من العوامل التي أدامت زخم الحضور الانساني وأسهمت في تطوره
ورقيّه هو عامل الإيثار والتضحية الذي تتصف به النفوس المتميزة،
وكذلك قدرة الانسان (الصالح) على التخلي عن النوازع ذات المنفعة
الشخصية الصرف، والتوجه الى مساندة الخير في تصديه لبوادر الشر
بالوسائل المتاحة، وبهذه الصفة التي يتميز بها الانسان الصالح دونا
عن المخلوقات الأخرى التي شاركته ملء شعاب الارض، تمكن الأخير من
إدامة رحلته الانسانية نحو الأفضل على الرغم من العوائق التي
أفرزتها الاهوال الطبيعية والبشرية ووضعتها في طريقه القويم.
ويمكن لمن تابع الوضع البشري عبر المدونات التأريخية وعير
تجربته الذاتية، أن يجد في بعض التجارب الانسانية الخالدة ما يبحث
عنه من دروس او تقويمات في هذا الصدد.
ولعل واقعة الطف التي تشكل الذروة في ثورة الامام الحسين (ع) هي
من ذلك النوع الخالد من التجارب الانسانية التي تقدم دروسها
المجانية لمن يبحث عنها او يرغب بها.
فلقد صاغتها ارواح عظيمة مترفعة عن الخطل او الزلل المتوقع مهما
قلَّ حجمه او صغرت آثاره، فالحسين (ع) بروحه المتوقدة بالايثار
والشجاعة والاقدام وبقدرته المباركة على تحشيد الخير ضد الشر
ومعاقله، إستطاع أن ينمّي روح التضحية وفروعها العديدة لدى مجموعة
من الصحابة الابرار ناهيك عن ارواح ذويه التي تشكل امتدادا للسلالة
النبوية المقدسة، فبهذه الارواح المؤمنة الخلاقة واجه الامام
الحسين (ع) سيول الانحراف التي سادت الدولة الاسلامية بعد أن خلت
الساحة من القادة المؤمنين العظام، أولئك الذين يضعون مصالحهم
الفردية او العائلية في آخر المطاف أو (أسفل القائمة) ويفضلون على
أنفسهم وذويهم ضعفاء القوم ومساكينهم وفقراءهم، وجل ما يذهبون اليه
في اهدافهم، هو صنع الانسان الصالح الذي يمتلك القدرة العالية على
تجاوز نفسه وصدها وتحجيم طلباتها النازعة الى الشر والى حب الجاه
والتملك وما الى ذلك من المغريات الضحلة لحياة الصراعات البائسة.
لقد قال لنا التأريخ بوضوح ان هذا النوع من الارواح لايمكن أن
يتحصّل عليه الكائن البشري العادي، فهي ارواح تقارب ارواح الانبياء
الذين رفعوا لواء البشرية من قعر الدناءة والبؤس الى أعلى مراتب
العزة والكرامة الآدمية، وقد فعلوا ذلك بالعمل وليس بالقول فحسب،
أي انهم طبقوا تعاليمهم على انفسهم وعلى الاقربين من ذويهم
واصحابهم أولا، ثم عمموا تلك التعليمات على عامة الناس والأمم كي
ترقى وتتقدم وتنتصر وتترفع على الصغائر من الامور، وكان حادي هذه
التعليمات النبوية وبيرقها هو الايثار العظيم وكانت شعلتها
المتوقدة هي التضحية الخلاقة.
وهكذا كان ذوي الامام الحسين (ع) وأصحابه المؤمنين المضحين
الناكرين لذواتهم ومقدمين الفعل الانساني الخالد على الافعال
الزائلة، كما فعل الحر (إسما وفعلا) بن الرياحي الذي قفز من خانة
البؤس والتردي الى خانة العظمة الانسانية الخالدة حين قرر في لحظات
حرة متألقة ان يضرب كل مغريات الدنيا والشر عرض الحائط ويضع نصب
عينيه عظمة الروح الانسانية وقوتها وهي تقف الى جانب الشرف
الانساني وعظمة الحق والخير وكل الصفات الانسانية الخالدة.
انه الايثار اذن وروح التضحية التي بثّها الامام الحسين (ع) بين
أهله وصحبه ليرقى بهم الى مصاف الارواح التي يكدح الانسان - منذ أن
وطأ الارض- كي يصل الى مستواها ويتجمل بها حيال الكائنات الاخرى.
فحري بكل من يرى في الامام الحسين (ع) مثالا وسبيلا الى الخلاص
أن يأخذ من هذه المبادئ وينهل من هذا الفكر الخلاّق عملا وقولا
وهذا هو المهم، فمن غير المقبول أن نمشي وراء مبادئ الامام (ع) ولا
نطبق ما تريده منا من أفعال قبل الأقوال، ولعلها فرصة لنا تتجدد كل
عام في مثل هذه الايام الحسينية الخالدة ان نلجأ لهذا الفكر العظيم
ونرسم من خلاله طريقا قويما لحياتنا وحياة الآخرين منذ الآن.
|