هنالك بعض الرجال يتعدّى تأثيرهم دائرتهم
الشخصية لينتقل إلى دوائر واسعة ذات أبعاد وأفق اجتماعية أو سياسية
أو فكرية، وقد نشهد بعض المؤثّرين ممن برعوا في جانب واحد من الجوانب
المذكورة، إلا أن المتابع بسعة إطلاعية وشمول لشخصية المرجع الديني
الكبير الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى في شهر شوّال من العام 1422
للهجرة، السيد محمد الحسيني الشيرازي ،الذي تصادف هذه الأيام
|
محمود الموسوي*
|
ذكرى رحيله الثالثة، سيجده منفرداً في الكثير من
الصفات، كما يجتمع مع غيره في صفات أخرى، ومن تلك الصفات التي اختص بها
أنه كان صاحب تأثير على مستوى تكوين مدرسة نوعية داخل التفكير الديني،
هذه المدرسة لم تقتصر على المنحى العلمي في الدرس الفقهي أو الإصولي، ولم
تكن مختصرة في أبعاد سياسية، أو اجتماعية وحسب، وإنما كانت مدرسة شمولية
في علميتها، وسياسيتها واجتماعيتها وثقافيتها، وذات سمات متكاملة في كل
تلك الأبعاد، أي إن تلك المدرسة الشيرازية لها سمات عامّة تلحظها في
مختلف الأبعاد التي تحرّكت خلالها.
أمّا نصيب السعة والتأثير، فقد أخذت مداها وانتشرت
هذه المدرسة في الكثير من البلدان وتأسّست مجموعة كبيرة من المراكز
والجمعيات والأحزاب والمدارس وغيرها لتعمل من خلالها الكوادر التي تبنّت
الفكر الشيرازي، وقد عملت كافّة المؤسسات بكل جهد للعمل وفق معطيات هذه
المدرسة، رغم التحديات والصعوبات التي واجهتها من أطراف عدّة، توزّعت بين
التحديات التي أملتها الحكومات المختلفة من ضغوط عامّة بطبيعة النفس
الديكتاتوري السائد، والتحديات المجتمعية التي قادتها فئات حزبية اعتمدت
روحية الحسد أو التفرّد وإلغاء الآخر، ورغم كل ما واجه تيار المدرسة
الشيرازية من صعوبات إلا أن هذا الفكر أخذ في الإنطلاق والتوسع، ومن
المناطق المهمّة والتي ظهرت فيها سمات هذه المدرسة هي الساحة البحرينية،
وكانت متزامنة في ذلك مع الدول الخليجية الأخرى كالكويت والمملكة العربية
السعودية، لذلك نجد أنه بمجرد حلول شهر شوال من كل عام تنطلق الفعاليات
المختلفة في دول كثيرة عربية وغربية وخليجية للتأبين ولإحياء ذكرى وفاته،
عبر الإحتفالات والمهرجانات والمؤتمرات والندوات وإصدار الكتب وتخصيص
الملفات في المجلاّت وما إلى ذلك، و مملكة البحرين كانت من الدول
السبّاقة في هذا الإهتمام حيث تعقد الندوات والمهرجانات في مناطق مختلفة،
كما شهدت البحرين إصدار مجموعة من الكتب التي تحدّثت عن سيرة الإمام
الشيرازي وفكره.
الحراك العام
لقد تاصّل تيّار المدرسة الشيرازية في البحرين
بشكل ملحوظ، وقد ساهم أبناء هذا التيار في خلق الحراك السياسي والثقافي
والإجتماعي، بل وقد كان له السبق في تبني رؤى سياسية ومسئوليات حقوقية
كأول جماعة إسلامية، في الأوقات التي يقتصر فيها العمل السياسي على
التيارت القومية والشيوعية وغير الدينية بشكل عام، ولا يمكن لأي منصف من
الباحثين والمؤرخين أن يتجاهل الدور الذي قام به التيار الرسالي المنتمي
للمدرسة الشيرازية في البحرين، لأن ذلك سيعد نقصاً وخللاً في البحث، وهذه
الحقيقة أصبحت واضحة وملحوظة، فنورد من الكتب التي تناولت المشهد
البحريني وسجّلت اسهامات المدرسة الشيرازية في البحرين في مستويات شتى
،على سبيل المثال كان منها كتاب (سياسة وأقليات في الشرق الأدنى، الأسباب
المؤدّية للإنفجار) من تأليف (لورانت شابري و آنّي شابري) ومن ترجمة
الدكتور ذوقان قرقوط، وكذلك كتاب (ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية)
الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، لمؤلفه الدكتور حسنين توفيق
إبراهيم، وكتاب من تأليف الأستاذ عباس ميرزا المرشد (ضخامة التراث و وعي
المفارقة : التيار الاسلامي و المجتمع السياسي في البحرين )، والكثير من
الكتب التي تحدّث عن الحركات الإسلامية والعربية.
