كم هو رائع أن تخلد الشعوب والأمم عظمائها وقادتها
ممن تفانوا في خدمة رسالاتها وصيانة عزها ومجدها، وعظيم أيضاً أن يكتب
المخلصون من أرباب الوعي والثقافة في شأن أمثال أولئك العظماء والمشاهير،
كي تبقى كتاباتهم تلك مصدر إشعاع وإلهام للبشرية والأمم، وسبيلاً للتمسك
بسيرتهم، والسير في ذات النهج القويم الذي اختطوه، لا سيما إذا كان هذا
النهج ينتمي لمدرسة الفكر الإيماني والرسالة المحمدية وسيرة أهل البيت ،
مجسداً بأولئك المراجع والعلماء العظام أمثال المرجع الديني الراحل السيد
محمد الحسيني الشيرازي «قدس سره».
جميل جدّاً أن يتواضع الإنسان للآخرين وهو لا
يمتاز عنهم بشيء، وأجمل منه أن يتواضع الإنسان للغير مع تفوّقه عليهم
ووصوله إلى المراتب الرفيعة.
وهذا ما كان جليّاً في سيرة الإمام الشيرازي «قدس
سره»، فإنّه بالرغم من مكانته المرجعية العلمية المرموقة، ومنزلته
العالية في المجتمع كان متواضعاً في أمور حياته، والقصّة التالية هي خير
شاهد على ذلك. فقد نقل أحد الملازمين له «قدس سره» قائلاً:
عندما قدم الإمام الشيرازي «قدس سره» إلى الكويت
زاره العديد من أهالي الكويت والمقيمين فيها بمن فيهم الشخصيات والتجّار
وغيرهم من الوجهاء، وقد ردّ سماحته الزيارة للجميع بمن فيهم الذين لم
يأتوا إلى زيارته...
وبعد مضي مدّة على ذلك سألني ذات مرّة سماحته
قائلاً: هل يوجد أحد لم نزره إلى الآن؟
فقلت له: نعم، هناك شيخ لم يأت لزيارتك وهو رجل لا
يكنّ المحبة لسماحتكم ودائماً يقوم بالتهجّم عليكم أمام الآخرين.
فقال سماحته: هيّا بنا لزيارته!
فقلت له: يا سيدنا من الأفضل أن تنصرفوا عن
زيارته، لأنّي أخاف أن يجابهكم بالإساءة.
فقال «قدس سره»: لا أتصوّر منه ذلك، وعلى فرض
الإساءة فإنّه يسيء إليّ لا إليكم، فمن المفترض علينا نحن رجال الدين أن
نعامل الناس وفق الأخلاق الإسلامية لا أن نقابل تجاسراتهم بالمثل، وإنّما
علينا أن نعمل بوظيفتنا الشرعية.
وبالفعل فقد اتّفقنا مع سماحته «قدس سره» وذهبنا
إلى منزل الرجل إلاّ أنّه لم يكن موجوداً في الدار ولكن البوّاب قال لنا:
انتظروا دقائق حتّى يأتي صاحب المنزل.
ولم تمض إلاّ مدّة قليلة وإذا بذلك الرجل قد أقبل،
فلمّا وقعت عيناه على سماحة الإمام الشيرازي الراحل «أعلى الله مقامه»،
فوجئ بما لم يتصوّر، وبكل استغراب هرع نحوه «قدس سره» وأخذ يعتذر منه
ويقول: سيّدنا، أنا الذي يجب عليّ أن أصل بخدمتكم، فلماذا تزاحمتم أنتم
وجئتم بأنفسكم؟!
وبعد أن دخلنا إحدى الغرف المعدّة للضيافة جاء
الرجل وقدّم «الشربت» لسماحة السيد، فقال له سماحته: لماذا أتعبت نفسك،
كان بإمكانك أن تدعو أحد أبنائك ليقوم بذلك!
قال التاجر: صحيح لكنّي في واقع الأمر محروم من
هذه النعمة، لأن الله تعالى لم يرزقني ولداً حتى الآن.
فقال له الإمام الشيرازي «قدس سره» كلاماً هو
مضمون الحديث الشريف المعروف وهو: إنّ الله تعالى يُبقي سجلّ الإنسان
مفتوحاً إذا خلّف بعده أحد أمور ثلاثة: ورقة علم، وولد صالح، وصدقة
جارية، ثم أضاف سماحته «قدس سره» قائلاً: إنّك الآن يا أخانا الكريم
محروم من نعمة الكتاب والأولاد فاغتنم النعمة الثالثة.
فقال التاجر: أي شيء تأمرني فأنا في خدمتكم.
فقال له «قدس سره»: إنّ في المنطقة الفلانية يوجد
الكثير من الشيعة وليس لديهم مسجد يصلّون فيه، فيا حبّذا لو ساهمت بتشييد
مسجد في هذه المنطقة حتّى يكون لك من الباقيات الصالحات.
فقال التاجر: سأقوم بذلك من يوم غد إن شاء الله
تعالى!
وكذلك فعل حيث إنّا سمعنا بعد أيّام قليلة بأنّه
قد اشترى أرضاً وأخذ يبنيها مسجداً، فصار هذا المسجد من أهم المساجد في
الكويت! وهكذا استطاع الإمام الراحل «قدس سره» أن يحوّل هذا الإنسان
المتجاسر عليه ظلماً إلى رجل خيّر صالح ليخدم المجتمع.
عندما يتسابق العظماء مع عجلة الزمن العَجِلة
فيغلبون ويغلبون، يبقى ـ عَلَمُ الفقهاء ـ الإمام الشيرازي مُـتْـعِباً
لدولاب الزمن، متمكناً من القيادة في أقصى سرعتها، مع جميع منعطفات
الحياة التي غمرت الكثيرين بلأوائها.
فكم تساءل المتأملون دفاتر هذا العظيم: كيف يستطيع
هذا الرجل أن يُكَثِّر ساعات اليوم الواحد حتى يوصلها إلى ما يذهل العقل
ويحير الفكر؟!!
ساعاته مباركة.. وأيامه مثمرة.. و جميع لحظاته تحث
الخطى لتبني صرح مشروع ما، وتعاود الكَـرَّة لتبني.. تبني ولا تهدم.. كل
لحظة من لحظاته لَبِنَةٌ في بناء، وليس مهماً لمن يكون هذا البناء ومن
يسكنه، المهم أن يكتب عليه اسم الله..
هكذا عاش الإمام الشيرازي دافعاً للبناء بكل
كيانه.. قلمه.. نظراته.. ابتسامته.. حركته.. سكونه.. كلامه.. صمته...!!!
هذا ما يسجله كل من لقيه أو سمع حديثه.
فكم تأثر بإشعاع روحه المتوقدة من هو بعيد عنه
آلاف الأميال، مجرد أن تسمع اسم الشيرازي فذلك يعني وقود الحركة. فما
ترتسم صورته في مخيلتك أو تصل كلماته سمعك حتى تمتلئ حماساً لعمل ما...
وكم يحترق القلب أسفاً و كم تمتلئ النفس حسرة حين يأتي عليه الرحيل..
ويروح القلم الحزين يَعُبُّ من كأس الأسى لوعة بعد لوعة..
الشيرازي حبٌ لا يعرف الصَّد.. وإقبالٌ لا يشوبه
كدر.. و جهدٌ لا يتعبه الكد.. وسعي لا تجاريه السيول.. وقلب لا يضيق به
الأفق.. وشَأْوٌ لا يرقى إليه البصر..
المشكلة بين أنامله تذوب، والخلاف في حضرته يضمحل،
و الصعوبة أمامه تتراجع..
صلى عليك مليك السما ذكراك صرح قد سما... |