يبحث كثير منا عن دور فاعل ما في أكبر تظاهرة دينية، ثقافية،
اجتماعية، وسياسية يعيشها العالم الإسلامي على الأخص الشيعي ،هذه
التظاهرة هي (عاشوراء الحسين (ع))، والتي يشكل فيها الشباب الحسيني
المتوقد بعنفوان كربلاء بركاناً من النشاط والعمل الدءوب؛ حيث تصهر
القيم الحسينية الأرواح والنفوس وتعيد صياغتها وقولبتها بل
وتوظيفها في مسار لو قدر له أن يستمر خارج النطاق الزمني للموسم
الحسيني لتبدلت وقائع كثيرة على الأرض ولكن بشرطها وشروطها؛ لأن
هذه التظاهرة العظيمة بما تعج به من حركة تعبر عن رغبة جامحة
للعطاء ، وتكشف عن طاقات كامنة يمكن من خلال توجيهها وترشيدها
النهوض بالكثير من المشاريع الكبرى.
مفهوم العطاء ومصدره:
إن ظلال معنى العطاء بالمفهوم العام لا يتجاوز معنى الجود في
سعته وقدره ولكن بمجرد أن يقال (العطاء الحسيني) فإنه يضفي على
معناه الفعل المستمر للعطاء بل التنمية المستدامة لمناهل هذا
العطاء وموارده، وهنا ينبغي أن ندرك أن (العطاء الحسيني) هو عطاء
رباني بما للكلمة من معنى.. أوليس كل ما عند الحسين عليه السلام هو
إرث النبيين والصديقين والشهداء؟
بلى نحن نقرأ في زيارة وارث عن أكبر ميراث منذ خلق الله السموات
ومن فيها والأرضين ومن عليها ، هذا الميراث الإلهي هو مصدر العطاء
الحسيني؛ أو ليس (الحسين مصباح هدى) كالشمس تشرق على جميع الخلق
والموجودات في كل يوم وعلى كل أرض ويعمهم بنوره؟ وسواء آمنوا بوجود
هذا النور أم لم يؤمنوا، كذلك فإن الله سبحانه وتعالى يمد جميع
الخلائق بالوجود والنعم والآلاء.
إن الحسين (ع) بوصفه وارث رسالات الله والتي هي من أعظم عطايا
الرب للبشر يمثل عطاءً ربانياً مستمراً؛ وعليه فإن عطاء (رَبُّكَ
عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) و (كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء
مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً )
إذاً فالعطاء الحسيني عطاء غير محدود وغير مجذوذ أي أنه:
1- عطاء لكل البشر.
2- عطاء مستمر لكل زمان ومكان.
مشهدٌ رسم على العرش:
إن مشهد الشموخ الذي أبداه المولى أبي عبد الله الحسين (ع) في
وجه الباطل جعل منه (زين السماوت والأرض) كمثل أعلى للصدق والإخلاص
والصبر والثبات وبالتالي العطاء النوعي المنقطع النظير الذي أدهش
ملائكة السماء والأرض، وأبكاهم، ونال وسام الرضى والقبول بل والفخر
من رب العالمين حيث نقش على يمين عرشه سبحانه (الحسين مصباحُ هدىً
وسفينةُ نجاة).
عن الحسين بن علي أبي طالب عليه السلام قال : دخلت على رسول
الله صلى الله عليه وآله وعنده أبي بن كعب فقال لي رسول الله :
مرحبا بك يا أبا عبد الله يا زين السماوات والأرضين . قال له أبي:
وكيف يكون يا رسول الله زين السماوات والأرضين أحد غيرك ؟ قال: يا
أبي والذي بعثني بالحق نبيا، إن الحسين بن علي في السماء أكبر منه
في الأرض، وإنه لمكتوب عن يمين عرش الله عز وجل: مصباح هدى وسفينة
نجاة، وإمام خير ويمن، وعز وفخر، وعلم وذخر ...)
لذلك فإن المشهد الحسيني الذي حدث في كربلاء هو انعكاس من
تلألأت سرادق العرش.
وليكتمل هذا المشهد الإلهي الحسيني الوضاء فإن الرواية تشهد بأن
الله عزّ وجل هو من قبض روح المولى الحسين (ع) بدون توسط عزرائيل
بقوله تعالى : (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية
فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) .
ولذلك فإن الإمام الصادق يقول: (من زار قبر الحسين عليه السلام
في يوم عاشوراء عارفا بحقه كان كمن زار الله في عرشه).
فلنتأمل هذه المكانة الكبرى التي وسمها الرب الحكيم للإمام
الحسين (ع) فخراً لعطائه وتكريماً وتعظيماً له، من أجل أن نتصور
حجم هذا البذل العظيم.
