بمناسبة الذكرى السنوية الثانية لرحيل المرجع
الديني الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، أجرى الشاعر باسم البحراني
حواراً مفتوحاً مع سماحة العلامة الأستاذ الشيخ فيصل العوامي، وذلك في
مسجد الإمام الحسن (عليه السلام) في منطقة الكويكب بمدينة القطيف.
المانشيت العريض للندوة كان بعنوان: (المدرسة الشيرازية بين الاستمرار
والتوقف)!! لذلك كان الجمهور يقظاً ومتفاعلاً مع كل كلمة قيلت أثناء
الندوة.. فهل ستستمر هذه المدرسة أم هي في طريقها للتوقف؟ هذا ما ستقرأه
-عزيزنا المتصفح- في زاوية حوارات.
المدرسة الشيرازية بين الاستمرار والتوقف
حوار مع سماحة العلامة الشيخ فيصل العوامي
إن الاحتفاء بالذكرى السنوية لرحيل سماحة المرجع
الديني آية الله العظمى الإمام السيد محمد الشيرازي (رض) ليست مجرّد
استذكارٍ لمآثر شخصيةٍ عظيمةٍ عاشت بين ظهرانينا في يومٍ من الأيام،
وليست -أيضاً- مجرد تمجيد لمفخرةٍ تجسّدت بقامتها العالية على تراب
قلوبنا وحسب! إذ إنها تستحق منا كل هذا الاحتفاء والتمجيد والافتخار...
بل هي -أي الذكرى- في الحقيقة محاولةٌ لإعادة قراءة مشروعٍ حضاريٍ ضرب
بأجرانه بعيداً في أعماق الأمة، ليخلق فيها روحاً جديدةً فاعلةً،
واندفاعةً كبيرةً نحو بناء واقعٍ جديدٍ لهذه الأمة.
إذن، نحن إزاء قراءةٍ تحاول مقاربة هذه المدرسة
الفكرية التي شيّد أركانها سماحة الإمام الشيرازي (رض)، باعتبارها
مشروعاً حضارياً ضخماً، وتراثاً فكرياً كبيراً لمصلحٍ كبيرٍ، حاول أن
يصنع واقعاً جديداً لهذه الأمة، كل ذلك من أجل استلهام الدروس الحضارية،
والرؤى المتحركة، والفاعلة لصناعة هذا الواقع المأمول.
وقبل البدء في حوارنا هذا مع سماحة الأستاذ
العلامة الشيخ فيصل العوامي، ينتابني شعورٌ عميقٌ بأن هذه المدرسة
الفكرية ماتزال حيَّةً طرية العود، بما في الكلمة من معنى، وليس هذا
وحسب، بل إن الإمام الشيرازي مع كل ما خلَّفه من تركةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ
ضخمةٍ -جعل الآخرين- يتخاصمون فيما بينهم في عدد كتبه، بين قائل أنها
ثمانمائة كتابٍ أو ألف كتاب أو أقل من ذلك أو أكثر.
إلا إن هذا السيد الجليل ما يزال يطلّ علينا
بهيبته ووقاره، ليلقي علينا دروسه ومواعظه وأفكاره الحضارية، بل ويبني
فينا مشروعه الحضاري، الذي طمح إليه، وسعى جاهداً من أجل إنجازه.
فكُتبُ سماحته ومحاضراته -في ظني- أنهالم تتوقف
بعد... وها نحن ذا نبدأ باستلهام شيءٍ من هذه الدروس، من خلال حوارنا مع
سماحة الشيخ العوامي.
سماحة الشيخ، حوارنا عن: (المدرسة الشيرازية بين
الاستمرار والتوقف)، فماذا يعني لكم هذا العنوان؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين...
المانشايت الذي طرحتَه عنواناً لهذا الحوار وهو:
(المدرسة الشيرازية بين الاستمرار والتوقف) يتضمن في ثناياه تساؤلات
حسّاسةً جداً، ترتبط بمسيرة هذه المدرسة التي أرسى دعائمها هذا العمد
الكبير، فبعضها مضمون تساؤلات وبعضها الآخر مضمون إشكالات تُثار في
الوسط، ينبغي أن تُقرأ بصراحةٍ تامةٍ، ويُبسط فيها الحديث بشكلٍ دقيق.
وفي البداية أشرع في شرح هذا العنوان بطرح خمس
تساؤلاتٍ هي عبارة عن إشكالات دقيقة وحسّاسة تُثار، ترتبط بمسيرة هذه
المدرسة، ولا بدًّ من مناقشتها بشكلٍ متناهٍ في الصراحة؛ لأن المناقشة
بالأساليب الرمزية في مثل هذه المشاريع الكبرى لا يُجدي نفعاً.
والتساؤلات هي كالتالي:
1-هل هناك داعٍ للتوقف عند هذه الشخصية وقراءة
مشروعها الثقافي والاجتماعي والسياسي، أم لا داعي أبداً لذلك، فما دام قد
رحل فبرحيله تتوقف مدرسته؟
2-ما هي مميزات هذه المدرسة؟ وهل هناك -في الأساس-
مميزات مهمةٌ لهذه المدرسة، حتى تحتلَّ هذا الاهتمام الكبير منا، فنداوم
على قراءتها في كل حينٍ، ونُقيم لها هذه الذكريات الواسعة في كل عام؟
3-أليس الإصرار على هذه المدرسة وعلى معالمها ضربٌ
من ضروب التعصّب والتقليد الأعمى؟ أم هو حركةٌ ونشاطٌ واعٍ وناضجٌ ورشيد؟
4-أليس التمسُّك بهذه المدرسة ينتهي ويتمخّض عن
عُزلةٍ نفسيةٍ يختفي في داخلها أتباع هذه المدرسة؟ ألا يؤدي ذلك بنا إلى
الاعتزال عن الأطروحات المغايرة الموجودة في الساحة؟
5-لماذا الإصرار على الطرح الشيرازي؟
هذه مجموعة تساؤلات -في ظني- هي تساؤلاتٌ حسّاسة
جداً، وتحمل في ثناياها إشكالاتٍ في غاية الدقة لأصل هذا المشروع
الشيرازي.
ومثل هذا البحث يحتاج -شيئاً ما- إلى صراحةٍ في
الحديث، وسأكون صريحاً للغاية في إجابتي على هذه التساؤلات.
في الحقيقة، هناك عدة عناصر تُحفِّزنا وبشكلٍ قويٍ
على الإصرار في التأكيد على هذه المدرسة المباركة، وسأنتخب منها ثلاثة
عناصر -في ظني- هي جوهر هذه العناصر، وهي عناصر أساسية توفّرت في هذه
الأطروحة، ولولاها لأضحت هذه المدرسة مدرسةً فرديةً مختصرةً ومحدودةً، لا
تتطلّب كل هذا العناء، وهذا التجشُّم أبداً؛ لهذا يمكن -لأيٍ كان- أن
يتأمّل في هذه العناصر الثلاثة لينظر في دقتها، ما إذا كانت عناصر
دقيقةً، أم هي محض إدّعاءات.
العنصر الأول:
إن هذه التجربة تمخّضت بعد طول سنين عن مدرسةٍ
اجتماعية ثقافية، وليست سياسيةً، ولولم تتحوّل إلى مدرسة لما كان هناك
داعٍ لهذا الإصرار أبداً، وهذا إدعاء.
فكيف تحوّلت إلى مدرسة؟ وما المقصود بالمدرسة؟
في الحقيقة، إنها قد تحوَّلت إلى مدرسة من خلال
الإنتاجات الثقافية التي كانت تُطرح باستمرار على مدار أربعين أو خمسين
سنةً، والتي أعطت الكثير من الجوانب العلمية والاجتماعية والسياسية
والحركية والنفسية والاقتصادية هذا من جانب، ومن جانبٍ ثانٍ: المشاريع
الاجتماعية والحركية التي تولّدت في ضمن هذه المدرسة الطويلة التي دامت
أربعين سنةً، ومن جانبٍ ثالثٍ: الكم الهائل من العناصر التي تطلع به هذه
المدرسة، من العلماء والمفكرين والمثقفين والحركيين، ومن جانبٍ رابعٍ:
التجارب التي استمرت على مدى أربعين سنةً، من تجارب ثقافية واجتماعية
وسياسية وحركية، كل ذلك على مدى أربعين سنةً تمخّض عن رؤية، وهذه الرؤية
عبارةٌ عن مجموعة ثوابت، تجذّرت في نفوس أصحاب هذه المدرسة، وسائر
امتداداتها، وهذه الرؤية هي -في الحقيقة- مدرسة.
ماذا نعني بالمدرسة؟
المدرسة تعني وجود مجموعة من الرؤى التي طُبِّقت
على أرض الواقع، فأصبحت ثوابت يمكن الإتكاء والإعتماد عليها في إعطاء
آراء ونظرياتٍ في العديد من المواقف المتجدِّدة، فإذا وصلت أي تجربةٍ إلى
هذه المرحلة فإنها تُشكِّل مدرسةً، وإذا أصبحت مدرسة، لا يمكن التنازل
عنها بين عشيّةٍ وضحاها، وإنما تحوُّلها إلى مدرسة يُشكِّل مبرراً واضحاً
للتمسّك بها.
