بحث مقدم لمؤتمر الإمام الشيرازي السنوي الثاني –
شوال 1424
لجمعية الرسالة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
كان الإسلام ورفعته وإنهاض المسلمين، وإعادة بناء
الأمة الإسلامية بصياغة جديدة تناسب العصر وتستبطن الثبات على القيم
الحقة هو الهمّ الأول للإمام الشيرازي. ولم يتحرك رحمه الله ضمن أي عمل
بصبغة وطنية أو قومية ضيقة. فهو حين حاضر وطرح رؤى وتوجيهات وكتب
مؤلفات وبيانات تخص هذا البلد أو ذاك فإنما انبعاثاً من المسئولية
الملقاة عليه باعتباره متمكناً وقادراً على العطاء في هذا البلد دون غيره
لأسباب عديدة. فالساحات التي كان يشعر الإمام الشيرازي إنها موقع
مسئوليته كانت بالدرجة الأولى هي التي تواجد فيها أو تفاعلت مع اطروحاته
تقليداً باعتباره مرجعاً ومن ثم ارتباطاً وإتباعاً لنهجه. وكانت أكثر تلك
الساحات التي خصها الإمام الراحل بالعناية المركزة هي العراق وإيران
وأفغانستان. ولعل لهذه البلدان خصوصيات معينة كوقوعها تحت نير الاستبداد
المتشدد، وكونها من المواقع المهمة لشيعة أهل البيت عليهم السلام، ولوجود
الحوزات العلمية وارتباط الكثير من العلماء بسماحته و استرشادهم به.
فمشروع إعادة الدولة الإسلامية الواحدة المترامية
الأطراف، والمستظلة بنور الإيمان والعدل والحرية هو الهدف الأسمى
والمترسخ لدى الإمام المجدد الشيرازي. قال – رحمه الله -:
"إن كيفية نجاة المسلمين هي بإيجاد حكومة واحدة
لهم تكون بالاختيار الحر لرئيسها المرضى لله، وبكون الأحكام إسلامية
بحتة، ليعيش المسلمون تحت ظلها في أمن ورفاه وسيادة وتقدم[1]".
استيعاب التجارب السابقة في العراق
ولد الإمام الشيرازي في عام 1927م. ومنذ وصول
الإمام الشيرازي الى سن السادسة عشر من عمره، سن التكليف الشرعي، والرشد
الفكري، وهو في بيت المرجعية العاملة ذات التأثير الكبير في تاريخ العراق
المعاصر. كانت الحرب العالمية الثانية[2]
في أشد صراعاتها في أوربا وامتدادها في المناطق الإسلامية. منذ ذلك العمر
بدأ الإمام الشيرازي باستيعاب واع للتجارب التي مر بها العراق، ابتداءً
من العهد الإسلامي الأول. وكان خير قارئ للتاريخ العام، ولتاريخ العراق
بالخصوص. ثم كان على إطلاع بالوضع العراقي المعاصر في تفاصيله الدقيقة،
بعد تفجر ثورة العشرين، وما آلت إليه من مجيء الملكية الهاشمية، وخروج
السلطات تدريجيا من أيدي المراجع الى الدولة الحاكمة التي أصبحت في
النتيجة العامة محاربةً للتوجه الإسلامي، وعميلة للإنجليز. وما أدت إليه
الحرب العالمية الثانية من تقسيم للعالم الإسلامي، وزرع الكيان الصهيوني
في فلسطين، وسيطرة الغرب اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً على المنطقة،
ومحاولات التغريب الشرسة للمسلمين عموماً. مع خصوصية الوضع العراقي،
ومقتل الملك غازي ذي الميول القومية في عام1939، ثم مجيء فيصل الثاني على
رأس الحكم في العراق ، وهو لم يبلغ الحلم، وتعيين عبد الإله وصيا للعرش،
وسيطرة نوري السعيد التامة الى رئاسة الحكومة في العراق "لأربع عشرة
دورة، عدا وزارة الدفاع التي كانت تحت سيطرته لخمس عشر دورة، وهو المهندس
السياسي العام للنظام الملكي منذ العشرينيات حتى سقوطه في 1958، وهو
المعروف بسياسته في ذات الوقت الموالية للغرب وبريطانيا خصوصا، ومسايرته
للشركات الاحتكارية الغربية على مصالح الشعب[3]".
لقد عاصر الإمام الشيرازي كل تلك الأوضاع الخطيرة
والهامة التي صاغت بدايات تكوين العراق كدولة حديثة، عاصرها بوعي تام
بأنها جاءت في مسلسل مخالف للنهج الإسلامي الذي آمن به وجعله همّه الأول.
