ما هو أسمى مقام يمكن أن يصل إليه الإنسان في دورة قناعاته
اعتقاداً وانتماءً؟
لقد قيل أن مقام الإنسان وقيمته الحقيقية تتحقق في أن يكون
حرّاً يؤمن بأن الحرية هي صفته الفارقة بينه وبين سائر الناس،
وعندئذ لابد أن يقاتل ويناضل من أجل تحقيقها، وقد قيل أن أسمى ما
يمكن ان تصل إليه البشرية وأعذب حسّ يمكن أن تشعر بإنسانيتها فيه
هو العقل، والتمسّك بالفعل العاقل والحسّ العقلائي بما ينتجه تصور
الإنسان عبر عصارة ذهنه، وقال آخرون أن أسمى القيم هي قيمة العلم
والمعرفة، فبمقدار ما يمتلك من رصيد علمي سيحصل على درجة أعلى بين
سائر الأمم. وقد أضيف لتلك القيم أو جلعت منفردة عنها قيمة أخرى هي
قيمة القوّة، بما تمثل من هيمنة وتحكم في سائر الناس والأشياء من
حول الإنسان.
وعبر التدقيق والإنصاف للحقائق، تتكشف لنا بصائر مهمة في معرفة
القيم ونشأتها، وبالتالي يمكن أن تتحدد مجالاتها وغاياتها، ثم تضفي
للأشياء قيمتها وتبرز حقيقة معدنها، لنعرف أي مقامات الإنسان أسمى،
وأي السبل لمعرفتها أقوم.
نزع التقديس وإضفاؤه
من ناحية نظرية لقد تحطمت قناعات الكثير من منظري الفكر الغربي،
في تقديس القوة والنزعة المادية الصرفة أمام حقائق التاريخ ووقائع
الأيام وتقلباتها وأزماتها، وهي تتكشّف لهم يوماً بعد يوم، ولكن
بقيت تبعاتها العملية متجسدة في واقع سياساتهم، فمنطق القوة وتقديس
المادة، هو الذي أفقر الكثير من الشعوب وعرّضهم للمجاعات من أجل
الحفاظ على رأس المال ومن أجل الاحتماء بالفائض، لكي لا يقل منسوب
القوة لديهم فالقوة الاقتصادية وظيفة من وظائف السيادة، وهو الذي
جعل ديمقراطيتهم تعني الهيمنة على الشعوب مهما تناقضت ممارساتهم مع
ادعاءاتهم، فتناقض المدعى مع الواقع، وتكشف النتائج وتفاقم
المشكلات، أوضح دليل على انهيار مبدأ القوة والمادية من قاموس
القيم.
وقد برزت أصوات تقول بالحداثة أو ما بعدها، فعمدت لنزع رداء
القداسة عن كافة القيم التي يؤمن بها الإنسان، وبرّزت قيمة العلم
والعقل والحرية، وفي الحقيقة، إن الحداثة بهذا النهج، قد أضافت
قداسة أخرى، تمحورت حول "النفس" و "الذات"، تحت مسمّى العقل،
واعتبرت الحداثة كمنهج نقدي ونظري له قداسة عظيمة، ففي الوقت الذي
حاربوا فيه السلفية عملوا بروح السلفية التي لا تمتلك أي جذور،
وقسموا الناس ووصفوهم بتصنيفات " الظلامية والتنويرية" بعد أن
رفضوا تصنيفات الناس من رب الناس وإلههم. فوقعوا بذلك فيما يأخذونه
على الفكر الإسلامي، وتمحوروا حول ما ابتدعته أنفسهم، ويظنون بذلك
أنهم يتبعون نور العقل وهداه، وما ذلك إلا مشكل نفسي وقعوا فيه،
ناشيء من تكبر الإنسان وطغيانه، ولهذا السبب أو السر نرى أن القرآن
الكريم يعالج أكبر مشكلات الإنسان العقلية في المعتقدات وصناعة
القيم "الكفر والشرك مثالاً" من خلال المعالجة النفسية من حيث هم
يشعرون أو هم لا يشعرون.