العنصر الثاني:
هذه التجربة نقلتْنا من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ
مغايرةٍ، فالمشاريع الجدّية في الحياة الثقافية والاجتماعية تُعرف من
آثارها، فقد يأتي مشروع ويطول زمناً، ولكن لا يُحدث آثاراً استراتيجيةً
ونوعيةً في الحياة الثقافية والاجتماعية لأنه ليس مدرسة، ولكن هناك
مشاريع حينما تأتي تُحدث آثاراً جذريةً وكأنها تحفر في الصخر، هذه الآثار
تعني الانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى.
فالمرحلة التي سبقت الطرح الشيرازي كانت تتميز
ببدائيةٍ ثقافيةٍ على المستوى الاجتماعي، فلم يكن هناك مشروعٌ سياسي،
وكانت الحالة متسمةً بالفردية، ولم يكن هناك عملٌ جمعيٌّ أبداً، ولكن
حينما جاء هذا الطرح نقلنا من تلك المرحلة إلى مرحلةٍ أخرى، فالبدائية
الثقافية تحوّلت بفعل هذا الطرح إلى ثقافةٍ واعية، والحالة الفردية
الموجودة في ساحة العمل الإسلامي تحوّلت إلى حالةٍ منظَّمةٍ مرتَّبةٍ،
والافتقار إلى مشروعٍ سياسيٍ على مستوى الساحة الشيعية -إذ لم يكن على
مستوى الساحة الشيعية مشروعٌ سياسيٌّ مبلورٌ- بمجيء هذا الطرح أُوجِد هذا
الأُفق عند كل المصلحين المرتبطين بهذا التيار، فتكوّنت مشاريع سياسية
متعددة على مستوى الساحة الإسلامية، فانتقلنا من مرحلةٍ إلى مرحلة.
وإذِ انتقلنا من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ، لا يمكن لنا
اليوم أن نعود خاليي الوفاض، فنقول: ينبغي أن نبدأ من الصفر، وما دمنا قد
وصلنا إلى مرحلةٍ جديدةٍ لا يمكن أن نعود إلى المرحلة السابقة، وإنما لا
بدّ لنا أن نواصل من حيث انتهينا، ولا يتأتي لنا ذلك، من غير هذا التراكم
الطويل، الذي استمر أربعين سنةً.
أتساءل، هل يمكن لي أن أبدأ مشواري من الألف؟ أين
ذهبت أربعون سنةً من تأسيس وتشييد هذه المدرسة؟! وهل يمكن لي أن أبدأ من
حيث انتهيتُ، من غير الإتكاء على أعمدة هذه المدرسة؟!! بكل تأكيد، لايمكن
لي ذلك أبداً، وإنما لابدّ لي أن أتكئ على أعمدة هذه المدرسة؛ لأواصل
العطاء والتطوّر على متنها، إذ لا يمكن أن ندير ظهورنا لكل هذا التاريخ.
العنصر الثالث:
هذه التجربة لم تكتمل بعد، فلا يمكن لنا أن نندير
لها ظهورنا، وهي لم تكتمل فصولها! بل، ما زالت في طي التطور، وما زالت في
طي العطاء.
ولو أن المدرسة تنتهي بموت صاحبها، لكان ذلك أكبر
دليلٍ على فشلها، فهذه المدرسة الشيرازية، لو انتهت برحيل الإمام
الشيرازي -رحمة الله عليه- لكان ذلك أكبر دليل على أن هذه التجربة فاشلةٌ
مائة بالمائة، ولكن هذه التجربة لا يمكن أن تنتهي بنهاية صاحبها، وهي لم
تكتمل بعد، فكيف تنتهي إذن؟! إذ ما زال هناك العديد من المحطات التي
ينبغي حرقها، حتى ننظر في نهاية هذه التجربة، هل هي تجربةٌ دقيقةٌ أم لا؟
هذه عناصر ثلاثة تدعونا باستمرار للتوقف عند هذه
المدرسة، ودراستها وإحيائها وقراءتها بشكلٍ مفصّلٍ، بل والإصرار عليها،
بصفتها مدرسةً متعددة الأبعاد، لا بصفتها نظرياتٍ طائشةٍ.
كيف نتعامل مع هذه المدرسة أو هذه التجربة؟
لا شكَّ، نحن لن نتعامل معها بتقليدٍ أعمى،
وإصرارنا على التمسك بها لا يعني نوعاً من التعصّب، ولا يعني نوعاً من
العزلة والإنكفاء على الذات، وإنما سنتعامل معها بنضجٍ، ورشدٍ يتكئ على
العناصر الثلاثة التي ذكرناها آنفاً، ولذلك نحن ندعو إلى التجديد فيها،
وتطويرها، ومراجعة أمهات القيم فيها، وليس فقط السطوح.
وقد يسأل سائل، إن لم تفشل هذه التجربة، فما
الدليل على عدم فشلها؟!
إذ قد يقول قائلٌ إن هذا محض إدعاء، فما هي علائم
نجاح هذه المدرسة؟! فالإدعاء بسيط.
قد أقول بأني ناجحٌ، ولكن ما هو الدليل على نجاحي؟
فقد أرى نفسي ناجحاً، ولكن إذا لم يكن لديَّ دلائلٌ على ذلك، لم يُفدني
هذا الإدعاء في شيء، وفي الحقيقة، الدلائل على نجاح هذه المدرسة،
كالدلائل على نجاح أي مدرسةٍ في التاريخ، أو في الحاضر، أو في المستقبل.
وتتمثَّل في أمورٍ عديدةٍ، أُشير إلى بعضها إشارةً
سريعةً:
أولاً: إن هذه المدرسة صنعت تياراً عريضاً على
مستوى الساحة الإسلامية، وبالتالي هي ليست بالتجربة الضعيفة المتقلّصة،
أو المحدودة التأثير، وإنما هي مدرسة لها شُعَبٌ وآثارٌ، ويكفي الإنسان
النظر إلى امتدادتها على مستوى الساحة الإسلامية، على مستوى الخليج،
وغيره.
ثانياً: المكاسب التي أحرزتها هذه المدرسة، وهي
عديدةٌ، على المستوى الثقافي والاجتماعي، وأيُّ مُنصِفٍ بإمكانه أن
يتأمّل في مكاسب هذه المدرسة، ويُكبرها.
ثالثاً: قدرتها على البقاء رغم التحديات
الاجتماعية والسياسية المعاكسة، فالإنسان إذا كانت الظروف مؤاتيةً له
ويبقى، فهذا ليس دليلاً على نجاحه، كالإبن الذي يُهيئ له والده البيت
والسيارة والأموال، ويتوسط له في كل مكانٍ، وبالتالي يصبح شخصيةً تمتلك
أموالاً، فهذا ليس دليلاً على نجاحه، لأن أباه وفّر له كل شيءٍ يحتاجه،
أما أن يأتي إنسانٌ، لا أبَ له، ولا أقاربَ، وكأنما يخرج من فراغ، فيبدأ
من الصفر، وكل الظروف المحيطة تضغط عليه وتعاكسه، سواءٌ الظروف السياسية
أو الإجتماعية أو الاقتصادية، وكل هذه الظروف دائمةٌ لا تنقطع، إذ إنها
غير مؤقتة، فإذا استطاع هذا الإنسان البقاء ، فإن ذلك يمثِّل دليلاً
كبيراً على أنه حقّق نجاحاً قوياً جداً في الساحة، إذ لولم يكن ناجحاً،
لما استطاع أن يتجاوز هذه التحديات أبداً.
رابعاً: وهو ما أشرتُ إليه، من أن هذه التجربة
شكَّلت مدرسةً يعتزُّ بها أبناؤها، ولا يستنكفون منها.
خامساً: عدم وجود رغبةٍ للتراجع رغم التفرعات
الكثيرة في متن هذه المدرسة، إذ لا يخفى على أحدٍ بأن هذه المدرسة مرَّت
بمحطاتٍ كثيرةٍ، أحدثت في داخلها تعددات، ولا أقول شروخ.
فعلى المستوى السياسي، مرَّت بمنعطفات كثيرةٍ
أحدثت في داخلها تعددات، وعلى المستوى الثقافي أيضاً مرَّت بمنعطفاتٍ
كثيرةٍ أحدثت في داخلها تعددات، وأخيراً على مستوى الإنتماء المرجعي
أيضاً، وهذه منعطفات متعددة، وهذه المنعطفات إذا مرَّت بإنسانٍ فاشلٍ
فإنها تقضي عليه، أو تقلِّصه، وتحوِّله إلى عدمٍ، أو إلى أطلال وتاريخ.
لكن هذه المدرسة الشيرازية، وبالرغم من هذه
المنعطفات، وبالرغم من هذه التعددات، إلا أنك لا تجد من يرغب في التخلي
عنها كرؤية، وأقول ذلك جازماً.
