يمثل الفقه عند الإمام الشيرازي(قده) الدائرة
الأوسع التي لابد من بحث جميع المسائل والقضايا في إطارها، ولذلك فإنه
ينقد الحالة السائدة التي تقسم العلوم إلى علوم دينية وعلوم دنيوية، لذا
فهو يقدم لنا رؤى فقهية في كل العلوم؛ فالبحث الاقتصادي والبحث الاجتماعي
والبحث السياسي لديه هي مباحث لابد من تناولها في دائرة الفقه.
ولعل قائلاً يقول أنه ليس الوحيد الذي مارس أو آمن
بهذه القضية، فنقول أن هذا أمر لا مراء فيه، لكنه الوحيد الذي أدخل هذه
العلوم إلى دائرة الفقه، بينما الآخرون خرجوا بمناهج الفقه إلى دائرة
العلوم، وهذا فرق هائل من زاوية (مدرسة التأصيل) التي تشكل أهم أرضيات
الفكر الإسلامي المعاصر؛ وبذلك يكون الإمام(قده) الوحيد القادر على أن
يخوض في كل العلوم المعاصرة دون أن يعكس أي درجة من درجات الخروج عن
الأصالة، وهذه طبعاً ميزة غاية في الأهمية لابد من تتبعها.
وإذا عدنا إلى انعكاس هذه القضية على الفكر
السياسي للإمام وإلى مشروعه السياسي، فإننا نجد أنه يؤسس لقيم أو أفكار
تقلب الواقع قلباً كاملاً، فبدلاً من فصل الدين عن السياسة لكي تنطلق
السياسة في عالم بلا أخلاق ولا قيم، يفرض الإمام دمج السياسة برمتها
دمجاً كاملاً بالدين فتصبح ليست أكثر من تجسيد لقيم الدين، وبمجرد أن
تتوقف عن هذا التجسيد فإنها تتحول إلى حالة من الضلال والتيه، ولهذا فإن
الإمام بدأ تجاوز الخطأ الشائع في فهم الدين (وفهم السياسة والعلاقة
بينهما) ، (فالمفهوم الإسلامي للسياسة مفهوم أوسع من وظيفة الدولة، وأوسع
من وظيفة زمن محدد ومكان محدد).
وهكذا نجد أن الإمام وضع هذه المبادئ كأسس لمشروعه
السياسي، وهي مبثوثة في كتبه ومحاضراته وخصوصاً كتاب (السياسة)، بالإضافة
إلى نظرية (شورى الفقهاء) التي تعد من أهم التطبيقات السياسية التي تميز
الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، لأنها استطاعت الجمع بين ولاية الفقيه
ومشاركة الآخر في القرار السياسي.
فإذا (كانت المجادلات الحامية تتركز حول معنى من
المعاني، فإنها تتركز اليوم وبحدة حول المعنى الواجب إلصاقه بعودة
التدين، وبما أطلق عليه (جيل كيبل) تسمية: انتقام الله، ولو لم يكن الدين
سوى تقليد الطائفة ووعيها الجماعي، وكانت الحداثة والديمقراطية تنتميان
انتماءً كلياً لدنيا التغيير؛ وعليه إذا كان ينبغي أن تتعارض تماماً مع
ما أسماه (رالف لنتون) الإسناد والإنجاز والنظم المنقولة والنظم
المكتسبة، وما هو عليه الناس، وما يفعله الناس، فينبغي الاستنتاج بسرعة
أن الديمقراطية والدين ينتميان إلى عالمين متناقضين على قدر ما في تعريف
التقاليد والحداثة من تناقض).
ولقد أثبت السيد الإمام(قده) تهافت هذا الاعتقاد،
ذلك أن الدين ليس عودة للطقوس والروحانيات فحسب، بل هو عودة للقيم والنظم
والأفكار الخلاقة التي صنعت عالم الأمس وستصنع عالم اليوم، وأمكن الجمع
بينهما من خلال أطروحة شورى الفقهاء التي تعني عودة الدين وعودة الشورى
(الديمقراطية).
