معركة عاشوراء مسيرة قد يعتقد البعض بأنها بدأت وانتهت في
كربلاء، هذه المعركة لم يكن فيها تشابه في طرفيها على الإطلاق، ومن
حاول أو يحاول إن يصور بان القضية كانت أشبه بصراع سياسي فهو أما
جاهل أو متجاهل للحقيقة. حيث تجلى فيها سفك للدماء وقتل الأنفس
وتجاوز سافر لكل حقوق الإنسان والتي كانت تلتزم بها حتى أعراف
الجاهلية من قبل.
فهذه المسيرة كانت ولازالت بين خطي الإنسانية المتحركين على
طول الزمن، الأول بكل ما يمثله من اهدافها وغاياتها بالانعتاق من
الظلم والاستبداد وحب الخير للناس ومساواتهم في حقوقهم وواجباتهم
حيث لا فرق بين ابيض و اسود ولا عربي وأعجمي إلا بالتقوى وهو نهج
رسول الله وامتداده الطبيعي المتمثل ببنت نبيه(حسين مني وأنا من
حسين).
ليقابله الطرف الآخر المتمثل باستعباد الإنسان وإخضاعه بالنار
والحديد من اجل التسلط والشهوة الدنيوية الزائلة، والحكم بأي طريقة
تضمن سلامة العرش وبقائه، حتى وان كان ذلك الأمير فاسقا لاعبا
للفهود والقردة، و متخذا من الإسلام غطاءا لحكمه.
لقد كان تحرك الإمام الحسين (ع) مستندا على حركة سلمية تهدف
الى الاصلاح والتقويم منذ اليوم الأول لمسيرته الشريفة، عندما عزم
على الخروج من مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)
وسأله بعض أصحابه لما الخروج يابن بنت رسول الله فذكرهم بحقوق
الناس وظلاماتهم ولم يذكر لنفسه شيئا بقوله: ( إلا ترون إن الحق لا
يعمل به وان المنكر لا يتناهى عنه...)، وهل كان ذلك الحق الذي لا
يعمل به من قبل يزيد وأتباعه الا سلبا لحقوق الفقراء والمحرومين،
والمنكر الذي يرتكبونه إلا فسادا في الأرض وعلوا بحق من ليس له
ناصر من العباد والبسطاء من الناس ، فكانت دعوة الانطلاق أن (افشوا
العدل في الناس فهم عبيد الله وانتم مثلهم).
ليصل بعدها الى بيت الله وحرمه وليسرع بالخروج منه قبل حلول
فريضة الحج ليس خوفا على نفسه وإنما حرمة لتلك الشعيرة المقدسة
وذلك البيت العتيق فهو يعلم بان أعداءه (رجال غدر وليسوا رجال
ميدان)، وقد يجعلوا من مناسك الحج فرصة لإراقة دماء الناس في داخل
الكعبة فكان تكليفه الشرعي تفويت الفرصة على من أراد إثارة العنف
في أقدس مكان، وهذا ما صدح به صوت (أمير الفاسقين) يزيد مخاطبا
قيادات جيشه عندما أراد البيعة من الإمام الحسين (ع) (.....اقتلوه
ولو كان متعلقا بأسوار الكعبة..).
في هذا كله لم يكن الحسين(ع) خائفا من ملاقاة الموت أو مواجهة
الباطل بل، كي لا يترك حجة الا وألقاها على من ألقى السمع وهو
شهيد، وكي يعلم الناس بان لا نبتدئ قتال أحدا قط ما دامت الطرق
ممكنة لغير ذلك، وهكذا كان في معركة العاشر من محرم، عندما تقدم
احد قيادات الحسين (ع) ليطلق سهما تجاه جيش عمر بن سعد فرده الحسين
قائلا(... اكره أن أبدأهم بقتال قط...).
سلوك اللاعنف الذي تمسك به سيد الشهداء هو مصداق وامتداد واقعي
لرسالة الحياة التي جاء بها جده رسول الله ، والتي تمثلت بأقوال
وأفعال كثيرة حيث يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) موجهاً حديثه إلى
الإمام علي(ع):
( يا علي إنّ من صفات المؤمن: أن يكون عظيماً حلمه، جميل
المنازعة، أوسع الناس صدراً، أذلهم نفساً .. لا يؤذي من لا يؤذيه
.. وأصلد من الصلد .. لين الجانب طويل الصمت، حليماً إذا جهل عليه
صبوراً على من أساء إليه .. حليماً رفيقاً ذا قوة في لين وعزمة في
يقين ... إذا قدر عفا .. لسانه لا يغرق في بغضه .. يعطف على أخيه
بزلته .
وفي ذلك المنحى يشير الإمام السيد محمد الشيرازي (قدس سره)
بقوله:
(يحرّم الإسلام الغدر والاغتيال والإرعاب وكل ما يسمى اليوم
بالعنف والإرهاب، فإنه لا عنف في الإسلام، ولا يجوز أي نوع من
أعمال العنف والإرهاب الذي يوجب إيذاء الناس وإرعابهم، والغدر بهم
وبحياتهم، أو يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين).
هذه الرسالة التي تعكس لك الإسلام بحقيقته والتي كرست لخدمة
العباد والبلاد، وبعد أن سلك أبا الأحرار جميع الطرق التي حاول
فيها إنقاذ كل من سمعه صوته من سفك دماء ليس لله فيها رضا ولا
لاحدا فيها مبتغى سوا انه إشباع لشهوة شخص متسلط على رقاب المسلمين
بالنار والحديد، لم يجد مناصا من ملاقاة الحتوف بشجاعة محمدية
وشهامة علوية وكبرياء الأبطال ويرسم لرافضي الذل والهوان بعده
نظرية العز والإباء، ولحن الخلود والبقاء.
ومن هنا نستخلص دروس عديدة منها:
1- إن رسالة الإسلام هي رسالة السلام والحب والخير لبني البشر
بعيدا عن العنف والإخضاع والتفرقة والتمييز.
2- الترفع عن جميع الإساءات وبذل الجهد لإصلاح الفاسد من أمور
المسلمين، وتقديم جميع الحلول الممكنة بعيدا عن التطرف والتعصب.
3- جسد الإمام معاني حقوق الإنسان بأروع صورها، بالبكاء حتى على
أعداءه حين لم ينفع معهم النصح والإرشاد.
4- ان رسالة الامام الحسين (ع) في عاشوراء كانت قائمة على ابعاد
سلمية تتخذ من وسائل اللاعنف طريقا لنشر الهداية والرحمة
والاستقامة واصلاح ذات البين وتحقيق الحرية والعدالة، بما ينسجم مع
اغراض رسالة الاسلام الاساسية.
ان الامام الحسين (ع) اليوم يعيش في ضمير كل محروم ومظلوم في
أرجاء المعمورة وليس في عقول وضمائر المسلمين فقط، لأنه جسد إرادة
الخير والعدل والمساواة بين بني البشر بعيدا عن انتمائهم واحسابهم
وأنسابهم.
إنه طريق اللاعنف الذي يصل الى كل مرافئ الخير والصلاح والحب
والإيثار لبني البشر، إنه شموخ الإباء وقوة الرجال التي لا تنحني
أمام الخيانة وتنصل الأمة عن واجبها في نصرة القائد الحقيقي.
وقباله العنف الذي يتخذ من النار والحديد مطرقة للوصول الكراسي
والعروش، ولكن انظر لمن الخلود والحياة الحقيقية إنها لمن (آثر
مصارع الكرام على طاعة اللئام).
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |