المحامي جميل عودة*
ترك الإمام الشيرازي آثارا طيبة على فكري وسلوكي؛ تارة قبل أن
أعرفه، ومرة بعد أن عرفته، وثالثة بعد رحيله.
-الأثر الأول:- هو عندما كنت أتجول في (كوج) قم حيث المكتبات
و(بسطيات) الكتب بحثا عن كتب دراسية وفكرية تلبي حاجتي في الثقافة
الإسلامية؛ وأنا العراقي القادم للتو من بلد يحكمه حزب ورجل مستبدان،
لا يعطيان للثقافة والعلم وزنا، ولا يعيران للطامحين قدرا، وما زلت
حديث العهد بأسماء المفكرين والعلماء والمراجع في المدينة.
في أثناء ذلك كنت أجد أعدادا كثيرة من الكتيبات ذات الحجم
الصغير، تُباع بثمن بخس، مذيلة باسم (محمد الحسيني الشيرازي) فكنت أقول
في نفسي أن هذه الكتيبات لا قيمة لها ولا نفع! ولو كانت ذا قيمة
ومضمونا جيدا لاقتناها القراء، ولأصبحت نادرة، ككتب الآخرين الغالية
الثمن.
وبالتالي، كنت أعزف المرة تلو المرة عن اقتنائها-كعادة الذين
يهتمون بالقشور دون اللب- ولم أكلف نفسي بتقليب أوراقها. وهكذا استمر
الحال شهورا حتى أهداني أحد أصدقائي ممن يتردد على مكتب سماحته، كتابا
يحمل عنوان(الشورى في الإسلام) وطلب مني مطالعته، لان فيه معلومات قيمة
عن الحكم في الإسلام.
أخذت أطالع صفحاته، فوجدت فيه ما لم أجد في كتاب (الحكومة
الإسلامية) للأمام الخميني، حيث كنت مولعا بمطالعة الكتب الإسلامية
التي تعنى بشؤون السلطة والحكم في الإسلام من باب الاختصاص، وكنت أريد
أن أقتنع بوجود نظام إسلامي لا يقوم على أساس الإكراه والاستبداد
والاستفراد، نظام إسلامي فيه ميزات النظام الديمقراطي الحر الذي تملك
فيه الأمة والشعوب إرادتها، وتتحكم في مصيرها، ولا يعطى للرجل الواحد
بعد النبي والإمام سلطتهما.
نظام الشورى في الحكم -كما جاء في كتب الشورى في الإسلام- فتح
أمامي آفاقا رحبة، وزودني برؤى سياسية جديدة، وجعلني المدافع القوي عن
ضرورة تبني حكومة إسلامية شورورية (شورى الفقهاء) وكانت هذه بدايتي مع
الإمام الشيرازي ومنذ تلك اللحظة، أخذت أتردد على مكتب سماحته هناك،
فالتمس إدارة المكتب بتزويدي بكتب السيد مرة، وأتوسل إليها أخرى. وأخذت
اطلع تباعا كتاب (الحكم في الإسلام) وكتاب (فقه القانون) و(فقه
السياسية) وهي من أروع ما كتب الأمام وفصل بها، بل لا نجد لها نظر في
دائرة الإسلامية، وكتب غيرها.
مع كل هذا التحول وشغفي بمطالعة كتب السيد واعتمادها مصادرا في
بحوثي وكتاباتي ومقالاتي، إلا أن السؤال السابق ظل قائما! فإذا كان
الإمام الشيرازي بهذا المستوى من العلم والتفكير والكتابة والتنظير،
فلماذا تطبع كتبه بهذه الطريقة وتباع بنفسها؟ إلا يكون ذلك مؤثرا على
نتاجاته الفكرية الكبيرة؟ فكيف يطبع مضمون كبير على أوراق صغيرة تالفة؟
وكان يدور في خلدي، أن اقترح على إدارة مكتبه أن يعيدوا طباعة كتب
السيد، كما تطبع كتب غيره في مطابع لبنان، وتباع بسعر جيد، ولكني عدلت
عن رأي، وقلت: أهل البيت أدرى بالبيت.
وذات يوم، وبينما كنت أطالع كتابا آخر من كتب سماحته، لا أتذكر ما
اسمه لعله(الحركة الإسلامية) كتب الأمام الشيرازي ما مضمونه( إن على كل
مسلم مقتدر قادر على التأليف والكتابة أن يكتب ويفكر للإسلام، وعلينا
أن نطبع الألف من الكتب ذات الحجم الصغير ونقوم بتوزيعها في كل مكان أو
نبيعها بثمن زهيد، لكي يستطيع كل مسلم من اقتنائها، كما يستطيع أن
يأخذها معه في سفره وترحاله، كأن يضعها في حقيبته أو جيبه، فيطلع
ويستفيد، وطبع كمية كبيرة من الكتب الإسلامية هي ذات فائدة، فلعل الشخص
عندما يذهب إلى مكان ما ولا يقرأ، ثم يذهب إلى مكان آخر ويجد نسخة أخرى
من ذلك الكتاب يقرأه، وقد يقتنيه رجل فلا يقرا ولكن زوجته وأبنائه
يقرءونه فيستفيدون منه ويفيدون أقارنهم ).