وإذا شئنا تلخيص ملامح فلسفة الإمام الشيرازي
فإننا نجد الملامح التالية:
1- تميز فكر الإمام بصورة عامة بنظرة ديناميكية
للمجتمع والحياة، وهو عكس ما يحاول البعض إلصاقه بعلماء الإسلام؛ ولهذا
نرى أن الإمام حرص حرصاً شديداً على معالجة المستجدات في أي جانب من
جوانب المجتمع، ولهذا أيضاً فإنه أفرد بحثاً فقهياً لعلاج المشكلات
الفقهية المستقبلية، إلى جانب معالجته للمشكلات الفعلية؛ ولقد ألّف في
فقه المرور والبيئة والاقتصاد والاجتماع وسوى ذلك.. ويأتي هذا طبعاً في
ضوء الإيمان بأن الشريعة حالة متحركة تواكب التطورات، وليست حالة جامدة،
ولهذا فإن الله يأتي بأحكام جديدة كلما أرسل نبياً جديداً لمواكبة
التطورات الحاصلة بين بعثات الأنبياء، وهذا أيضاً يصدق ولكن بدرجة أقل
بالنسبة للشريعة الواحدة كالشريعة الإسلامية؛ ذلك أنها عاصرت زمن الحداثة
الذي تعد ميزته سرعة التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الأمر
الذي أدركه الإمام الشيرازي(قده) إدراكاً عميقاً، وعمل على إبراز ذلك في
مؤلفاته وسلوكه العام.
2- وعلى ضوء ما سبق فإن السيد الإمام ينظر إلى
الإسلام باعتباره شريعة منجزة قد اجتازت عصر التأسيس، ويركز بصورة خاصة
على إدراك التطورات وبناء ما يلائمها من أحكام، وهو بذلك يخالف حركات
النهوض التي حاولت إنجاز قطيعة مع الإسلام، إما بشكل علني عن طريق
الإعلان عن مشروع تغريبي، أو بصورة غير معلنة عن طريق التفسير والتأويل
والسعي للوصول للنموذج الحضاري الغربي بعد جر الأحكام إليه، ولو بتحميل
النصوص ما لا تحتمله، والمهم هنا ملاحظة أن الإمام عمل على هذا الاتجاه
في وقت كان فيه التيار الأول هو السائد بصورة مطلقة.
وبناءً على ما مضى فإننا نلاحظ اختلاف منطلقات
الإمام الشيرازي (قده) الفكرية، رغم كون جوهرها منطلقات تغييرية تسعى إلى
إنجاز النهضة، لكن بناءً على التواصل مع الذات وليس عبر القطيعة معها.
وعندما يحاول تمتين التواصل فإنه يكون بمواجهة الإشكاليات القديمة، التي
رغم تغير أشكالها فإنها لا تزال تحمل نفس الجوهر؛ فالسياسة ليست أي سياسة
بل هي الدائرة التي حددها الدين فيها، ومن هنا فإنه يشعر بضرورة تأكيد
الترابط الوثيق بين معرفة الدين ومعرفة السياسة (فإن الإنسان لا يفهم
السياسة إذا لم يفهم الدين)، كما أن (السياسي لا يمكن أن يدير البلاد إن
لم يأخذ بعين الاعتبار في أعماله وقراراته الناحية الدينية للشعب).
منذ البدء يحدد الإمام (رحمه الله) منهجه في
التعامل، وهو منهج لا يختلف بحسب العموم؛ إذ أنه لا يعالج كل علم على
حدة، وبمنهج خاص، إنه منهج يعتبر أن جميع العلوم سواءٌ كانت في مجال
النظرية أو التطبيق ليست سوى أبواب في الفقه؛ لذا فإنه يقول: (لقد كان من
الجدير أن يكون (للفقه السياسي) باب مستقل في الفقه، بعد أن كانت له
مسائل مشتتة في أبواب الجهاد، والمكاسب، والقضاء، والشهادات، والحدود،
والقصاص، والديات، وإحياء الموات، وما أشبه ذلك.. ).
هذه الالتفاتة ضرورية جداً لأنها من العوامل
المهمة لردم الهوة بين علوم الدين والدنيا التي يئن منها عالمنا
الإسلامي، حيث تشهد علوم الدين حالة من التضخم الرهيب، بينما يعاني
الجانب الثاني من ضمور، ولعل هذا هو مرمى الإمام، خصوصاً أنه قام بمعالجة
الكثير من هذه العلوم منطلقاً من الفقه، وهذا هو أهم ما يمكن أن نقيم
عليه دعوانا في صلاحية الدين لكل عصر ومصر؛ إذ تقام على أرضية الفقه جميع
معالم الحياة، ولا يقتصر على العلوم التي اقتصر العلماء على تسميتها
بالفقه، بل إن الفقه هو مجموعة علوم تبدأ من الفقه التقليدي لتمر إلى كل
العلوم الأخرى، وهذا يعادل إعادة بناء الحياة على أساس الدين.
ولهذا جاءت نظرية شورى الفقهاء، هذه النظرية التي
تدفع بالمرجعية بحالتها العامة إلى أقصى درجات التكامل الممكن، وذلك
بسبب:
1- لأنها تتيح الفضاء الواسع أمام العالِم لطرح
آرائه.
2- إنها تخلق حالة من الفضاء العلمي المتحرك الذي
يتطلب المزيد من القوة والإحكام بسبب وجود النقد الذي يمارسه فريق من
العلماء، كلٌّ على حدة، ومن وراء هؤلاء ثلّة من أهل الفضيلة، وأخيراً
الجمهور.
وبهذا فإن شكل النظام السياسي لدى الإمام الراحل
(قده) عبارة عن عملية تطوير للحوزة العلمية، ونقلها من النظام الحالي إلى
نظام أكثر مواءمة مع الدولة، كما أن التطوير المفترض هو عبارة عما يسمح
الشرع به من إضافة أو تحوير في الحوزة لتكون نظاماً سياسياً.
والإمام يحاول الإفادة من الأشكال المعاصرة
للتعبير عن المفاهيم الأصيلة والموجودة في الإسلام، لكنها مغيبة؛ ولذلك
فإن التغيير أو التجديد لدى الإمام ليس إلا عبارة عن رفع الغياب عن
الأصالة المغيبة، ولا بأس بأن يكون إعادة الحضور بصورة معاصرة؛ ولهذا
فإنه يرى أنها الأداة الأساسية للعالم فيقول: (يجب اضطلاع العالم الديني
بالعلم السياسي)، ويتضاعف هذا الوجوب بسبب الظروف التي تعيشها الأمة،
ويتسع أيضاً ليشمل أي متدين ولكن على نحو الكفاية.
وإذا شئنا أن نطل على رؤية الإمام الشيرازي
السياسية، فإننا سنواجه رؤية تجمع النظرية إلى جانب الشكل التطبيقي، دون
أن ننسى التعريج على الفلسفة السياسية، وهكذا يكون الإمام قد جمع بين
الاقتضاب والعمق في مجمل أوضاعه، وأن تكون الرؤية قد حملت ثلاث طبقات من
التفكير السياسي (فلسفة السياسة)، وهو العنصر الذي يشكل أساس النظرية
السياسية، ثم يصل إلى النظرية السياسية التي هي كما أسلفنا نظرية جاهزة
وموجودة في الشريعة الإسلامية، وفي ثنايا التجربة التي خاضها الإسلام في
عصر التأسيس، ثم أخيراً يخرج الإمام(قده) بعمله الاجتهادي الصورة الصالحة
للتطبيق، والقادرة على التجاوب مع العصر.
فمنذ صفحات التمهيد يمكننا تلمّس هذه المعالم
جميعاً، حيث يقول الإمام: (لقد كان من الجدير أن يكون للفقه السياسي باب
مستقل في الفقه، بعد أن كانت له مسائل ديناً ودنيا، وهذه الخاصية هي التي
ستفرز الشكل الخاص للحكومة الدينية الإسلامية، فهي وإن سميت دينية إلا
أنها أيضاً دنيوية) أي أنها خلقت حالة من التمازج بين العالمين الذين
غالباً ما ينفصلان في بقية الأديان، وهذا طبعاً من المعالم المهمة التي
لفت الإمام(قده) الأنظار إليها.
فالإمام اكتشف أن المعايير التي يراد لها أن تسمى
أخلاقية، لا تهدف إلى تنظيم عالم الفرد الروحي فقط، بل إنها تهدف أيضاً
إلى تنظيم الحياة وإرساء عالم صحيح؛ فتكون الحكومة الإسلامية عبارة عن
(القدرة) التي ستجسد المبادئ الإلهية في شكلها الدنيوي والحياتي.
ومن خلال هذه العجالة نستطيع تأكيد حالة التأصيل
المعاصر للدين، وهي ميزة لا تكتفي بطرح مجرد للقيم والمثل؛ بل تطرح
الجوانب المتشتتة من أبواب الجهاد والمكاسب والقضاء والشهادات والحدود
والقصاص والديات وإحياء الموات، وما أشبه ذلك.
إن الفقهاء قلما ألّفوا كتاباً خاصاً في هذا الشأن
وما يتبعه من أمثال (قاطعة اللجاح) و(تنبيه الأمة) و(الحكومة الإسلامية)
وغيرها.. وذلك لاكتفائهم بما دونوه في تلك الكتب من المسائل المشتتة، مما
استنبطوه من الكتاب العزيز).
فكل شيء لدى الإمام الراحل(قده) يمر من بوابة
الفقه وينتهي إليه؛ ذلك أنه فقه شامل لا يقف عند زمان أو مكان، والذين
يعتقدون بتوقف الفقه إنما هم الذين توقفوا عند فقه معين، أما الإمام(قده)
فإنه يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل برابط أساسه الدين والوعي
والإدراك العميق للموضوعات. |