أُدخلْ في حوارٍ مع سائر التعددات، هل سترى في هذه
المدرسة من يستنكف من أصل الطرح؟! أو هل هناك من يرى بأن هذا الطرح فاشلٌ
ويجب التخلي عنه؟! أو أن هذا الطرح لم يحقق شيئاً؟!! أو هناك من يرى أنه
ينبغي التخلّص منه؟!! أم أنك سترى من يقول بأن هذه المدرسة يجب أن تبقى
ماثلةً، وينبغي أن تبقى متجذرةً ؟
هذه الأمور هي أكبر دليلٍ على نجاح هذه المدرسة،
وإلا هذه المنعطفات، وهذه التعددات، وهذه الضغوط المستمرة على المستوى
السياسي والاجتماعي، كانت كفيلةً بأن تُذيب هذه المدرسة، ولا تُبقِي لها
أثراً، ولكنها بقيتْ ثابتةً، وقويةً، رغم كل ذلك، فهل هناك دليل على نجاح
هذه المدرسة، أبرز من هذا الدليل؟
في ظني، لا يوجد.
*كيف إذن، نحافظ على هذه المدرسة؟ ونبقيها حيّةً
تتصاعد وتنمو، وتتطوّر، وتستوعب أكثر، وتُؤتي أُكُلاً أبلغ؟
**في الحقيقة إن الملاحظات هنا كثيرةً، وسأكتفي
بالإشارة إلى مسألتين فقط:
1-بلورة وتقنين النظريات العلمية لهذه المدرسة في
البحوث العلمية الأكاديمية؛ وذلك حتى تتحوَّل هذه المدرسة إلى نظرياتٍ
علميةٍ رصينة، وأعني بذلك، أن العلماء والمثقفين والمفكِّرين المنتمين
لهذه المدرسة ينبغي أن يتحمَّلوا مسؤوليةً خطيرةً ومهمةً، وهي أن هذه
المدرسة لها نظرياتٌ دقيقةٌ على المستوى الفقهي، وعلى المستوى الأصولي،
وعلى المستوى الاجتماعي، وعلى المستوى الثقافي، وعلى المستوى الاقتصادي.
ولنأخذ مثالاً على المستوى الفقهي، إذ كيف نحافظ
على هذه المدرسة فيما يرتبط بالمستوى الفقهي؟
لا يمكن أن تبقى هذه المدرسة على المستوى الفقهي
بمجرد أن نقول: بأن هذه المدرسة أو هذا الإمام -رحمة الله عليه- كانت له
نظرياتٌ تطوّرية في الإطار الفقهي، هذا لا يكفي!! وإنما ينبغي أن نقوم
بعملٍ إستراتيجيٍّ ومركزيٍّ، وهو ليس من مسؤولية عامة الناس، بل هو من
مسؤولية العلماء والمفكرين والمثقفين، بأن يأتوا إلى هذه النظريات،
ويقحموها في أصل البحوث الأكاديمية، لتكون هذه النظرياتٍ محلاً للنقاش،
ومن خلالها تُناقش النظريات القائمة، لتدخل كنظريات فعليةٍ في الوسط
الأكاديمي، وإلا ستموت.
فمثلاً، إلى الآن نحن نقول: بأن المحقق النائيني
-رحمة الله عليه- صاحب مدرسة أصولية، وإلى الآن أيضاً نقول، بأن المحقق
الأصفهاني -رحمة الله عليه- صاحب مدرسةٍ أصولية.
لماذا؟!
ما الذي صنعه المحقق الأصفهاني؟ وأهم نتاجاته
كتابٌ واحد! وهو كتاب (نهاية الدراية) حاشيةٌ وتعليق على كتاب (كفاية
الأصول) لأستاذه الآخوند الخرساني -رحمة الله عليه- ؟ ما الذي جرى؟!
يقال بأن تلاميذه -والذين كانوا قلةً-(1) هم الذي
أقحموا نظريات أستاذهم المحقق الأصفهاني في البحث الأصولي، إذ كان
التلميذ منهم يأتي إلى النظرية القائمة للشيخ الأنصاري، ويقول بأن هناك
نظريةً توازيها للآخوند، ونظريةٌ تُناقشها للمحقق الأصفهاني، وهذا
التلميذ بطبيعة الحال حينما بحثها، لم يبحثها بشكلٍ بسيط، وإنما بحثها
بشكلٍ علميٍّ، بحيث أقنع الطرف المقابل بها، فصارت تتمدد هذه النظرية في
البحوث الأصولية، وعلى أثرها أصبح المحقق الأصفهاني صاحب مدرسةٍ أصولية.
ومن الأسماء التي في أوساطنا، والتي كنتُ أُكبرها
كثيراً، وفي أكثر من محفلٍ ذكرتها، والتي ساهمت مساهمة رائعةً في هذا
الإطار، أستاذنا الجليل حجة الإسلام والمسلمين العلامة الشيخ عبد اللطيف
الشبيب -رحمة الله عليه-، وللإنصاف أقولها، هو ممن أبلوا بلاءً حسناً
جداً في بلورة النظريات الفقهية والأصولية للإمام الشيرازي -رحمة الله
عليه-، وقد حضرت درسه فترةً، وقد كان شيئاً ملفتاً في الحقيقة، وعند بعض
أساتذته شهدت له بذلك، إذ كان يأتي ويعرض نظريات الأعاظم في الفقه أو
الأصول، كنظرية الشيخ الطوسي، أو الحكيم، أو الخوئي، أو النراقي، وهؤلاء
من أعمدة الفقه -رحمهم الله جميعاً-، وفي ذات الوقت، يأتي بنظرية الإمام
الشيرازي-رحمة الله عليه- في الفقه، والقريبة منها في ذاك المبحث،
ويبلورها بلورةً علميةً قويةً، بحيث يُشعرك، بأن هذه النظرية لا تقلُّ
أبداً عن سائر النظريات الأخرى لأولئك الأعلام.
وحينما يتكرر ذلك من أكثر من تلميذٍ، فإن ذلك يؤدي
إلى جعل هذه النظريات ثوابت قائمةً لا تُنسَى.
2-ومما يحافظ على هذه المدرسة أيضاً، تصليب
القدرات العلمية للعلماء والمثقفين المنتسبين لهذه المدرسة، وتوسيع مناطق
نفوذهم وتأثيرهم، فقد يكون الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- إماماً واسع
المعرفة، واسع التجارب، ولكن، إذا كانت النخبة، والامتدادات التي تربّت
على يده ضعافاً، فستضيع هذه المدرسة وتنتهي.
فمما يُشعل نار هذه المدرسة، ويجعلها رؤىً قويةً
تُقنِع سائر الأطراف بجدوائيتها ومصداقيتها، هو أن تعمل امتدادات هذه
المدرسة من العلماء والمفكّرين والمثقفين على تصليب قدراتهم العلمية بحيث
يصبحون أوتاداً قويةً في الساحة،وهؤلاء هم -الذين ينبغي إذا وصلوا إلى
هذه الدرجة- أن يعتمدوا هذه النظريات، ويطرحونها في البحث الأكاديمي، ومع
مرور الزمن، تصبح نظريات هذه المدرسة الشيرازية نظرياتٍ عملاقة.
وهنا أُمثِّل بمثالٍ واقعيٍّ لمستُه بشكلٍ عمليٍّ،
ما الذي جعل الشهيد الصدر -رحمة الله عليه- إلى اليوم صاحب مدرسةٍ
أصوليةٍ راقيةٍ في الوسط الحوزوي؟ وليس في وسط عامة الناس، أو في وسط
المثقفين، وإنما في الوسط الحوزوي، وهذا مثالٌ إيجابيٌّ ينبغي أن نُعجب
به جداً.
نكتةٌ مهمةٌ ينبغي لنا اليوم أن نحملها على
عواتقنا وفاءً لهذه المدرسة، لا تعصباً، فما حصل لمدرسة الشهيد الصدر
-رحمة الله عليه- أن مجموعة من العلماء، من أعمدة هذه المدرسة، الذين
أصبحوا إراداتٍ علميةً مقبولةً في الساحة، أقحموا نظريات الشهيد الصدر
الأصولية في البحث الأكاديمي، وإلى اليوم، الحوزة العلمية العربية في (قم
المقدسة) لا يغيب فيها القناعات الفقهية والأصولية للشهيد الصدر، وكأن
الشهيد الصدر لم يمت، وهذه إيجابيةٌ، ونقطةٌ مهمةٌ، وتجربةٌ رائدةٌ في
الحقيقة، فالتلاميذ الأساسيون والذين يشكّلون المحاور الأساسية للحوزة
العلمية العربية اليوم، أغلبهم من تلاميذ الشهيد الصدر، فهؤلاء جاؤوا
بأمهات نظريات الشهيد الصدر في دروسه في علم الأصول، وعلم الفقه، وليس
كلها، والتي منها على سبيل المثال (نظرية حساب الاحتمالات)، هذه النظرية
من أمهات النظريات الموجودة عند الشهيد الصدر -رحمة الله عليه-، ومن أهم
إبداعاته، جاء بها هؤلاء التلاميذ وأقحموها في البحث الأصولي في مبحث
الظن مرةً ومرتين، وعند هذا التلميذ وذاك، وفي هذا الدرس وذاك الدرس،
وسنةً وسنتين، بل وعشرين سنةً، واليوم دخلت نظريات الشهيد الصدر -رحمة
الله عليه- كنظريات أساسية في الساحة الحوزوية، لذا نحن اليوم نقول إن
الشهيد الصدر صاحب مدرسة أصولية.