عند ذاك فقط، أدركت حكمة الإمام الشيرازي من طبعه كتبه على شكل
كتيبات صغيره، وفي تأكيده على طباعة الكتب الإسلامية بهذه الطريقة.
وكانت هذه الحكمة وراء انتشار كتبه في كل بيت وجامع ومدرسة وحوزة، وقد
رأيت بأمي عيني أن مخيمات اللاجئين العراقيين في إيران لا يخلو بيت
فيها من كتب آية الله الشيرازي، يطالعونها في أيام الشتاء القارص
بالقرب من المدفئ النفطية وبيوتهم مغطاة بـ(الوفر)!.
-الأثر الثاني:- كان الإمام الشيرازي كثير الكتابة والتأليف، وهي
خاصية تميز بها عن غيره من العلماء والمجتهدين والمراجع، وقد أثار ذلك
حفيظة ضعاف النفوس! كيف يتسع لإنسان أن يؤلف أكثر من ألف كتاب قيم في
هذا العمر القصير؟ هل هذا إلا ضرب من الخيال. وكنت ممن داخلني الشك،
فلكي نكتب صفحة من مقالة فنحن بحاجة إلى ساعات طوال، نكتب ونحذف ونعدل،
وهكذا دواليك حتى نكتب مقالة أو بحثا مقبولا؟ ولما كنت اطلب الحقيقة
ليس إلا اتجهت إلى المقربين من السيد وإلى أعوانه وإلى أبنائه وأخوته ,
وأخذت اجمع معلومات عن حياته الشخصية بصورة مباشرة وأخرى غير مباشرة.
متى يقرا؟ ومتى يكتب؟ وما هي علاقته بأسرته؟ وكيف يعامل أولاده؟
فوجدت أن الإمام الشيرازي ما عنى بشيء كما عني بتقسيم أوقاته،
وكان كثير المطالعة والكتابة في آن واحد، كما كان يتمتع بذاكرة قوية لا
مثيل لها، فهو يحفظ المواقف واللقاءات والكلمات والأشخاص، ويتملك قوة
تعبير، وأدب رفيع. لذا فان من قرأ كتبه يجد أنه يتحدث عن تفاصيل غاية
في الدقة أثناء لقاءاته مع علماء ومسؤولين ورجال الأدب والسياسة في
الخمسينيات من القرن الماضي، كما أن محاضراته ودروسه لطلبته في البحث
الخارج ومحاضراته في الأخلاق والثقافة والاجتماع هي عبارة عن كتب قيمة،
وكان يساعده في طباعتها وتبويبها ثلة من الشباب المؤمنين الذين آمنوا
بفكره ومواقفه.
وعند ذلك أدركت أن الشيرازي هو الرجل الذي قهر الوقت، وأن ألف كتاب،
جزء من موسوعة ظلت حبيسة صدره الرحب.
-الأثر الثالث:- عندما كنت أزور سماحة السيد بين الحين والحين في
مكتبه في مدينة قم حيث كان يخصص جزء من وقته للقاء الناس والتعرف
إليهم، وقضاء حاجاتهم، وحل مشاكلهم، والإجابة على أسئلتهم. وبالطبع لم
يكن مكتبه يخلو من زحمة الزائرين، فمجموعة تجلس وأخرى تنصرف وهكذا.
وكان الإمام الشيرازي يحب كثيرا أن يجلس مع العراقيين المغتربين
والمهاجرين، وكان يذكرهم بالعراق وخيره، ويستمتع باللقاء معهم، وكل
واحد يجلس إليه أول مرة يسأله من أي محافظة أنت، فيقول مثلا من
الناصرية، فيتحدث سماحته عن الناصرية وعمرانها وأهلها وقصص دارت فيها
وملوك أور والعثمانيين، ووقائع وأحداث يجهلها حتى أهلها. ثم يقول له من
أي منطقة؟ فيقول له من سوق الشيوخ فيتحدث سماحته عن سوق الشيوخ ويسأله
عن بعض الأفراد والعائلات ويروي قصة ثورة العشرين، ودور أهالي سوق
الشيوخ، حتى تظن للوهلة الأولى أن السيد من أهل تلك المدينة!.