يقول أحد العارفين: (إن الحسين (ع) أعطى لله كل شيء فأعطاه الله
كل شيء).
العطاء.. حياة:
إن استجلاء عظمة العطاء الحسيني لا ينبغي أن نتكلس أمامها أو
نجمدها كمشهد ساكن تحجزه زجاجة رقيقة ويحده إطار ذهبي سميك!، بل
هذا الإستجلاء الظاهري ينبغي أن يحاكيه حراك باطني في كل قلب وعقل
لتتحول دروس كربلاء لواقع عملي ولثقافة حياتية تنبعث مع كل يوم وفي
كل أرض لتكون (كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء).
إن ثقافة العطاء التي نحتها المولى أبي عبد الله الحسين عليه
السلام في الأمة تعد كنزاً من الكنوز بل سراً من أسرار النهوض
الحضاري لها.
ولا ينبغي فقط أن نوصّف هذه الثقافة بل ينبغي أن نوقن بالقدرة
العجيبة لها على اجتراح المعجزات، حيث لا يقصد هنا قدرتها على
إدارة الغيب في الواقع ومن ثم تغييره بل قدرتها على إحداث تغيير
نوعي وطفرات في الواقع المعاش تعجز كثير من المذاهب والتيارات
الفكرية بمختلف مشاربها على إحداثها وهذا هو معنى اجتراحها
للمعجزات.
المقاومة الإسلامية في لبنان (مثالاً):
لقد استطاعت المقاومة الإسلامية في لبنان عبر شيبها وشبابها أن
تحرز انتصارات تاريخية على مستوى الصراع الإسرائيلي وأن تهزم قوى
الضلال و الاستكبار العالمي نفسياً وميدانياً ولم يكن ذلك إلا ثمرة
من ثمار كربلاء والتفاعل الحي مع القضية الحسينية والفهم المتقدم
والراقي لتقنيات النصر حسب المفهوم الإلهي الحسيني.
ومبكراً أدركت المقاومة أن المعركة تبدأ من العقيدة والمبادئ
والثقافة ولذلك اتجهت لتدشين بنىً تحتية للتعليم والتوعية والتنشئة
من أجل بناء الشخصية الرسالية القادرة على خوض غمار المعارك
النفسية والفكرية ومن ثم الميدانية إن اضطر الأمر، لقد تحول العطاء
لديهم إلى ثقافة حياتية يتنفسونها مع كل صباح، فصاروا يتفنون في
عطاءاتهم (بالدم والتعليم والصحة والبناء، والتخطيط العمراني).
العطاء الرسالي قدم صدق مع الحسين (ع):
لنكن حسينيين حتى خارج الموسم الحسيني، لأن الحسين (ع) لكل
زمان ومكان، فلتكن جميع فصول السنة مواسم حسينية، وبمعنى مساوٍ
(مواسم رسالية)، فلكي تنهض مجتمعاتنا وتتغير للأفضل فلابد من
استدامة العطاء، ولابد أن يكون عطاءنا متناسباً كماً وكيفاً مع
العطاء الحسيني المقدّس.
نحن نقرأ في زيارة عاشوراء (اللهم اجعل لي قدم صدقٍ عندك مع
الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (ع)). وفي هذا
المقطع اشارة واضحة إلى العمل والعطاء فلكي تتقدم وتقترب من مقام
الحسين (ع) لابد وأن تحب عمل الحسين وعطاءه وهذا الحب يحتاج أن
تبرهن على صدق دعواك فيه بقرينة (إجعل لي) فقطعاً ليس المراد أن
يجعلني أحب الحسين وأصحابه إذا المحبة القلبية حاصلة ولكن المقصود
هو أن يجعل الله لي ولك عملاً صالحاً يكون تصديقاً لهذا الحب
وبالتالي هذا العمل يسهم في التقدم نحو الحسين والتقرب من مقامه
العالي في الدنيا حيث نقف مواقفه الشريفة، وفي الآخرة في جنات
النعيم، وفي هذا المقطع (الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (ع))، تلميح
آخر وتلويح بأن أقواماً طلبوا من الله قدم صدقٍ عند الله لهم مع
الحسين فصار قدم صدقهم ذبحهم وترميل نسائهم؛ وبذلك استحقوا صحبة
الحسين (ع) في الدنيا والآخرة، فعلينا أن نجيب على السؤال المُلِح
التالي: هل أنت مستعد لبذل مهجتك في سبيل الله وعلى خطى الحسين
(ع)؟
إذاً فمجرد المحبة لا تكفي للوصول لمقام الشهادة على الأمة فقدم
الصدق مع الحسين (ع) تعني الفعل وليس فقط الانفعال.