وفي بداية شبابه قام – رحمه الله - بالتصدي العام للقضايا الكبرى في
العراق، بآلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتوعية العامة. كما
قام بنصح الحكام والوزراء[4]،
والاتصال بالعلماء والمراجع، ومحاولة استنهاضهم بوضع مشروعات للتصدي
للهجمات الاستبدادية من جانب السلطات، والهجمات الفكرية الخطيرة من جانب
الأحزاب الشيوعية والقومية والعلمانية[5].
يقول سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي
دام ظله عن أستاذه الإمام الشيرازي: من جملة ما شاهدت من سيرة هذا الرجل
العظيم ، في قصة رائعة شاهدتها بنفسي، أنه حينما اعتقل نظام الشاه الإمام
الخميني رحمه الله، وأراد أن يحكم عليه بالإعدام، كان من جملة ما قام به
المرجع الشيرازي أن ذهب الى النجف الأشرف، والتقى الإمام الراحل الخوئي
رحمه الله، والإمام الراحل السيد محمود الشاهرودي، وهما مرجعان كبيران،
وصحبهما الى الإمام الراحل السيد محسن الحكيم، فعقدوا جلسة وقرروا السعي
الى ثني شاه إيران عن إعدام الإمام الخميني، وهكذا كان حيث لم يقتل
الإمام الخميني، وهناك مبادرات مشابهة لها في تاريخ العراق، استطاع من
خلالها تحريك الشارع العراقي بنشاطه وحيويته[6]".
لقد استوعب السيد الشيرازي تلك الفترات التي عاشها
في العراق، واستخلص منها الكثير من العبر والتصورات، مما أهّله لأن يضع
خططاً واستراتيجيات مهمة للنهوض بوضع العراق خصوصاً والأمة الإسلامية
عموماً، وقد بسط العديد من تلك الخطط في كتبه المختلفة.
معالم الإستراتجية المستقبلية للعراق الجديد
كان الإمام الشيرازي متيقناً أن حكم الطاغية صدام
زائلٌ عن قريب، وأشار الى ذلك مرارا في العديد من كتبه، ومحاضراته على
الرغم من العنف والبطش الذي كان يبرزه النظام البائد آنئذٍ في داخل
العراق . وفي الأيام الأخيرة التي سبقت وفاته، طرح بشكل ملفت أن تغييرا
وشيكا قادما في العراق، ومن ذلك، في المحاضرة التي ألقاها في جمع من
العلماء والعاملين في الشأن العراقي قبيل وفاته بخمس ليال أشار رحمه الى
أن الغرب سيقدم على تغيير حكم صدام، وطرح أسسا مهمة للعراق الجديد، وحمّل
المجاهدين العراقيين ضرورة التصدي للمطالبة بها[7].
ونحاول هنا أن نضع أهم تلك المعالم التي كان يرى
الإمام الشيرازي أن تكون شاخصة في وضع العراق بعد سقوط نظام الطاغية،
مستخلصينها من كتبه، وجملة من تحركاته ومواقفه.
أولا: إجراء الانتخابات العامة
أكد الإمام الشيرازي على ضرورة الرجوع إلى الأمة،
"باعتبار كل شيء يرتبط بشؤون الأمة لابد فيه من الاستشارة[8]"،
وذلك يعني وجود انتخابات لأجل:
1- اختيار الحاكم. يقول رحمه الله:"أما وجوب
المشورة في مجيء الحاكم الى الحكم، فلأنه نوع تسلط على الناس، والناس لا
يصح التسلط عليهم إلا برضاهم[9]".
2- اختيار مجلس يمثل الأمة، وكذا الرجوع الى الشعب
في القضايا المصيرية أيضا[10].
والحاكم ملزم بالأخذ بالشورى عبر ممثلين يختارهم
الشعب[11]
في سلطة يسميها دوما بالتأطيرية، لأنها تؤطر التشريعات، وتجعلها قابلة
للتنفيذ، وليس تشرّعها قبال التشريع الإلهي. على أنه يوجب أن يكون الحاكم
المرشح فقيهاً عادلاً إن كان هناك إجماع عليه، وغالباً ما يكون ذلك
متعذراً، فيكون البديل هو مجلس فقهاء منتخب أيضاً[12].
ويرى أن بإمكان الشعب اختيار رئيس منتخب مباشرة من الأمة او بحسب رأي
أكثرية مجلس الأمة ومجلس الفقهاء[13].