كان سماحة الإمام يتحدث إلى جميع جلسائها، ويوزع عليهم نظراته
بالتساوي، فلا يفضل احد على احد، ولا يختص بأحد جلسائه دون الآخرين،
إلا بقدر قضاء الحاجات الخاصة لكل زائر. ومن بين زياراتي له كنت أريد
أن يطلع على الإصدار الجديد من مجلة (الدولية) التي كنت أديرها وهي
مجلة تعنى بشؤون حقوق الإنسان في العراق من حيث انتهاكات حقوق الإنسان،
وتتضمن جزء من مبادئ حقوق الإنسان في الإسلام. وكان السيد يطلع على
المجلة صفحة بعد صفحة بعد صفحة، ويبدي رأيه في كل موضوع من موضوعاتها،
وأتذكر انه وعندما هممنا بالخروج، واخرج بعضنا قال لي (تعال، تعال،
فجلست أمامه، وقلت نعم سيدنا، فقال لي: أنت تعرف إنكليزي، فقلت له:
قليل سيدنا. فقال يعني تعرف أترجم هذه المجلة إلى الانكليزية. فقلت له:
لا سيدنا. فقال لي أتعلم الإنكليزي، وترجم هذه المجلة حتى يعرف الغرب
أن حقوق الإنسان من روح الإسلام، لا تخرج عنه.
-الأثر الرابع:- كان يوم وفاته رحمه الله، وكان يوما حزينا بمعنى
الكلمة، وكل ما كان يشغل فكري في ذلك الوقت هو أن الإمام الشيرازي كان
يتمنى أن يعود إلى العراق، فلم يشتاق عالم من العلماء إلى العراق-بحسب
ما أظن- كما كان يحن الإمام الشيرازي إلى كربلاء المقدسة، وكان أكثر
تفاؤلا وأملا، وفي أكثر من مرة في لقائنا معه نحن( الشباب الرسالي) كان
يقول لنا أن النظام البعثي سوف يسقط عن قريب وستعودون إلى العراق، وقد
ألف في ذلك كتاب اسمه (إذا قام الاسلام في العراق) وكنت حاضرا لما ألقى
محاضراته الأخيرة- قبيل وفاته- حول العراق ويبدو لي أنها مسجلة، وطبعت
على شكل كتيب، ولكن الموت لم يمهله، فارتحل الإمام عنا في إحدى
مستشفيات مدينة قم، ولما علم المحبون وإتباعه -وهم كثر- قدموا من كل
حدب وصوب، وتجمع يوم تشيع جثمانه المئات من أهل الجزيرة والكويت
والبحرين وعلماء ورجال السياسية فضلا عن العراقيين، وكان وجود العرب
الخليجيين وهم يرتدون الزي العربي الدشداشة والشماغ الأحمر ملفت للنظر
وللإيرانيين، كما كان عدد النساء كبير جدا وملفت للنظر أيضا.
كان حديث المشيعين انه في أي مكان سوف يدفن الإمام، منهم من يقول
سوف يدفن في مكتبه، بناء على وصيته (رحمه الله) وقد حفر قبره في ساحة
المكتب ومكان مصلى والدرس، إلى أن يتم نقله جثمانه إلى العراق (كربلاء)
في حال سقوط البعث، وأخر يقول سوف يدفن بالقرب من ضريح فاطمة
المعصومة(ع). وبين هذا القول وذلك، نُقل جثمانه الطاهر بحضور الآلاف من
المشيعين، ووسط بكاء وعويل وأقاويل فمنهم من يقول هذا نعش وهمي وان
الإمام دفن في بيته، ومنهم من يقول أن هذا النعش هو الجثمان حقيقي
على أية حال حملنا نعش الإمام إلى ضريح فاطمة معصومة، وبين إرادة
السلطة الإيرانية في دفنه بالقرب من باب ضريح فاطمة المعصومة، وإرادة
أنصاره في دفنه في موضع آخر، أعيد جثمانه الطاهر، وحمله أتباعه قاصدين
به الرجوع إلى داره، وبين هؤلاء وهؤلاء كسر التابوت، وكاد يسقط جثمانه
رحمه الله، وأعيد مرة ثانية إلى مرقد فاطمة المعصومة، ودفن هناك وقبره
اليوم مزار لمن عرف الشيرازي.
إن تقويم مسيرة عبقري، قضى حياته علما وجهادا، كآية الله العظمى
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي( قدس سره) فيها حرج كبير لا تدفعه
إلا كلمات الثناء والتقدير التي تُقال أو تُكتب تخليدا لذكراه السنوية،
وتنبيه للامة والشعب لمسيرة (الشيرازي) المرجع والقائد.
لقد كفّى ووفّى الإمام محمد الشيرازي، إنجازاته وآثاره ذائعة
الصيت، فمن ذا الذي يُذكر في حضرته اسم (الشيرازي) ولا يقف إجلالا
وإكبارا له؟. العلم والبحث والكتابة، القيادة والتضحية والتواضع، كلها
صفات تجسدت في شخصه، فجعلت منه مجتهدا في غير زمانه، وقائدا في غير
مكانه، فعاش مظلوما ومات مظلما، عزائه في ذلك كله جده ومقتدائه الحسين
عليه السلام.
لا اعتقد أمامنا، ولا أمام أنصاره إلا خيار نشر علمه وفضائله،
وتجسيد عزمه وإرادته، ولا يكون ذلك إلا بالعمل في خطين متوازين،
إحداهما الفكر، وثانيهما السياسية.
*مستشار وزير الدولة لشؤون المجتمع المدني
24/رمضان/ 1427هـ |