هاتان مسألتان مهمتان.
لو سلّمنا بعناصر القوة التي ذكرت بأن المدرسة
الشيرازية قد تميّزت بها، وجعلتنا نُعجب بها؛ بحيث أصبحنا ننظر إليها
نظرة إعجابٍ وإكبار، لكن في المقابل، أليس الأجدى لنا -نحن أبناء هذه
المدرسة- أن ننظر للمستقبل بآفاقٍ أوسع، ورؤيةٍ أرحب؛ وذلك بأن نبحث لنا
مما هو موجود حالياً على الساحة الإسلامية من مدراس قد توازي هذه
المدرسة، أو ربما تتفوق عليها، فنتبناها، ونعمل بنظرياتها؟
حسناً هذا سؤالٌ في محله، ودقيقٌ أيضاً إن كان
هناك مدارس أخرى في الساحة، ولا شك أن هناك مدارس عملاقة، من أمثال مدرسة
الإمام الخوئي -رحمة الله عليه- الذي أرسى دعائم مدرسة علمية راقية،
والإمام الخميني -رحمة الله عليه- الذي أرسى دعائم مدرسة سياسية رائعة في
الساحة الشيعية، والشهيد الصدر -رحمة الله عليه- الذي أرسى دعائم مدرسة
فلسفية وأصولية رائعة، فهذه مدارس قائمة، فلماذا -نحن- نتوقف عند هذه
المدرسة؟ ولماذا لا نلتحق بمدارس أخرى أكثر جدوائيةً؟ هذا سؤالٌ محوريٌّ
ودقيقٌ، والجواب عليه كالتالي:
أولاً: فيما هو قائمٌ اليوم لا توجد هناك مدرسة
-وأنا أتبنّى ذلك- إذ بعدُ لم تتشكّل مدارس جديدةٌ، وإنما عندنا مدرسة
علمية مركَّزة للإمام الخوئي -رحمة الله عليه- وزعيمها رحل، وهي مدرسة
علمية وليست اجتماعية ثقافية، وعندنا مدرسة سياسية للإمام الخميني -رحمة
الله عليه-، ولكن زعيمها رحل، وهي مدرسة سياسية، وليست اجتماعية ثقافية،
وعندنا مدرسة فلسفية أصولية لزعيم رحل وهو الشهيد الصدر -رحمة الله عليه.
قليلةٌ هي التجارب الثقافية الاجتماعية، ولهذا نحن
في الإطار العلمي متشعبون، ولا يمكننا في هذا الإطار أن نعتمد على مدرسةٍ
واحدة فقط؛ لأن باب الإجتهاد مفتوح، ولكن الكلام هو أننا نحتاج إلى
مدرسةٍ ثقافيةٍ اجتماعيةٍ مغايرةٍ، نقتنع بأنها أرقى من هذه المدرسة، حتى
نسير في ركبها، وأنا ذكرتُ منذ البداية بأن هذه المدرسة تمخضّت عن تجربةٍ
ثقافيةٍ اجتماعيةٍ، لا عن مدرسة علميةٍ، أو سياسيةٍ، لأن المدرسة
السياسية تحتاج إلى تجربة، وبعدُ لم تُوفّق هذه المدرسة إلى إحراز تجربةٍ
كالتجربة التي وُفِّق إليها الإمام الخميني -رحمة الله عليه-، ولهذا لا
يمكن أن نقول: إن هناك مدرسةً سياسيةً، وإنما هناك رؤىً ونظريات موجودةٌ
وقائمة، ولكن النظريات حتى تتحوّل إلى مدرسة تحتاج إلى تجارب، والإمام
الخميني -رحمة الله عليه- كانت لديه نظريات سياسية، وتحولت إلى مدرسة؛
لإنه طبّق نظرياته في الواقع الخارجي، فأصبحت مدرسةً، أما الإمام
الشيرازي -رحمة الله عليه- فلديه نظريات متكاملة، في الإطار السياسي،
ولكنه لم يحظَ بتجربةٍ عمليةٍ وواقعيةٍ يُطبِّق عليها تلك الرؤى
والنظريات؛ لتتحوّل آراؤه السياسية إلى مدرسة، أما نظرياته ورؤاه
الاجتماعية فقد طبّقها على أرض الواقع، من خلال العديد من المشاريع
الثقافية والاجتماعية والحركية، وما إلى ذلك، ونظرياته الثقافية طبّقها
على أرض الواقع؛ لذلك على هذا المدى الطويل تحوّلت إلى مدرسة.
أنا في ظني، إلى الآن قلائل هي المدارس الثقافية
والاجتماعية التي يمكن أن تتفوّق على هذه المدرسة، وفي ظني أيضاً، هذه
المدرسة موازيةٌ لسائر المدارس الأخرى في إطارها الثقافي والاجتماعي،
ويمكن أن تتفوّق عليها في شيء، ويمكن أن تتفوّق عليها غيرها في شيء، ولكن
كنظرية، ما زالت نظريةً ناجحةً وموازيةً لسائر النظريات؛ ولذلك نُصرُّ
عليها، ولأنها لم تكتمل، فلماذا انتقل إلى مدرسةٍ أخرى وهي بعدُ لم
تكتمل، لا بدّ أن نكمِّلها، حتى إذا أكملناها، واتضح قصورها، طبيعياً
سنكوِّن لنا مدرسةً مغايرةً.
ألا يعني هذا الإكمال الذي تطمح إليه هو أن ننتقل
إلى تجربةٍ متقدمةٍ علينا أكثر؟
قلتُ: أين هي التجربة المتقدمة علينا أكثر؟ أنا
أقول إلى الآن -في الوسط المعاصر- لم تنشأ بعدُ مدرسةٌ، لعلها آراء
ونظريات وتجارب ما زالت في المخاض، بعدُ لم تتولّد عنها مدارس قائمة
فعلية، يمكن أن تُشكِّل مدارس أكثر تطوراً، فإذا وُجِدت، فلكل حادثٍ
حديث، وأنا أتكلَّم على الإطار الثقافي والاجتماعي.
ذكرتم في حديثكم، بأن المدرسة الشيرازية تميزت في
بعديها الثقافي والاجتماعي، هل نفهم من ذلك بأن المدرسة الشيرازية لم
تتميز في بُعدها الفقهي والعلمي مثلاً؟
أنا لم أقل ذلك، بل قلتُ بأنها بعدُ لم تتحوّل إلى
مدرسة علمية، وهنا نتساءل: ما هي شروط المدرسة العلمية؟!
ما الذي جعل -مثلاً- نظريات الإمام الخوئي -رحمة
الله عليه- في الإطار العلمي تتحوّل إلى مدرسة؟ بخلاف النظريات العلمية
للإمام الشيرازي -رحمة الله عليه-؛ مع أنها قابلةٌ للتحوّل إلى مدرسة؟!
الإمام الخوئي جاء بعده امتداد، إذ كان لديه
العديد من العلماء المجتهدين، وهم الذين تبنوا نظرياته، وأقحموها في
البحث العلمي، أما نظريات الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- فهي تحتاج
إلى امتدادات اجتهادية تأتي وتتبنى هذه النظريات التي طرحها الإمام
الشيرازي في الإطار العلمي، لتصبح مدرسةً، فإذا استمرت بعد عشر أو عشرين
أو ثلاثين سنةً يمكن حينها أن تصبح مدرسة.
السيد الخوئي كان لديه مجموعة ممن تبنوا نظرياته،
والشهد الصدر عنده مجموعةٌ ممن تبنوا نظرياته، هؤلاء ثبّتوها، فصارت
مدرسة.
أنا أقول: بأن نظريات الإمام الشيرازي نظرياتٌ
قويةٌ جداً، وواسعةٌ، ولكنها تحتاج إلى جيلٍ كبيرٍ حتى يستطيع أن يتفرّغ
لتثبيتها؛ لأن الإمام الشيرازي نظرياته كثيرة، ومن كثرة ما كان يكتب، ما
كانت اللجنة المشرفة على طباعة كتبه تستطيع إدراكه، فإذا كانت عملية
الطباعة تحتاج إلى جهدٍ، فتثبيت هذه النظريات يحتاج إلى جهدٍ أبلغ، كما
يحتاج إلى سنين.
كم المدة الزمنية التي تتوقعون فيها تثبيت نظريات
الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- التي جاء بها في الإطار العلمي؟
ربما في بحر السنوات العشر القادمة، تتشكَّل
النظريات العلمية للإمام الشيرازي، وتتحوّل إلى مدرسةٍ فقهية، إذا رُوعيت
الشروط المذكورة.