ومن ارهاصات تلك الحركة في البحرين، تفتّقت منها
مجموعة من علماء الدين والباحثين والناشطين في مجالات سياسية وحقوقية
واجتماعية وثقافية وخيرية، و رصدت الحركة الفكرية على مدى أكثر من ثلاثة
عقود مجموعة من المؤلفات في ميادين مختلفة لكوادر المدرسة الشيرازية، كما
شهدت البلاد تأسيس الكثير من المؤسسات الدينية والثقافية والسياسية
والخيرية تعمل جنباً إلى جنب مع مثيلاتها في دعم الحركة الدينية
والسياسية العامة، مما ساهم في خلق ساحة اجتماعية واسعة لهذه المدرسة،
وأصبحت ذات ثقل في مستويات شتّى ضمن الحراك العام الذي تعيشه البلاد.
البدايات
لقد كانت بدايات العلاقة مع الإمام الشيرازي في
البحرين كمرجعية دينية يرجع إليها في التقليد وأخذ الأحكام الشرعية،
وكمفكر وصاحب رؤى في مختلف مناحي الحياة، قبل أكثر من خمسة وثلاثين
عاماً، عندما كان الإمام الشيرازي يسكن كربلاء المقدّسة محل عمله الأول،
عندما كان الناس يتوافدون إلى مدينة كربلاء لزيارة الإمام الحسين (ع)
فتعرّف عليه مجموعة من المثقفين ورجالات البلاد، فتكوّنت أولى حلقات
العلاقة الفكرية والإرتباط الشرعي، بإعتبار أن المرجع الديني هو النائب
العام للإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه)، ولأن نظرة إلإمام الشيرازي
في التقليد والإجتهاد كانت شمولية بحيث يرجع المكلّف إلى المجتهد في كافة
أموره، حتى السياسية والإجتماعية وغيرها، فقد أصبحت العلاقة أكثر من
كونها علاقة محدودة تحكمها أخذ الفتوى في الجوانب العبادية الخاصّة، ثم
توافد العلماء الممثلون لمرجعيته للبلاد ليقوموا بالإرشاد الديني
والتوعية والتثقف، وكان أبرزهم آية الله السيد هادي المدرّسي وهو أبن أخت
المرجع الشيرازي ووكيله ووكيل لمراجع أخرى أبرزهم الإمام الخميني (قدّس
سره)، ولقد كان للسيد المدرّسي الفضل في تنشئة جيل عريض من أبناء البلاد،
وخلق واقع جديد في الساحة البحرينية لم تألفه من قبل، وهو المتمثّل في
الرؤية الرسالية للإسلام ودوره في واقع الحياة مختلفة الأبعاد.
وبسبب الدور الريادي والمؤّثر الذي قام به السيد
هادي المدرسي، حظي بقبول شريحة واسعة من الشباب وكان له الفضل في تحوّلهم
إلى التديّن، وخلق جو فاعل في الحراك الثقافي والإعلام العام، حيث كانت
له محاضراته الجماهيرية المنتظمة في مختلف مناطق البحرين، ومحاضرات أخرى
تبثّ عبر الإذاعة والتلفزيون البحريني، و مقالاته التي تنشر في الصحافة
والمجلات المحلية، حتى حصل على الجنسية البحرينية، والتي سحبت منه فيما
بعد على إثر الأحداث السياسية العاصفة في الحقبة السبيعينية من القرن
المنصرم.
من أبرز سمات الفكر
إن للفكر الشيرازي سمات شتّى والتي توزّعت في أكثر
من 1350 كتاباً وكتيباً، هي عدد ما ألّفه الإمام الشيرازي طوال حياته،
ويعد بها نادرة التأليف وأعجوبته، ومن أبرز هذه السمات التنوّع
والإستيعاب الذي شمل العديد من العلوم والاهتمامات، وكان منها مناحي
تجديدية بإعتبار صلتها بالفقه الإسلامي وتأصيل رؤيتها من منابع الدين،
كالقانون والبيئة والحقوق والدولة والإدارة والإقتصاد، ومن أبرز الأفكار
العامّة هي نظرية الشورى في الحكم، ومنظومة القيم الحركية للحركات
الإسلامية في ثلاثة كتب أساسية هي (الصياغة الجديدة) و (السبيل إلى إنهاض
المسلمين)، و (ممارسة التغيير)، ومن رؤاه، نظرية اللاعنف، والتنظيم، و
التعديدية، وضرورة التجديد والتصدّي الدائم من المراجع والعلماء لقضايا
الأمة، والإهتمام بالقضايا المعاصرة والمستحدثات على المستوى الفكري
والسياسي وحاجات المجتمع والأمة الإسلامية.
إن الحديث عن السمات الفكرية للمدرسة الشيرازية
يحتاج إلى توسّع كبير، لأن رائدها ترك للإمة الإسلامية تراثاً فكرياً
ضخماً ومتنوّعاً في آن واحد، فقد صدرت العديد من الكتب والمجلّدات التي
تتحدّث عن جوانب من فكر سماحته من أكاديميين في جامعات غربية وعربية، ومن
علماء ومفكرين، ومازالت تتوالى إلى يومنا هذا، وهذا إن دلّ فإنما يدلّ
على أن هنالك صفات ذات أبعاد مستقبلية في الفكر الشيرازي.
* باحث بحريني
www.mosawy.org |