شبكة النبأ: كان الجو مشحوناً
بالتوتر والغموض يزيد من وطأته على أهل الشام وهم يستقبلون موكب
سبايا آل محمد في حضرة يزيد بن معاوية، وهم بعد بين الحق والباطل،
كما هو حالهم في عهد أبيه عندما زجّهم الى الحرب ضد أمير المؤمنين
وخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)...
طلب الامام زين العابدين من يزيد أن يصعد (الأعواد) ليتكلم (ما
فيه لله رضىً ولهؤلاء الناس أجر وثواب...)، كما جاء في طلبه (عليه
السلام)، فبعد أن شقّ طريقه نحو (المنبر) الموجود في قصر يزيد، خطب
الامام بالناس معرفاً نفسه بدايةً ومن يكون ومن هو أبيه وجده
وأسرته، ثم عرض قضيته التي هي قضية الرسالة التي ملئت الأرجاء
وصدحت بالتعاليم والقيم والاخلاقية والانسانية، منذ بزوغ فجرها على
خاتم الانبياء محمد (صلى الله عليه وآله)، وبذلك كان الامام علي بن
الحسين زين العابدين (عليه السلام)، الذي يقال كثيرا في أدبياتنا
بانه كان مريضاً يوم عاشوراء، أول من صعد المنبر وأول قارئ للمجلس
الحسيني في التاريخ.
لم يأت المنبر الحسيني ترفاً أو هوايةً أو مخاضاً لفكرة خاصة،
وإنما ابداعاً لوسيلة عظيمة من أجل تحقيق هدف أعظم وغاية سامية،
لذا حُظي بمكانة خاصة في المؤسسة الدينية الشيعية منذ تأسيس الحوزة
العلمية، وتطور المجتمع الشيعي، فاذا كان مرجع الدين والحوزة
العلمية البيت الذي يلجأ اليه كل من يطلب الصلاح والفلاح في دينه
ودنياه وآخرته، فان الخطيب الحسيني يُعد أهم أبواب هذا البيت؛
فالحوزة العلمية تبين للناس الحدود الشرعية لمختلف شؤون الحياة
إستناداً الى كتاب الله وسنّة نبيه وسيرة أهل البيت (عليهم
السلام)، ويأتي دور الخطيب الحسيني ليبين كيفية الدفاع والحفاظ على
تلك الحدود، كما فعل تماماً الامام الحسين (عليه السلام)، في أرض
كربلاء، بل في عموم نهضته المقدسة ضد إنحراف الحكم الأموي.
ومن أبرز من حمل هذه المهمة الرسالية العظيمة هو الشيخ الشهيد
عبد الزهراء الكعبي (رحمه الله)، الذي جسّد الثورة على الذات
والبناء الثقافي في المنبر الحسيني، وكان من أهم طموحاته إخراج
المنبر الحسيني من إطاره المحدود بالاثارات العاطفية المؤقتة الى
رحاب الثقافة والفكر الأصيل والمتجذر في عمق الرسالة المحمدية.
إن المناسبة التي دعتنا لتسليط الضوء على الشهيد الكعبي لم تكن
تقليدية، مثل التزامن مع يوم ولادته أو وفاته، وإنما هي مناسبة
عاشورائية، لأن اسمه لا يبرح أيام عاشوراء لاسيما يوم العاشر من
محرم منذ أول مرة قرأ فيها المجلس الشهير والمسهب المعروف
بـ(المقتل) في ستينات القرن الماضي.
ولد الشيخ عبد الزهراء بن الشيخ فلاح بن الشيخ عباس بن الشيخ
وادي الكعبي في مدينة كربلاء المقدسة في الخامس عشر من جمادي الأول
وهو يوم ذكرى مولد فاطمة الزهراء (عليها السلام) عام 1327هـ
الموافق لعام 1909 ولذلك سمي بـ(عبد الزهراء)، وتوفي في 15 من
جمادي الثاني وهو ذكرى وفاة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، في عام
1394هـ الموافق لعام 1973م.