حينما نقول: بأننا ينبغي لنا أن نتمسّك بهذه
المدرسة، هل يعني ذلك أن نتمسّك بكل ما أنتجته هذه المدرسة، أم أن هناك
خطوطاً عريضةً، ومعالم واضحةً، هي بعينها التي ينبغي أن نتمسك بها،
ونبشّر بها، وندعو إليها؟
لا يمكن بحالٍ لكل هذا النتاج الكثير أن يتمسّك
الإنسان به تفصيلاً، وإنما هناك أسسٌ، وإنما هناك أمهات قيم وأفكار هذه
المدرسة، هي التي ينبغي أن نتمسّك بها، ونسعى إلى تطويرها، والمواصلة
عليها حتى تكتمل، إذ لا يجدي نفعاً التمسك بكل شيءٍ، وبكل كلمة، ومن بين
تلك القيم والأفكار على مستوى النظرية:
1-النظر إلى المحيط على أنه أمةٌ واحدة، لا
إقليمية، ولا قومية:
هذه من أُسس النظريات التي تقوم عليها المدرسة
الشيرازية، حتى أنني سألتُ السيد الشيرازي -رحمة الله عليه- في نهاية
حياته، سألته يوماً، إلى متى تُصرُّ على هذه الأفكار؟! فأجاب: حتى الموت.
فمن أهم نظريات الإمام الشيرازي اعتبار المحيط
أمةً، لا وطناً، ولا إقليماً، ولا قوماً، فهو لايعطي اعتباراً للقومية أو
الوطنية، وإنما يعطي الاعتبار للأمة.
من أهم ملاحظات الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه-
على المشاريع القائمة، أنها لم تطرح فكرة الحدود، ولم تلغها، هذا من أهم
ما كان يدعو إليه، وهذا ما كان يستفزًّ ويستثير البعض إيجابياً، فقد كان
يؤكد على ذلك في الكثير من المناسبات، على الكثير من المهتمين بشؤون
العمل الإسلامي، وعلى الكثير من السياسيين الذين يلتقي بهم، فهو يُصرُّ
باستمرار على قضية إلغاء الحدود، فلا حدود داخل العالم الإسلامي، ولذلك
ينبغي تجاوزها ولو نفسياً كخطوةٍ أولى، لهذا، منذ البداية وحتى النهاية
-رحمة الله عليه- كان ضد المشاريع الوطنية، وكان ضد المشاريع القومية؛
لأنه ينظر إلى المحيط على أنه أمة.
2-الأصالة:
من أهم أعمدة هذه المدرسة الأصالة الفكرية، وهي من
الثوابت على مستوى النظرية، وليس على مستوى التطبيق، ونعني بالأصالة: هي
تقويم الحداثة بناءً على الأصالة، ولا نعني بها تأثر الأصالة بمنطلقات
الحداثة.
إذ إن هناك رأيين في الساحة، رأيٌ يقول: نحن في
عملنا الفكري، ينبغي أن نستفيد من الحداثة القائمة وإنتاجاتها الفعلية
لنُغربل الأصالة، أي ما عندنا من تراثٍ قديم، من قرآنٍ وسنةٍ ومواقف
للمعصومين عليهم السلام، كلها ينبغي أن تُقرأ بناءً على إبداعات الحداثة،
فالذي توصلت إليه الحداثة اليوم من نظريات في مختلف العلوم كـ (البنيوية)
و(التفكيك) أو ما أشبه، كلها نأتي بها، ومن خلالها نقرأ أصالتنا القديمة.
أما نظرية الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- منذ
البداية وحتى النهاية، كانت قائمةً على العكس من ذلك، وهذا من ثوابته
النظرية، (أن الحداثة تُقرأ بالأصالة)، أي أن مواقفنا العصرية، يجب أن
تكون مستندةً إلى الأصالة، وهذه من الأسس التي تقوم عليها هذه المدرسة،
وهذا ما ندعو إليه، ونرى أنه حقق نجاحاً، وينبغي أن يتواصل، بل، وينبغي
أن يتطوّر.
وأما الثوابت التي ينبغي التمسك بها على مستوى
التطبيق:
1-الإنطلاق من التصحيح الثقافي:
إذ كيف نُغيِّر الواقع؟!
فهناك أطروحةٌ تقول: إننا يجب أن نُغيِّر الواقع
من خلال العمل على المستوى السياسي، وهناك أطروحةٌ تقول: إننا يجب أن
نُغيِّر الواقع من خلال العمل على المستوى الاجتماعي، وأما أطروحة الإمام
الشيرازي -رحمة الله عليه- فتقول: إننا يجب أن نعتمد -كأساسٍ في العمل من
أجل التغيير- على التصحيح الثقافي، أي حتى نُغيِّر الواقع، يجب أن
نُغيِّر العقل، ويستشهد سماحته دائماً بهذه الآية: "ويضع عنهم إصرهم،
والأغلال التي كانت عليهم" (الأعراف/ 157)، من هنا نبدأ.
2-الإنطلاق من الأمة لتغيير الواقع:
كيف أستطيع تغيير الواقع؟ وعلى من أعتمد؟!
لا بدّ أن أعتمد على هذه الخامات الفعلية الموجودة
في بحر هذه الأمة، وأُنمِّيها، حتى أصعد بها لتغيير الواقع، لا أن أفرض
واقعي عليها.
هناك نظرياتٌ نخبويةٌ تقول: حتى نُحدث تغييراً في
الوسط الاجتماعي، لا بدّ أن نفرض هذه النظريات على الساحة العامة؛ لأن
الساحة العامة لا يمكن لها أن تفطن إلى ما نصل إليه من نظريات.
أما نظرية الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- فقد
اقتفت التبسيط، لذلك تقول هذه النظرية: بأننا يجب أن نبدأ من الأمة، بحيث
نصحِّح ثقافة الأمة، ومن خلالها ننطلق لتغييرها، أي نُغيّرها هي؛ لتُغيّر
واقعها.
الكثير كان يتساءل: لماذا السيد الشيرازي -رحمة
الله عليه- في كتاباته يعتمد التبسيط؟!! ولماذا قلمه قلمٌ بسيط؟ ولماذا
لا يعتمد الشحن والتغليظ في الكتابة، والتعقيد فيها؟ حتى أن الكتابات
الفقهية للسيد كتاباتٌ بسيطة، ليس فيها نوعٌ من العُقَد أبداً، بل حتى
الكتابات الفلسفية ذات الطبيعة المعقدة غير المسترسلة، مع ذلك هذه
العُقَد حينما كتبها، كتبها بأسلوبٍ بسيط.
أحد العلماء كان يقول: أنا متعجّبٌ من قدرة هذا
السيد العلمية، إذ كيف استطاع أن يُبسِّط (كتاب الكفاية) للآخوند
الخرساني -رحمة الله عليه-، ويجعله في متناول كل طالبٍ، وتعلمون أن (كتاب
الكفاية) للآخوند من أصعب الكتب الأصولية، لأنه كُتِب بأسلوبٍ معقّدٍ
جداً، حتى أن الشيخ الأنصاري -رحمة الله عليه- حينما يكتب بحث (مقدمات
الإنسداد) مثلاً، فإنه يكتبه في مائة وعشرين صفحة، أما الآخوند فيكتبه في
(الكفاية) في عشرين صفحة، فإذا كان الشيخ الأنصاري قد كتبها مضغوطةً،
وفيها نوعٌ من الإنغلاق، فما بالك في ضغطها في عشرين صفحة؟!!! أما السيد
الشيرازي -رحمة الله عليه- فقد جاء وفكّها، وبسَّطها، وبالغ في تبسيطها،
حتى صارت في متناول كل طالبٍ، فلماذا اعتمد التبسيط في كل كتاباته،
والثقافية منها بالذات؟ السبب أن كل هذه الأفكار ينبغي أن تكون في متناول
الأمة؛ لأن الأمة هي التي ينبغي أن تنهض لتغيير واقعها، وهذا ثابتٌ
أساسيٌّ من ثوابت أطروحة الإمام الشيرازي.
3-اعتماده مبدأ الشورى في إدارة شؤون الأمة
الإسلامية، ولا يخفى على أحدٍ هذا الثابت.
4-ومن الثوابت المهمة كذلك قرآنية التفكير:
وهذا من الثوابت التي قلّما نجدها في الساحة، وهو
الاعتماد على المنطق القرآني في إبداع الأفكار والنظريات، وليس الاعتماد
على المنطق الفلسفي.
إن بعض المدارس تعتمد على المنطق الفلسفي في تحليل
الأفكار، أما السيد الشيرازي فقد أرسى دعائم هذه المدرسة التي ما زالت
تتطور، من خلال الاعتماد على المنطق القرآني في تفريخ الأفكار.
هذه الأُسس التي يرتبط بعضها بالنظرية، والآخر
بالتطبيق، هي من الأُسس المهمة، والتي ندعو إليها، وسنستمر بالدعوة
إليها.