وعي العطاء:
إن عطاء الإمام الحسين (ع) النوعي لا يكافئه إلا عطاء نوعي من
الشباب الرسالي الواعي لذلك يجدر بنا البحث عن نوعية العطاء، فماذا
سأعطي وأين ومتى وكيف والأهم من ذلك معرفة (لماذا) والتي تعني
الهدف والغاية من كل ذلك وتضمن اتساق الوسيلة مع الهدف.
ثمرة الإخلاص العطاء:
في رائعة من روائع أمير المؤمنين علي عليه السلام من الحكم يشبه
فيها الإخلاص بالشجرة الحية المنتجة والمثمرة ولكن (ثمرة الإخلاص
العمل) فإذا أردت أن توفق لعمل رسالي فتجرد مع ذاتك لله من كل
أوثان القلب وسترى أنك توفق للعمل كنتيجة حتمية.
ونحن نرى مشاهد كثيرة في كربلاء تمثل ذروة الإخلاص وسنامه بل في
كل مقاطعها شاهد على ذلك لا سيما مشهد الحسين (ع) وهو يهوي على
بوغاء كربلاء صريعاً قائلاً:(باسم الله وبالله وعلى ملة رسول
الله..) ، ويترنم في مشهد العشق والإخلاص لله بهذه الأبيات
المعروفة:(إلهي تركت الخلق طراً في هواكا ...). ونتيجة لهذا
الإخلاص امتدت كربلاء عطاءً واسعاً حتى يومنا هذا .
الصبر وقود العطاء:
إن من أهم عناصر توهج كربلاء كمصداق بل كمدرسة للعطاء توافر
قيمة الصبر فيها بشكل لا محدود لأنك في كل عمل تحتاج إلى طاقة ما
لفعله بمقدار 20% من مجهودك اليومي مثلاً ولكنك لكي تستطيع
الاستمرار عليه فإنك تحتاج أضعاف هذه النسبة وإذا نظرنا لتضحيات
كربلاء التي تفوق التصور سندرك أن الصبر فيها وعليها قد فاق حد
الخيال.
وحينما أمر الإمام الحسين عليه السلام أخته زينب (ع) بالصبر
الجميل كان هذا عطاء آخر قدمه(ع) لنا كدرس عظيم، وكذلك فهو يعني
الإستمرارية والثبات على ذات الخط الحسيني لأن الصبر جزء عظيم في
معركة الحق مع الباطل.
لذلك نجد أن صبر زينب (ع) تحول إلى عملٍ فصار حرباً إعلامية
ونفسيةً على الطاغوت.
الأنصار روح العطاء المتجدد:
لقد ضرب أنصار الإمام الحسين (ع) أروع الأمثلة لحرارة روح
العطاء وتوقده واشتعاله، تجد ذلك جلياً في خطابهم للحسين (ع) حين
اختبرهم ليلة العاشر فقام كل منهم خطيباً يعرض يقينه الجهادي وعزمه
وثباته على البذل والتضحية ، حتى قال قائلهم (... لو علمت أني
أقتل فيك، ثم أحيى، ثم أحرقُ حياً ثم أدرى يفعل بي سبعين مرة ما
فارقتك، حتى ألقى حِمامي دونك ...) .
إن هذا العزم على العطاء هو عزم حقيقي وإرادة جادة ومسئولة تعبر
عن إدراك واعٍ لقيمة العطاء في الحياة ولقيمة الحياة بالعطاء، لذلك
فأرواحهم متقدة نشاطاً وحيويةً .. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (ع) في خطبة له في يصف فيها المتقين: (.. ولو لا الأجل الذي
كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى
الثواب، وخوفاً من العقاب...) .
وهكذا ينبغي لنا أن نكون في عزم متجدد للبذل والعطاء والتضحية
بكل أنواعها.
العطاء تكامل وبناء:
كثيرة هي الدروس التي نتعلمها من هذا الموسم العظيم .. ولو
التفتنا إلى (ديناميكية) العمل الحاصل في هذا الموسم وكيف تتكامل
فيه الأدوار بشكل تلقائي انطلاقاً من تبني كل منا لدور ما يسد حاجة
عاشورائية، لو تأملنا لهذه الروح الجمعية –بغض النظر عن النواقص-
لوجدنا أن بناءً حضارياً عظيماً نحن أهل له بانتظارنا شرط أن نعمل
له في سائر العام، فإذا كانت قضية الحسين (ع) (الجسد المقطّع)
نتظاهر لها 10 أيام من كل عام فإن قضيته الأخرى (الحق المضيّع)
ينبغي أن نعمل لها طول العام. |