ولسنا بصدد شرح سيرة حياة هذا الخطيب البطل، ونرجو ان نوفق في
فرصة أخرى للحديث عن هذه الشخصية المنبرية الحسينية، لكننا بصدد
الحديث عن المنبر الحسيني ودوره المطلوب في المجتمع، وأقل ما يمكن
أن يقال عن الشهيد الكعبي، انه برع في ابتكار اسلوب جديد لعرض
مصيبة الامام الحسين (عليه السلام) من على المنبر، وكان ذلك في أوج
المواجهة الفكرية والثقافية بين الدين والافكار الوافدة من ماركسية
وقومية وغيرها، فكان لابد من إخراج المنبر الحسيني من الروتين
والقوالب الجاهزة والمواضيع المطروقة والمتكررة، فادخل الى المنبر
الحسيني أسلوب السرد القصصي، ليكون أشبه بسيناريو فيلم كامل لملحمة
مدوّية.
إن أمرين امتزجا مع بعضهما، حوّلا (المقتل) سواءً الخاص بيوم
العاشر من محرم أو الخاص بيوم الأربعين، الى نتاج مثير وآسر للقلوب
والمشاعر والعقول أيضاً: الأمر الأول: يتعلق بالحالة الداخلية لنفس
الشهيد الكعبي، حيث انطلق (المقتل) من أعماق الولاء والحبّ للامام
الحسين (عليه السلام)، يحمله خلوص النية لوجه الله تعالى وليس لأي
شئ آخر، والأمر الآخر: يتعلق بالحالة الخارجية والظروف المحيطة
بـ(المقتل)، فكان بحق يمثل تحدياً صارخاً لكل المدعين برفع
الشعارات الانسانية من أصحاب الافكار الدخيلة الذين كانوا يملكون
سلطة المال والسلاح والسياسة، والأهم من كل ذلك المبدأ سئ الصيت:
(الغاية تبرر الوسيلة). فكان المنبر يُحظر في وقت الضحى من يوم
العاشر من محرم الحرام في كربلاء المقدسة، ليعتلي الشهيد الكعبي
أمام أنظار قوى الشرطة وعيون السلطة، ويحشد المشاعر ويثير الآهات
ثم يوجهها لتلبية داعي الله، بعد أن يطوف بهم في ساحة المعركة
التاريخية الخالدة بين الحق والباطل، حيث يستصرخ الامام الحسين
(عليه السلام) منادياً الأجيال عبر التاريخ: (هل من ناصر ينصرني).
ومن أعجب المفارقات في قصة حياة الشهيد الكعبي، ان نظام البعث
البائد، واصل بثّ (المقتل) طوال سنوات حكمه، حتى في أحلك الظروف
وفي سني الثمانينات، رغم انه كان ألدّ أعداء البعث وتوجهاتهم
المنحرفة، وكان من أبرز علائم الخطر الذي استشعروه منذ تسلقهم
أسوار السلطة في شهر تموز عام 1968، فالشيخ الكعبي لم يمت حتف
أنفه، وإنما شهيداً بسمّ دُسّ اليه على يد أحد أعوان السلطة، فبعد
تدهور صحته وهو على المنبر، حُمل الى المستشفى، لكن في الطريق طلب
التوقف والمنزول من السيارة، وينقل مقربين من الشيخ انه تقيأ دماً
على جانب الطريق، لذا عندما وصل الى المستشفى لم يكلف الأطباء
أنفسهم عناء العلاج بعد معرفتهم بأصل القضية، فأمروا باخراجه
وإعادته الى البيت ليتخلصوا من تبعات موته مسموماً في المستشفى.
إن المنبر الحسيني يستذكر دائماً الشيخ عبد الزهراء الكعبي، بل
وينتظر الجيل الجديد من الخطباء لاسيما مع حصول التغير الكبير في
العراق، لان يقتفوا أثره، بل أن يواصلوا طريق الابداع والتطوير في
المنبر الحسيني، بما يخدم القضية الحسينية المقدسة. |