فيما يتعلق بالأساس النظري لمدرسة الإمام
الشيرازي، والذي ألمحتم إليه في حديثكم، وهو (الأممية)، ألا يعكس الواقع
فشل هذه الرؤية، فالتجربة التي كانت منضويةً تحت ظل سماحة الإمام
الشيرازي -رحمة الله عليه- في شقها السياسي خاصةً، ألم نلاحظ أنها أخذت
تنحو منحى التجزئة والتفرّق في التعامل مع الواقع، وهذا لاحظناه حتى في
حياة سماحته (رض)؟ وبالتالي، أخذت الأطروحات الأقليمية والوطنية تحكمها
وتسيِّرها؟
في البداية ينبغي أن نحلِّل هذه النظرية، حتى لا
نتفاجأ بالواقع، فنظرية الإمام الشيرازي حينما تقول: إن هذه المجتمعات
عبارة عن أمة واحدة، لا ينتهي في التطبيق إلى هذا القول: (إننا حتى في
أعمالنا، نعمل دائماً على مستوى الأمة، وإنما هناك واقعٌ قائمٌ، وهذا لا
ينكره السيد الشيرازي، بل يؤكد عليه، فهناك واقعٌ قائمٌ، عبارة عن محيطات
منغلقة، ومتفرّقة، لا يمكن لي إلا أن أعمل على متن هذه الأرض، وأُغيِّر
فيها)، ولكن الكلام، إنني في الإطار العملي ينبغي أن أدفع بذلك الاتجاه،
فأنا على متن هذه الأرض أستطيع -كواحدٍ أعيش في القطيف مثلاً- أن أعمل في
(القطيف)، ولكنْ، عملاً، لا أستطيع العمل في (البحرين) أو في (الكويت)،
ولكن، حينما أعمل في (القطيف) لا اعتبر نفسي قطعةً منفصلةً عن ذاك الذي
في (البحرين) أو ذاك الذي في (الكويت)، هذه أول محطةٍ نفسيةٍ، فإذا
اعتبرتُ نفسي قطعةً، دخلتُ في شِراك الوطنية، والإقليمية.
حدود إمكانيتي العملية منحصرةٌ هنا، وحدود قدرتي
على التأثير منحصرةٌ هنا، أما نفسياً، فأنا مع الجميع كتلةً واحدةً، هذا
أولاً، أما ثانياً: أنا في عملي -وإن كنتُ في القطيف- لكنني أدفع بذلك
الاتجاه، وتلك الثقافة التي تدعو إلى الأمة، فلعلّنا يوماً ما ننجح
فعلاً، ونستطيع أن نُشكِّل أمةً واحدةً.
وقد ثبت صحة نظرية الإمام الشيرازي عند الكثير من
السياسيين الآن، ففي يومٍ من الأيام، حينما كان السيد يطرح هذه الفكرة،
منذ البدايات، وقبل أن يُطرح المشروع الأوروبي، الذي يدعو إلى أوروبا
واحدةٍ، كان الكل يستهزئ بهذه النظرية، إذ يوجد لدينا عالَمٌ قائمٌ
ومجزَّأٌ، فكيف نستطيع أن نُحوِّل هذا العالم المجزأ إلى أمةٍ واحدة؟!!
فما كان أحدٌ يقبل بهذه النظرية، وإذا بالعالم المتحضِّر الأوروبي صار
يُطبِّق هذه النظرية، أنا لا أقول بأنهم قد تأثروا بالسيد الشيرازي، لكنه
واقعٌ قائمٌ، والحياة هي التي دفعتهم إلى التأسيس لهذه النظرية، فإذا بهم
على المستوى الاقتصادي اعتمدوا العملة الواحدة (اليورو)، عملةٌ واحدةٌ
يتعامل بها دولٌ متعددة، فليس هناك -مثلاً- مارك ألماني، أو فرنك فرنسي،
أو...، بل يوجد (يورو) يُتعامل به هنا وهناك، أما بالنسبة للحدود، فقد
وضعوا قوانين، وألغوا الكثير من القوانين التي تُلغي الكثير من القيود،
فصار التجوّل بالبطاقة، وحتى في دول مجلس التعاون الخليجي -الآن- تُطرح
هذه النظرية.
هذا واقعٌ قد كان، ولكن هذا الواقع قد يشهد
نجاحاتٍ في المستقبل.
نلاحظ من كلامكم أنكم لا تتوقعون وجود مدرسةٍ
ترتقي إلى مستوى أعلى من المدرسة الشيرازية؟
أنا لم أقل هذا الكلام، وأنا لم أقل لا أتوقع،
والساحة موجودةٌ، "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"
(التوبة/105)، وعلى حدِّ قولهم: (هذا الميدان يا حميدان)، إذا استطعتُ
أنا أن أتفوّق، فالخيار لي، أما إذا استطاع غيري أن يتفوّق فالخيار له،
ما قلتُه هو: الآن، على المستوى الثقافي والاجتماعي -وهذا إدّعاؤنا- لا
توجد مدرسةٌ أخرى أرقى من مدرسة الإمام الشيرازي، ولا أقول على المستوى
السياسي، أو المستوى العلمي، ولهذا نتمسَّك بها.
*هل استطاع طلاب الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه-
ومقلِّدوه بلورةَ مشروعه الثقافي والاجتماعي إلى واقعٍ عمليٍّ في
المنطقة؟
يبدو لي إن الوجدان كفيلٌ بالإجابة على هذا
التساؤل، فهناك تجارب استمرت على مدى ثلاثين سنةً، شهدنا -نحن- منها
قرابة أربعة وعشرين سنةً، هذه التجارب ثابتةٌ ومثبتةٌ، أن تلاميذ السيد
-رحمة الله عليه- كانوا على امتداد هذه الفترة، يسعون لتطبيق هذه
النظريات على أرض الواقع، نجحوا فيما نجحوا، وفشلوا فيما فشلوا، ولكنهم
-اليوم- واقعٌ قائمٌ على الساحة.
بالنسبة لـ (التجديد والمعاصرة) ألا تُعدُّ هذه
الميزة من مميزات مدرسة الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه-، سواء
(التجديد) على المستوى الفكري (النظري) أو على المستوى العملي (التطبيقي)
في الأساليب، إذ إن سماحته -رحمة الله عليه- من جهة أخذ يتطرّق في أبحاثه
الفقهية إلى مباحث وأبواب لم يكن أحدٌ ممن سبقه يتطرق إليها، كفقه:
البيئة والإجتماع والسلام والمرور والمستقبل و...، ومن جهة أخرى -وكما
يعتقد الكثير- أنه استطاع أن ينقل الفقه نقلةً نوعيةً مهمةً، وذلك بأن
عمل على تحويل اهتمام الفقه من إطاره الفردي الذي يدور في إطار المسلم
كفرد وشخص -وهو الإطار التقليدي للفقه- إلى فقه إجتماعي يتجه إلى
الإجتماع في دائرته الأوسع، وذلك من خلال فقه الإجتماع أو فقه الدولة
الإسلامية والأحزاب السياسية، وما أشبه، ألا يعدُّ كل ذلك من الجوانب
المهمة التي تميزت بها هذه المدرسة الفكرية؟
طبعاً، التجديد يختلف عن المعاصرة، والمعاصرة لا
شكّ أنها كانت ملحوظةً في فقه الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- فقد سعى
في فقهه إلى تطبيق مبدأ المعاصرة -والموسوعة الفقهية تشهد على ذلك-، ليس
في خصوص الانفتاح على الموضوعات المعاصرة(2)، وإنما حتى النظريات الفقهية
الجامدة، استطاع الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- أن يفكّها، ويُعطيها
طابع المعاصرة، ففي الكثير من الدروس، كنا نتوقف عند هذه النقطة، إذ في
بعض الأحيان، نبحث نقطةً فقهيةً مجرّدةً جداً، على سبيل المثال (مسألة
الأكل والشرب المفسد للصوم)، فتارةً يكون الأكل والشرب المفسد للصوم عبر
الفم، وتارةً عبر الأنف، وما إلى ذلك، هنا كانت تأتينا احتمالاتٌ ونضع
لها افتراضاتٍ، وبمجرد أن تأتينا مثلُ هذه الاحتمالات، مباشرةً نقول:
سنحصل على احتمالات أوسع منها -في هذه المسألة الجامدة- في فقه السيد
-رحمة الله عليه-، وحينما نبحث في الكثير من الكتب، لا نجد مثل هذه
الإثارات والتوسعات، وإنما دائماً نجد الاحتمالات الدارجة، أما السيد
فإنه دائماً يأتي إلى مثل هذه المسائل المنغلقة والضيِّقة، فيُعطيها
احتمالات معاصرة، من مثل: (لو أكل الإنسان عبر رجله) أو (لو أكل الإنسان
عبر عينه) قد لا يفكر الإنسان في هذا اليوم، ولكن، يُطرح كاحتمال، فهل
هذا مفطرٌ لصومه أم لا؟! فيضع الاحتمال، ثم يسخِّر الأدوات والمباني
العلمية لمعالجة هذه القضية، فالجامد يحاول السيد إعطاءه نوعاً من
العصرنة.
