
احكامه، ليجزي الذين اساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين احسنوا
بالحسنى.
اللهم فلك الحمد على ما فلقت لنا من الاصباح، ومتعتنا به من
ضوء النهار، وبصرتنا من مطالب الاقوات، ووقيتنا فيه من طوارق
الافات، اصبحنا واصبحت الاشياء كلها بجملتها لك، سماؤها وارضها،
وما بثثت في كل واحد منهما ساكنه ومتحركه، ومقيمه وشاخصه، وما علا
في الهواء، وما كن تحت الثرى}.
وفي علاقة الانسان بالزمن، في اطار علاقاته الاجتماعية، كما في
النصوص:
{اللهم صل على محمد وآله، ووفقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه وفي
جميع ايامنا، لاستعمال الخير، وهجران الشر، وشكر النعم، واتباع
السنن، ومجانبة البدع، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحياطة
الاسلام، وانتقاص الباطل واذلاله، ونصرة الحق واعزازه، وارشاد
الضال، ومعاونة الضعيف، وادراك اللهيف.
اللهم صل على محمد وآله، واجعله ايمن يوم عهدناه، وافضل صاحب
صحبناه، وخير وقت ضللنا فيه، واجعلنا من ارضى من مر عليه الليل
والنهار من جملة خلقك، اشكرهم لما اوليت من نعمك، واقومهم بما شرعت
من شرائعك، واوقفهم عما حذرت من نهيك}.
وفي مكارم الاخلاق، وحسن السيرة الاجتماعية، كما في النصوص:
{اللهم اني اعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب، وغلبة الحسد،
وضعف الصبر، وقلة القناعة، وشكاسة الخلق، والحاح الشهوة، وملكة
الحمية، ومتابعة الهوى، وسنة الغفلة، وتعاطي الكلفة، وايثار الباطل
على الحق، والاصرار على الماثم، واستصغار المعصية، واستكبار
الطاعة، ومباهات المكثرين، والازراء بالمقلين، وسوء الولاية لمن
تحت ايدينا، وترك الشكر لمن اصطنع العارفة عندنا، او ان نعضد
ظالما، او نخذل ملهوفا، او نروم ما ليس لنا بحق، او نقول في العلم
بغير علم.
ونعوذ بك ان نطوي على غش احد، وان نعجب باعمالنا، ونمد في
آمالنا، ونعوذ بك من سوء السريرة، واحتقار الصغيرة، وان يستحوذ
علينا الشيطان، او ينكبنا الزمان، او يتهضمنا السلطان.
ونعوذ بك من تناول الاسراف ومن فقدان الكفاف، ونعوذ بك من
شماتة الاعداء، ومن الفقر الى الاكفاء، ومن معيشة في شدة، وميتة
على غير عدة، ونعوذ بك من الحسرة العظمى، والمصيبة الكبرى، واشقى
الشقاء، وسوء المآب، وحرمان الثواب وحلول العقاب}.
كما ان في الصحيفة الكاملة السجادية من مفاهيم الشوق الى الله
تعالى، واللجوء اليه عز وجل دون سواه في كل الامور، والطلب بخواتيم
الخير، والاعتراف بالذنب والتقصير امام الله تعالى، والامل بتوبته
وعدم الياس من رحمته، والتوجه اليه تعالى في طلب الحوائج، والتوسل
اليه عند كل مظلمة يتعرض لها الانسان في حياته، وطلب العافية من
الله تعالى اذا مرض الانسان، والتعوذ بالشيطان والدعاء عليه، الشئ
الكثير جدا، مما يعجز الانسان عن وصف عظمته، وغور كنهه.
انها منظومة كاملة ومتكاملة من المعارف العقائدية والعلمية
والفكرية والفلسفية والعرفانية والحياتية، لا تضاهيها مجموعة ابدا،
ولقد صدق رسول الله (ص) عندما قال {اني تارك فيكم الثقلين، ما ان
تمسكتما بهما لن تضلوا بعدي ابدا، كتاب الله وعترتي اهل بيتي} فهم
بحق كتاب الله الناطق الذي يقول حقا وصدقا.
اما دعاؤه عليه السلام في مكارم الاخلاق، فهو القمة في المعارف
الاجتماعية والتربوية والاخلاقية، ولو ان امرءا كتبه بماء الذهب
وعلقه في منزله ليقراه صباح مساء من اجل اعادة صياغة شخصيته نحو
الافضل على طريق الكمال الانساني، لما وفاه حقه، ولاكتشف فيه، في
كل يوم، معارف جديدة.
فسلام على السجاد من آل محمد (ص) يوم ولد ويوم جاهد في الله حق
جهاده، ويوم استشهد في سبيل الله تعالى ويوم يبعث حيا في مقعد صدق
عند مليك مقتدر.
* محاضرة في مركز الامام المهدي (عج) في العاصمة
الاميركية واشنطن، في ذكرى استشهاد الامام علي بن الحسين بن علي
السجاد عليه السلام في الخامس والعشرين من محرم الحرام. |