الله منشأ القيم
العلم والعقل والحرية وما إلى ذلك كلها قيم بالفعل، إلا أن
انحراف المسار قد يصيب الإنسان إذا لم يعرف منشأ القيم، ومن خلال
معرفة المنشأ تتحدد المسارات والغايات كضمانة عن الإنحراف، إن
كثيراً من المدارس الفكرية التي ابتنى عليها الفكر الغربي المعاصر،
وبالتالي انساق معها حداثيو العرب من غير هدى، كثيرا منها قامت على
جعل القيم هي مقود للإنسان، والإنسان هو الذي يسوقها إلى حيث يحتاج
ويشعر ويرغب، لا العكس، وبعض ادعوا الواقعية وانتزعوا قيمهم التي
تحقق لهم أسمى المقامات، من الواقع، فأصبحت عندهم القيم تتكوّن من
افرازات الواقع بما يلائم احتياجات الإنسان، فتتطور مع تطوّر تلك
الاحتياجات.
في حين أن ما يراد من القيم هو أن تعطي للناس مقاماتهم لكي
يصبحوا ذوي قيمة اعتبارية ومعنوية، ولتعطيهم مقياساً للأشياء، فمن
الخطأ المنهجي أن يكون الإنسان هو الذي يحدّد ما يعطي ذاته القيمة،
فلابد من جهة اعتبارية أعلى شأناً هي التي تحقق ذلك، ومع أن بعض
مفكري الغرب قد حاول أن يسدّ هذه الثغرة بالقول بأن "الكلي" أو
"المجموع" وتشابكها مع "احتياجات الفرد" يمكنها أن تحدد القيم
لتقدّم مصلحة المجموع على مصلحة الفرد، أو ماشابه ذلك من معالجات،
لم تصمد أمام حقيقة أن الإنسان بحاجة إلى معايير ومقاييس لا تأخذ
سلطتها من الإنسان ذاته، ولا تنتزع من واقعه المأزوم.
وهذه الحقيقة يمكن أن نتبصرها في ما قاله الإمام أبي جعفر (ع):
(أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً فيحب عليه ويبغض). فلا يمكن أن
يكون الإنسان هو منشأ تحديد قيمة نفسه.
فأقوى أساس يمكن أن نؤسس عليه قيمة القيم، هو أن الله تعالى هو
مصدرها وهو الذي يعطي للأشياء قيمتها، لتكون بعد ذلك ميزاناً بين
ماهو عالي الشأن وما هو دون ذلك، لأن الله هو الذي خلق الإنسان وهو
أعرف به منه، لذلك فإن قيمة العدل والعلم والعقل يمكن أن تتحدد
مساراتها بتحديد الله لها، ويمكن معرفة مقاصدها وغاياتها التي هي
مقاصد الدين وغاياته، كضمانة للحصول على مقاييس ثابتة لا تتأثر
بنفسية القائل أو بواقعه.
معارج القيم
يتقلّب الإنسان في معراج القيم ويتسامى في مدارجها طوراً بعد
طور في مسار تكاملي، ليصل إلى أسمى ما يمكن أن يصل إليه بني
الإنسان، أو يقترب من ذلك قاب قوسين أو أدنى، فلقد قال الله تعالى:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
[الذاريات : 56]، فالعبادة هي المسار الذي يتقلّب فيه الإنسان
ليتصل بالقيم اتصالاً حقيقياً، والعبادة تعني فيما تعني أن يكون
الإنسان خاضعاً لسلطة الله، لا لسلطة النفس ولا لسلطة الشيطان
ووساوسه، الذي يدخل إليه من رغباته وشهواته، فقيمة "العبادة" لها
مسارات ولها غايات، فمساراتها الإلتزام بسلطة الحق والإذعان
والتواضع للحق في كل حركة وفي كل رأي، وغاياتها تسنم الإنسان مدارج
الكمال.