ففي جانب المعاصرة -بلا كلام- السيد أضفى طابعاً
عصرياً دقيقاً جداً على فقهه، ولكن، لا أحصر ذلك في السيد، وإنما هناك
عدةٌ من الفقهاء المعاصرين، كانت لهم مساهماتٌ في ذلك أيضاً، فـ (كتاب ما
وراء الفقه) للسيد محمد محمد صادق الصدر الشهيد الثاني -رحمة الله عليه-
وهو عشرة مجلدات، سُخِّر لعصرنة الفقه، وهذا إنتاج جميل جداً في هذا
الإطار، ولكن السيد الشيرازي -رحمة الله عليه- ممن أبدع، وممن بكَّر في
إعطاء هذا المنهج، ومن الأوائل الذين سخَّروا الأدوات الفقهية تسخيراً
عصرياً جميلاً.
لا شك أن مدرسة الإمام الشيرازي مدرسةٌ لها حضورها
الملحوظ في الساحة الإسلامية، ولكن، أليس من الأفضل لهذه المدرسة أن
تتكامل مع غيرها من المدارس الموجودة في الساحة، والتي تميّزت في أبعادٍ
أخرى، كالمدرسة السياسية للإمام الخميني، والمدرسة الفلسفية الأصولية
للشهيد الصدر، والمدرسة العلمية للإمام الخوئي -رحمة الله عليهم أجمعين-،
هذا من جهة، ثم ألا تعتقد بأن عنونة مدرسة الإمام الشيرازي بأنها مدرسة
ثقافيةٌ اجتماعيةٌ هو عنوان مطاطي، وبالتالي فإن توصيفها يحتاج إلى دقةٍ
في البحث؟
لا، وإنما أردت أن أصل إلى تحديد معنى المدرسة في
رأيي، غيري ربما يختلف معي في تحديد معنى المدرسة، إذ يمكن أن يقول صاحب
رأيٍ: أن المدرسة عبارة عن وجود آراء وإن لم تُطبَّق على أرض الواقع،
فإذا قلنا أن المدرسة مجرد وجود آراء لم تُطبَّق على أرض الواقع، فكل
إنسانٍ يصبح مدرسة، أنا أعتقد خلاف ذلك؛ لأنه بهذا المعنى، لا يوجد إنسان
إلا ويكون مدرسة، لأن كل إنسانٍ يحمل في داخله أفكاراً ونظرياتٍ،
فالمدرسة لها شروط، أول هذه الشروط أن تُطبَّق النظرية على أرض الواقع،
فإذا طُبِّقت، ولقيت نجاحاً -النجاح الذي أشرتُ إلى أسبابه وعناصره قبل
قليل- تتحوّل طبيعياً إلى مدرسة، أو تنتهي فيرفضها الواقع.
السيد الشيرازي في الإطار السياسي له نظريات واسعة
جداً، فعنده (فقه الدولة الإسلامية، فقه السياسة، فقه الحقوق، فقه
القانون...) هذه كلها نظريات سياسية، هذا بالإضافة إلى النظريات التي لم
يكتبها، والمواقف التي كان يتخذها بين الحين والآخر على أساس أحداثٍ
قائمةٍ فعلية، ولكن، لأن السيد لم يحظَ بتجربةٍ واقعيةٍ فعليةٍ كالدولة،
يُطبِّق عليها نظريته السياسية لم تتحوَّل إلى مدرسة، لهذا أنا نحّيتُ
المدرسة السياسية، حتى لا يُشكل عليَّ بهذا الإشكال، أنه ما طبَّقها على
أرض الواقع، حتى نقول عنها أنها مدرسة، فنحَّيتها، وفي الإطار العلمي،
تكلمتُ حينما قارنت بين نظرية السيد الشيرازي والسيد الخوئي، إذ قلتُ:
كيف تحولت الثانية إلى مدرسة بخلاف الأولى، ولو أنها حظيت بذاك الذي حظيت
به نظرية السيد الخوئي، لتحولت إلى مدرسة، ولأضفتُها، وقلتُ: هي مدرسة
ثقافيةٌ اجتماعيةٌ علميةٌ، وأقصد علميةً أكاديمية.
في ظني، الذي حظي به السيد الشيرازي، ووُفِّق إليه
من نظرياته التي طبَّقها، هي النظريات الثقافية، والنظريات الاجتماعية،
إذ طبَّقها على أرض الواقع ولقيت لها صدىً، فالنظريات الثقافية طبَّقها
على أرض الواقع من خلال مشاريعه الثقافية القائمة في الساحة، ومن خلال
نشاطاته الثقافية العلمية من حوزات، ومعاهد، ونشرات، ومجلات، وما أشبه
ذلك من المناهج الثقافية التي اعتمدها أتباعه وامتدادات مدرسته، فتحوَّلت
إلى مدرسة؛ لأنها طُبِّقت على أرض الواقع، والنظريات الاجتماعية -مثلاً-
التي كتبها في كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، يقول السيد: أنا كتبتُ
نظريات نتيجةً لتجربة أربعين سنةً، فكانت نظريات، ولكنها طُبِّقت من خلال
المشاريع الاجتماعية والحركية، وعلى سبيل المثال، نظريته في الانتقال من
العمل الفردي إلى العمل الجمعي، طُبِّقت على أرض الواقع، ولقيت نجاحاً؛
ولذلك تحوّلت نظرياته الاجتماعية إلى مدرسة.
ولهذا، أنا أُصرُّ على أن ما تشكَّل إلى مدرسة من
نظريات السيد الشيرازي، هي المدرسة الثقافية الاجتماعية، ولهذا أقصيتُ
الإطار العلمي والسياسي.
قلتم: بأن مدرسة الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه-
لم تكتمل بعد، فهل مدرسة الإمام الخميني السياسية، ومدرسة الإمام الخوئي
العلمية، ومدرسة الشهيد الصدر الفلسفية اكتملت، مع أن جميع مؤسسي هذه
المدراس قد رحلوا، ثم قلتم: بأن المدرسة الشيرازية في إطاريها الثقافي
والاجتماعي قد طُبِّقت، فمن يكمل المدرسة، وقد رحل المؤسس، هل هم أتباع
المدرسة من علماء ومفكرين ومثقفين، ونحن نعلم أن الاجتهادات تختلف، حتى
بين أتباع المدرسة الواحدة؟
طبعاً، معنى عدم الاكتمال الذي أقصده هو كالتالي:
النظرية لماذا تُؤسَّس؟!
إنما تؤسس لتحقِّق أهدافها، فإذا حققت أهدافها،
نقول باكتمالها، ثم ندرسها كنظريةٍ كاملةٍ، فنظريات السيد الثقافية
والاجتماعية مدرسة، ولكنها بعد لم تحقق أهدافها، إذ ما زال أمامها مشوارٌ
طويل حتى تحقق سائر أهدافها على الإطار الثقافي والاجتماعي، فمثلاً، لو
أخذنا نظريات السيد في (الأمة الواحدة)، الدعوة لهذه النظرية التي طرحها
السيد وأسسها، ودعا إليها، واستمر عليها حتى الموت، وفي كل جلساته كان
يؤكد عليها، لكنها بعد لم تكتمل؛ لأننا بعد لم نرَ أمةً واحدةً، ملغاةً
فيها كل الحدود، حتى نقول: بأن نظرية السيد صحيحةٌ أم خاطئة، حتى نكتشف
دقة نظرية السيد في الأمة الواحدة.
إذ هناك نظريات تقول: ينبغي أن نؤسس للطرح الوطني،
وهناك نظريات تقول: ينبغي أن نؤسس للطرح القومي، كالتي تبناها القوميون
العرب، أما نظرية السيد الشيرازي، فتقول، ينبغي أن نؤسس للطرح الأممي.
أيام جمال عبد الناصر، حاولوا تطبيق النظرية
القومية، فأرادوا أن يعملوا دولةً واحدة، حيث جعلوا (مصر) و(سوريا) دولةً
واحدةً، ولكنها فشلت، هنا يمكن أن نقول: بأن النظرية القومية فاشلةٌ، وإن
كانوا يدعون بأن النظرية القومية لم تكتمل بعد، إذ لم تُطبَّق النظرية
القومية العربية كاملةً، حتى نقول: النظرية القومية صحيحةٌ أم خاطئة.
النظرية الوطنية تقول: بأننا نجحنا، واكتملت
نظريتنا، وهذه الأوطان قائمةٌ، وفاعلةٌ، بل، هي أفضل طريقةٍ لإدارة
الأمم، وإدارة المجتمعات؛ لأن الأوطان قائمةٌ، لكن! هذه النظرية بدأت
تُختَرم؛ لأنه في العالم المتحضِّر بدأت الشروخ في جسد هذه النظرية،
و(اليورو) أهم شرخٍ في هذه النظرية، وإلغاء القوانين عن الحدود، واستخدام
البطاقات، أهم الشروخ في هذه النظرية.
