في إشراقة شهر محرم الحرام، وفي مثل هذه الايام من كل عام،
يتوقف قلب الزمن ويستكين الكون الى الصمت وتنحو بصائر وأبصار
البشرية الى الشعلة الانسانية الأبدية الوقادة التي تحمل اسم
الحسين بن عبد الله في مأثرته الخالدة التي يعجز الزمن على جبروته
وسطوته القاهرة عن تذليل ألقها الانساني السامي مابقي هذا الزمن
دائرا ومابقيت انفاس الانسان تتسربل بأنفاس الكون الالهي الباهر.
فلقد بدأت تباشير الامل في مثل هذه الايام تلوح للانسان وهو
يحادد الظلم ويجالده ويقارعه بنهج انساني يرتكز في فعله ونواياه
الى نبع الخير الذي لا ينضب في اعماق الانسانية الحقة وبدأت جولة
من جولات الانسان الذي ينتمي الى روح الاله الواحد الأحد والى
صفِّه، فهي جولة خارقة في واقعيتها حيث شعَّ نورها الباذخ ليشمل
أصقاع الارض وآماد السماء، تلك هي مأثرة الامام الحسين بن علي
عليهما السلام، وتلك هي صرخة الحق الانسانية التي لا تخبو ولن
يتخافت صوتها مهما تقادم بها الزمن وأضفى عليها من قِدَمهِ وجبروته
القائم على إطفاء الاشياء وإخمادها، لقد قيل الكثير الكثير في
المأثرة الحسينية الخالدة حين ولدت وستبقى فنارا عظيما وشاهقا
لرجالات الأرض الذين نهضوا بأممهم فوق مآرب الطواغيت والظلمة.
فهذا غاندي الهند الذي قال (اذا ارادت الهند ان تنتصر فعليها
ان تتعلم من سيرة الحسين) وها هو قائد الهند الكبير ينهل من هذه
المأثرة ومن هذا الفكر الانساني الخالد وهو يشمخ بشعبه عاليا عاليا
لطرد المحتلين آخذا بسلاح السلم والتسامح قوة لا تضاهيها حتى قوة
الـ TNT وسائر المتفجرات والقوى المادية العاجزة أمام قوة الروح
التي تنتمي الى الله، وثمة مثل غاندي كثير من رجالات الارض
وأفذاذها الذين وجدوا في الفكر الحسيني منبع قوة وارادة انسانية لا
تجف وهم يرفعون أنفسهم واراداتهم واذرعهم لإحقاق الحق وتيسير حياة
الانسان وتعظيمها وتقويتها وهو يغذُّ الخطى في رحلة ابدية وشاقة
صوب السماء.
لقد امتدت مبادئ الفكر الحسيني الذي انبثق في ارض كربلاء
المقدسة لتشمل بنورها سائر اصقاع الارض ولعلنا لا نقول جديدا اذا
قلنا ان انسانية هذا الفكر وعظمته واصطفافه الى جانب الانسان هي
السبب الاول والأخير في بقائه مشعا ما بقيت الحياة على الارض، وهنا
يجدر بنا القول ان من هم اقرب الى الحسين (ع) اجسادا وعقولا وأمكنة
يتحملون الوزر الأكبر في تطبيق فكره الانساني الخالد على ارض
الواقع، وان من المعيب حقا ان نجد انسانا (وأناسا) في أواخر الارض
يجعلون من هذا الفكر منهاج عمل تطبيقي لحياتهم ويرتفعون بها على
الصغائر ويسعدون هم ورعيتهم بعيشة راضية مرضية، وبعضنا يرتع في
مستنقع الدنايا ويضيع في بحار الرذيلة ويرفع راية الظلم على اخوانه
في الدين والخلق أملا في كسب زائل لا يسمن ولا يشبع من جوع إلاّ
النفوس التواقة الى رغائب كأنها الزبد الذي سيذهب جفاءً.
ان هذه المناسبة على عظمتها وجلالها تقودنا الآن الى ما نحن
عليه سواء بارادتنا ام من دونها وهنا أقصد (العراقيين) على الأقل،
اننا قريبون من الحسين (ع) بأجسادنا وأمكنتنا ولكن البعض بعيدون
عنه وعن فكره ومبادئه الخلاقة بأفعالهم ونواياهم ايضا، ومثلما قلت
قبل قليل بأن غيرنا سعد وتطور بهدي المبادئ والقيم الحسينية
الجليلة، فإن بعضنا بهذا القدر وأكثر ابتعدوا عن هذه المبادئ
والقيم وهي في مجملها انسانية المنحى ديدنها الخير والصلاح ودرء
الظلم وكف الايذاء عن بني البشر ضعفاء كانوا أم اقوياء.
كما ان هذا الفكر الانساني الخالد يؤكد سعيه الى العدل
والمساواة وتكافؤ الفرص والتسامح ويرفض الظلم رفضا قاطعا ويقبل
الرأي الآخر وعدم فرض الرأي بالقوة بأي شكل كان او تحت اية ذرائع
كانت، فلا اكراه في الدين او غيره من الآراء او الافكار إلاّ ما
يتعارض مع خير الانسان، فما أعظمها من قيم تلك التي تدعو وتتمنى
الهدى والخير حتى لاعدائها فما أحوجنا نحن العراقيون للرجوع اليها
فكرا وتطبيقا.
ويجدر هنا أن أنأى بنفسي عن الوعظ الذي صار سمة من سمات واقعنا
حيث القول لا يُردَف بالفعل ولا يلتقيان إلاّ ما ندر متناسين بذلك
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنو لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كبر
مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) سورة الصف /آية 2 + 3 ،
ولكن لعل كلمة في هذه المناسبة العظيمة تصل الى بصائر ربما فارقها
النور منذ زمن والتفَّتْ حولها حبائل الظلام ونست او تناست معاناة
الانسان وهو يكدح الى ربه ليل نهار نائما او قائما ذلك ان
(المعاناة هي الطريق الأقرب الى الله) كما قال الكاتب اليوناني
المهم كازانتزاكي في كتابه - الطريق الى غريكو- ومعاناة الحسين (ع)
ليس هناك أعظم منها ولا أجلّ لذا علينا أن نجعل من هذه المعاناة
والمبادئ جسرا الى الوئام والتصالح والتسامح بيننا ولنتذكر دائما
بأن سعادتنا التي تنهض على حرمان الآخرين وشبعنا القائم على تجويع
الآخرين وفرحنا الناهض على أحزان الآخرين هو طريقنا الأقصر الى
التعاسة الأبدية. |