ما كان يجري في المعابد من طقوس دينية وتعبّد خالص يعتمد الفطرة
الانسانية، نقلته لنا خطاطات الأقدمين، مؤرخين وعلماء وادباء وعامة
الكتبة، نعم فلقد قرأنا الكثير عما كان يدور في تلك المعابد إذ كان
الانسان يبحث في تلك الطقوس عن الخلاص وقبله عن الراحة النفسية
والاستقرار وهو يواجه مجاهيل الوجود والحياة وتناقضاتها وغرابتها.
ولكن هل نقلت لنا كتب الأنثروبولوجيا او التأريخ او الآداب
بشتى اصنافها واهدافها ومذاهبها طوافا وتعبدا يجمع معا ملايين*
الارواح والاجساد التواقة المؤمنة المتعبدة وهي تطوف حول ضريح لا
يتعدى قطر دائرته المكانية عشرة أمتار ؟!! ، نعم فمن يتسنى له قياس
ضريح الامام الحسين (ع) سيجد أن مساحته لا تتجاوز هذا الرقم، ولكن
حين يحاول أن يحصي عدد الزائرين (وفي هذه الحالة يجب ان يمتلك
مطاولة تفوق مطاولة الانسان) سيصل الى يقين لا يقبل الشك بأن
ملايين الارواح الملازمة لاجسادها قد طافت حول هذا الضريح المقدس
بحثا عن أمل بالفوز بومضة ايمان خالصة تقوده خارج مغاليق الكون
والحياة معا.
وسينهض سؤال ملحّ مؤداه .. ترى ما الذي يدفع الانسان نحو هذا
الطواف، وما الذي يدفعه الى قطع مسافات بعيدة مضنية بإصرار متجدد
وعجيب كي يصل ضريح الامام الحسين (ع) ويمد اصابع كفه ليلامس شباك
الضريح لحظات ثم يمضي سعيدا مستقرا كأنه دوَّن اسمه وروحه وجسده في
بقعة مقدسة تضمن له الخلاص التام؟.
والآن أسألك ايها القارئ الكريم (أنثى أم ذكر) هل جربت ذلك،
أقصد لحظات الطواف الخالدة، وهل لامستْ أناملك ضريح الامام (ع)،
وهل ألمّ بك في ما مضى من عمرك شعور قاطع بالفوز، بالنجاح،
بالسعادة، بالاستقرار والسلام الأبديين، هل عشت لحظات الخلود
سابقا، نعم لقد عشتها أنا حيث كنت واحدا من بين ملايين الزوار
الذين تدفقوا على هذا الضريح المبارك.
وقد عشت تلك الرهبة العظيمة المؤطرة بخشوع عظيم وسعادة لا تشبه
قط سعادات الحياة الدنيا، وأنت تطوف حول الضريح المقدس ستدهمك
علامات وأجواء لا علاقة لها بالارض، أجواء توحي بالقداسة العظمى،
وسترى ببصيرتك النقية صور ملائكة تحف بالضريح المطهّر وهي ترفرف
فوق رؤوس الزائرين وتنثر عليهم بشائر السكينة والسلام، وستسمع
أصواتا لا علاقة لها بأصوات الارض ما تنفك تنشد للخالق الواحد
الأحد وتسبح بحمده وتصلي على النبي الأمين وآله وصحبه الطاهرين
فتنقلك الى الفردوس الأعلى ليندهش القلب وهو يخفق بهدوء بين حنايا
الضلوع الرقيقة وتنشرح العيون وهي تبصر ما تبصر فيعلوها ماء زلال
دافئ يترقرق في المآقي ويهبط دافئا سخيا على الوجنات الوضاءة
والوجوه المشعَّة بالحبور.
ولن تعرف في أي عالم تعيش لحظتها، انك خارج اسوار الارض،
عاليا، قريبا من شعاب السماء، هناك في الأعالي حيث الصفاء على أتمه
والنقاء المذهل يلون روحك وجسدك على السواء، وستعرف أن كل روح
قائمة بذاتها، ملايين الارواح منفردة عن بعضها وإن تكدست الاجساد
فوق بعضها، كل تمثل نفسها، وكل لها لهفتها وتوقها نحو الخلاص، إنها
تكدح كدحا الى ربها، وكل ستحصل على ضالتها وتمضي راضية مرضية،
وهكذا تستمر فورة الانسان وهو يطوف حول الضريح الشريف كأنه سيل لن
يتوقف ما دام الزمن يسابق نفسه.
إنها رحلة قد لا يفهمها من لا يعيشها وقد تصعب وقائعها على
مخيلة من لم يجربها بنفسه، فالبعيد بجسده ربما يكون بعيدا بروحه
ايضا، ولكن سوف أجزم لمن لم يُكتب له الطواف بضريح الحسين (ع) لسبب
ما، بأنه سيعيش لحظات الخلود بعينها لو رُزق بهذا الطواف وسيعرف
ذلك بنفسه من دون ان يستعين بآخر، وسيخرج من هذا الضريح المقدس وهو
على يقين من أنه وصل الى ضالته أيا كانت، وختاما اقول:
إنني حين أكتب بهذا الوضوح وربما بهذه الصرامة عن وقائع الطواف
حول ضريح الحسين (ع) فإنني أعتقد صادقا بتقديم تجربة عشتها بنفسي
وأملي الكبير أن يعيشها أخوتي، أصدقائي، أعدائي، بل العالم اجمع،
أقصد الانسان أينما كان، لأنني وجدت فيها الخلاص، ووجدت فيها
الطريق الأقوم في الحياة، والطريق الأقرب الى الله تعالى، والطريق
الذي يطفئ الصراعات السلبية من أي نوع كانت والوسيلة التي تحيِّد
ألم المجهول والتيه أيا كان نوعه او مصدره، ولعل أحد الناس يقول ان
ذلك يتطلب استعدادا روحيا من نوع خاص، وأنا أقول له، فقط لا تستبق
النتائج بشكوك ووساوس، فقط إترك روحك تقودك دونما ضغوط او هواجس
مسبقة، فقط دع فطرتك التي فطرك الله تعالى عليها هي التي تتصرف،
عند ذاك، ستلمس بيدك قوة شفاعة الحسين (ع) عند الله، ولن يُستثنى
من ذلك حتى أكبر الخطّائين عندما يطهِّر جسده وروحه من ادران
الدنيا قبل ولوجه الى الضريح المقدس. |