نظرية الإمام الشيرازي –رحمة الله عليه- في الأمة
الواحدة، ما زالت نظريةً، لكنها لم تكتمل بعد؛ لأنها بعدُ لم توجد لدينا
أمة واحدةٌ، فإذا وُجِدت، ففي ذلك الحين، سنقوِّم هذه النظرية، ونقول:
بأنها نظريةٌ كاملةٌ أم لا؟
لكنها بعدُ ما اكتملت، فلا نستطيع أن نقول: بأنها
نظرية فاشلة اليوم؛ لأنها بعدُ لم تحقق أهدافها، هذا أولاً.
وثانياً: النظريات الأخرى، أنا في ظني كثيرٌ منها
لم يكتمل، وأصحابها يدّعون أنها لم تكتمل، ولهذا فهي خاضعةٌ للنقاش
والجدال، فعلى سبيل المثال، نظرية الإمام الخميني -رحمة الله عليه- هي
نظرية سياسية -نظرية ولاية الفقيه- إذ طرحها الإمام الخميني كنظريةٍ،
وطُبِّقت، والآن يوجد نقدٌ قويٌّ لهذه النظرية في الساحة الإيرانية،
وأصحاب النظرية الناقدة يقولون بأن النظرية -نظرية ولاية الفقيه- اكتملت؛
لأنها طُبِّقت على أرض الواقع، وبالتالي يحق لنا أن ننقدها، أما أتباع
النظرية فيقولون: بأنها ما اكتملت، فأتيحوا لها الفرصة.
متى تكتمل النظرية إذن؟!!
هل تريد في عشرين سنةً، وفي دولةٍ شيعيةٍ حديثةٍ،
أن تطبِّق النظرية، وفي دولةٍ محاصرةٍ منذ أن قامت، حيث فرضت عليها حرب
الثمان سنوات، وفُرِض عليها حصارٌ، وبعض أوجهه باقيةٌ لهذا اليوم؟!! إذن،
دعوا الدولة تستقيم، وتستمر على مدى خمسين سنةً، ونحن نطبِّق هذه
النظرية، وعند ذلك نكتشف أن هذه النظرية صحيحة، أم خاطئة.
فالاكتمال هو التطبيق حتى آخر نقطة، هذا هو
الاكتمال، حتى يكون النقد تاماً.
وأما النظريات العلمية، فيصعب القول باكتمالها،
لماذا؟!! لأن النظريات العلمية دائماً خاضعةٌ للنقاش، فنظريات الإمام
الخوئي -رحمة الله عليه- العلمية معرَّضةٌ للنقد من أشهر تلاميذه.
وأنا أدَّعي بأن نظريات الإمام الشيرازي -رحمة
الله عليه- قطعت شوطاً واسعاً، ولكن، بقي عليها الكثير حتى تكتمل،
والاكتمال بالمعنى الذي ذكرته.
حينما تحدثتم عن دور العلماء والفقهاء المنتمين
إلى مدرسة الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- في المحافظة على النظريات،
لم يكن مقصودكم هو مجرد التلميع -إن صحَّ التعبير- لما جاءت به هذه
المدرسة من نظريات، وهذا ما نلاحظه في كتابكم الصادر حديثاً (أحكام الأكل
والشرب: النظرية العامة)، حيث عرضتم فيه آراء الفقهاء الأعاظم -على حدِّ
تعبيركم- كما عرضتم فيه آراءً للإمام الشيرازي، وربما تبنيتم آراء فقهيةً
تُخالف ما جاء به الإمام الشيرازي من آراء، ولكن مجرد عرض هذه الآراء في
قبال آراء العلماء العظام، هذا يُعبِّر عن الشيء الكثير، ومن هنا تبدأ
مسؤولية تلاميذ عميد هذه المدرسة، أليس كذلك؟
هناك روتينٌ علميٌّ، هذا الروتين متداولٌ في الوسط
الحوزوي، وهو أن الطالب أول ما ينقد، ينبغي أن ينقد آراء أساتذته، وهذه
خطوات أولى لا بدَّ من اعتمادها، وهذا مقبولٌ ومطلوبٌ من كل طالبٍ، أول
ما يبدأ بمناقشة نظرية فقهيةٍ، يُفترض منه مناقشة آراء أستاذه، ولهذا، لا
غرابة في هذا الطرح، ولكن ما ينبغي قوله، أن هذه المدرسة ينبغي أن تبقى،
ونظرياتها ينبغي أن تُقنَّن، وتُقحَم في الوسط الأكاديمي؛ لتُصبح مدرسةً،
وحتى تُقحم في الوسط الأكاديمي وتصبح مدرسة، ليس من الضروري أن أكون
متفقاً معها في كل شيء.
حتى تصبح النظريات مدرسةً، ينبغي أن تُطرح،
وتُنتقد علمياً، وعلى سبيل المثال، لدينا تلاميذ الشهيد الصدر -رحمة الله
عليه- لم يتعرَّض أحدٌ منهم لنظرية (حساب الاحتمالات) من دون نقدٍ، بل،
ربما رفضها بعضهم، ولكن، مجرد أنهم سلّطوا الضوء عليها، وأقحموها في
الوسط الحوزوي الأكاديمي، أعطوها مكاناً لتصبح مدرسةً، وإن نقدوها. لهذا
بعض الأحيان، التلميذ يمكن أن ينقد أغلب آراء أستاذه، ولكن، مجرد أنه
أقحمها، فهذا دليلٌ على أنها في يومٍ من الأيام قابلةٌ للتحوّل إلى
مدرسة، وحينما أقول: إن تلاميذ الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- ينبغي
أن يُشمِّروا عن سواعدهم، ويُقحموا هذه النظريات، فلا يعني ذلك أن يأتي
التلميذ للنظرية ويُسلِّم لها مائةً بالمائة، ويُلمِّعها حتى تصبح
مدرسةً، بل على العكس، إن جاء التلميذ ولمَّعها فستصبح نظرياتٍ ضعيفةً في
الوسط العلمي، بل ضعيفةً جداً، والكلام في الوسط العلمي يختلف عن الوسط
الاجتماعي، ففي الوسط العلمي إذا أردت أن تستضعف تلميذاً، أو أردت أن
تستضعف أستاذاً، فإنك تستضعفه من هذه النقطة، أن التلميذ يأتي بنظرية
أستاذه وينتصر لها فقط، ولا ينتقدها، وهذا دليلٌ على ضعف التلميذ
والأستاذ معاً؛ لأن الأستاذ لم يقوِّ عند تلميذه قوة النقد لآرائه، فلا
الأستاذ ناجحٌ، ولا التلميذ ناجحٌ، لهذا في الوسط العلمي، هكذا يعرفون
قوة الأستاذ، وقوة التلميذ، ولهذا حينما أقول: ينبغي أن تُقحَم، فيجب أن
تُقحَم هكذا، لتُدرس، وتُناقش.
*ذكرتم بأن من أساليب المحافظة على المدرسة
الشيرازية في مجالها العلمي، دور العلماء والمفكرين والمثقفين المنتسبين
لهذه المدرسة في ذلك، وأنتم في مقالتكم المنشورة في (مجلة الكلمة) العدد
(34) المعنونة بـ(الأصالة والحداثة في فكر السيد محمد الشيرازي) والتي
تحدثتم فيها عن براعة الإمام الشيرازي في التوفيق بين الأصالة والحداثة
إلى الحد الذي تميزت به مبادئ المدرسة الفكرية للإمام الشيرازي واعتبرتها
من نقاط القوة فيها، في هذه المقالة ذكرتم لنا بأنكم في طور إعداد مشروع
كتاب عن موضوع التوفيقية التي تحدثتم عنها، فأين هذا الكتاب الذي
وعدتمونا به، والذي طال انتظارنا له كثيراً؟
إن شاء الله، في الذكرى السنوية الثالثة لرحيل
الإمام الشيرازي -رحمة الله عليه-.
(1) يقال بأنه في الوقت الذي كان يدرِّس فيه
المحقق النائيني والمحقق الأصفهاني -حيث كانا ندّين في الساحة الأصولية-
كان يحضر درس الأصول عند المحقق النائيني ألف تلميذ، أما المحقق
الأصفهاني فقد كان يحضر درسه الأصول اثنان فقط، لكنهما -كلاهما- صارا
أصحاب مدرسةٍ أصولية، وإلى الآن، هما مدرستان ندّتان،كلٌّ منهما توازي
الأخرى. فما السبب؟!!
(2) غير هذا المعلوم، أن سماحة السيد استخدم
الأدوات الفقهية في معالجة المشاكل المعاصرة، كفقه الدولة الإسلامية،
وفقه الحقوق، وفقه القانون، وفقه السياسة، وفقه الاجتماع، وما أشبه مما
لم يُطبَع لحدِّ الآن، وهذا نوع من أنواع المعاصرة.
[email protected] |