لقد قال الإمام علي أمير المؤمنين (ع): (لأنسبن الإسلام نسبة لم
ينسبها أحد قبلي. الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين. واليقين
هو التصديق، والتصديق هو الاقرار، والإقرار هو الأداء والأداء هو
العمل). فهذه سيرورة الإنسان وتقلبه في معارج القيم، ومن ذلك
يمكننا أن نقول بأن حركة الإنسان في التسامي بالقيم، تأخذ بعدين:
الأول: البعد النظري، ويمثله الإيمان.
الثاني: البعد العملي، ويمثله التطبيق من خلال المصداق الحقيقي.
الحسين أسمى مصداق
فالعبادة الحقيقية هي التي تقود للتصديق، والتصديق هو البحث عن
مصداق الحق وامتثال طاعته، كما قال نوح لقومه: (أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) [نوح : 3]، حيث دعاهم لعبادة
الله التي تؤدي في نهاية المطاف إلى طاعة نبيه، وما لم تؤدِ عبادة
الله غاياتها من الإمتثال للحق الذي يتجلّى للناس في أوليائه الذين
اصطفاهم، فإن ذلك الإيمان يذهب أدراج الرياح ويصبح منزوع القيمة،
فقد ادعت الأعراب أنها آمنت بالله، إلا أن الله قال: (قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن
تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ
شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات : 14].
من خلال هذه النظرية في تحقيق تسامي الإنسان من خلال القيم،
يأتي التطبيق الجلي للعبادة في الإيمان بالإمام الحسين (ع)،
والإيمان بقضيته التي فصلت بين الحق والباطل، وهنا تحديداً الفارق
الكبير بين ما تنتجه حداثة الغرب، وما تنتجه حداثة الإمام الحسين
(ع)، فمعادلة القيم ومساراتها تستدعي أن تكون هنالك إفرازات
للقناعات والمعتقدات، تتجسد في مواقف عملية، لأن القيم إنما وضعت
في الأساس للتمييز بين الأشياء والفصل بين خيرها وشرها.
فمن منظار حداثي نظري تتضح لنا حقيقة أن الإمام الحسين (ع) كان
تطبيقاً عملياً لسلطة الحق، حيث الإيمان بقيمة العبادة لله يقتضي
طاعة الإمام باعتباره وارث رسالات الله كلها، وباعتبار ذريته
امتداداً لسلطة الحق حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فيتسامى
الإنسان المنتمي للإمام الحسين (ع) ويصل إلى أعلى مقام، فتكون
زيارته موجبة للجنة، والبكاء عليه حطًاً للذنوب، وانتهاج نهجه
هداية ونجاة للعباد.
لذلك كان الإنتماء للإمام الحسين (ع) هو أسمى مقام يصل إليه
الإنسان من خلال قيمة العبادة التي تفرز الإنتماء الحقيقي للإمامة
ومصداقها الجلي ـ الإمام الحسين(ع)ـ، لأنه وارث الرسالات وامتداد
النبوة، وهو من النبي (ص) والنبي منه، كما قال (ص)، فلا يكون في
صدر المؤمن حرج من أن يصنّف الناس بتصنيفات تأخذ في اعتبارها
الإنتماء الحسيني من جهة والإنتماء اليزيدي من جهة أخرى.
ويمكننا استكشاف سمو ذلك الإنتماء الحسيني المقدّس ومدى علو
شأنه في يوم عرفة، حيث يقف حجّاج بيت الله الحرام في موقفهم العظيم
في عرفات ليغفر الله لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وفي المقابل
وفي ذات الوقت يقف على أرض كربلاء المقدّسة زوّار الإمام الحسين
(ع)، فينظر الله برحمته إلى زوار الإمام الحسين (ع) قبل أن ينظر
لأهل عرفات، كما في الرواية، لأن زوار الحسين هم الصفوة من سائر
العباد، وهم الذين عبدوا الله حق عبادته، فأشفعوا عبادتهم بالعمل
والتصديق، حيث قال الإمام الباقر (ع): في قوله تعالى: (فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ينبغي للناس أن
يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه، وأن يلقونا حيث كنّا،
نحن الأدلاء على الله).
www.mosawy.org |