وحين نترجم
مقولات الإمام الراحل في الوضع العراقي الحالي فهو يرى بضرورة إجراء
انتخابات عامة لاختيار ممثلين عن الشعب في القضايا المصيرية من قبيل وضع
الدستور المتوافق مع الشريعة والمعبر عن روح الإسلام وتطلعات المسلمين
العراقيين. وكذا وجود مجلس يمثل الأمة تكون مهمته رقابة الحكام وموضع
استشارتهم.
ثانيا: الحكومة الشعبية
يرى الإمام الشيرازي أن الحكومة يجب أن تكون حكومة
شعبية قريبة الى حاجات الناس وتطلعاتهم. وبالتالي فإن الحكام في العراق،
يجب أن يكونوا قريبين الى الجماهير، يتحدثون معهم، ويتلمسون احتياجاتهم.
يقول رحمه الله: "فلا يجلس الحاكم في برج عاجي، ويلف حوله جماعة من
المرتزقة، ويستند الى السلاح والمخابرات والإعلام ثم يدعي أنه حاكم شعبي،
وإنما يكون مع الناس في أحزانهم ومسراتهم، في مأكلهم ومشربهم، بل ربما
كان يتمتع بأقل مما يتمتع به الناس[14].
وفي نظره أن الحكومات أما أن تكون شعبية مستندة الى الجماهير ومعبرة عنها
أو سلطوية تنتهج منهجاً بعيداً عن الجماهير وحاجاتها مترفعة عليها[15].
إن الحكومة السليمة التي يجب أن تحكم العراق في
نطر المجدد الشيرازي هي التي تستطلع آراء الشعب، وتحاول جاهدة أن تلبي
احتياجاته الأساسية أولا بأول، وتكون الأولوية في كافة مشاريعها وخططها
هو تقديم الأمن وتوفير سبل العيش الكريم للشعب. ولن تكون الحكومة شعبية
ما لم يكن الحكم بيد الأكثرية التي يمثلها الشعب.
ثالثا: الحكم بيد الأكثرية
باعتبار التعدد القومي والديني والطائفي في
العراق، فإن الحكم يجب أن يكون بيد الجهة التي تمثل أكثرية الشعب. وهم
الشيعة باعتبارهم الأكثرية في الشعب العراقي، حيت تصل نسبة الشيعة في
العراق 80 % ، بحسب إحصاء أجراه السيد محمد الصدر رئيس الوزراء في أواخر
الأربعينيات[16].
وذلك مقتضى العدل، ومقتضى القانون المتعارف عليه دولياً[17].
كما يجب إعطاء الأقليات حقوقها بقدر تمثيلهم في الشعب، واحترامهم
[18].
ويقصد أن تكون الأكثرية هي الحاكمة، بمعنى أن يكون الطابع العام للدولة
وفقاً للخصوصيات الذي تتميز بها الأكثرية، سواء في طبيعة التشريعات
العامة للدولة، في اختيار المسئولين الكبار كرئيس الجمهورية ومعظم
الوزارات أو في الأمور الشعائرية من مثل الآذان، وتحديد العيد وما الى
ذلك.
رابعاً : القوانين الإسلامية هي الحاكمة
إن تطبيق الأحكام الإسلامية يؤدي الى تطور الأمة
وانسجامها بين عقيدتها ومبادئها التي تؤمن بها، وبين الواقع الحاكم
والمعاش. ويرى الإمام الشيرازي أن القوانين الإسلامية كانت هي السائدة
في العراق في الأربعينيات وما قبلها، ولكن الاستعمار البريطاني وعملاءه
حاربوا تلك القوانين حتى أبعدوها عن الحكم والتطبيق[19].
إن مجيء حكومة إسلامية شعبية وبالطريقة الشوروية
الصحيحة في اختيار الحاكم وفي رجوعه الى ممثلي الشعب يضمن تطور العراق
واستقراره. فقد أثبتت التجارب السابقة التي مرت بها الأمة ككل والشعب
العراقي بالتحديد أن كل صيغ الحكم السابقة من قومية وملكية وجمهورية
وبرلمانية لم تطور الأمة، وإنما أبقتها في مربع التخلف والديكتاتورية.
على أن تطبيق القوانين الإسلامية إنما يكون بصورة
تدريجية من خلال تشكيل لجنة من علماء الإسلام والخبراء والاختصاصين حتى
يحددوا الأولويات في سلم التدرج منعاً من أي اهتزاز في الوضع السياسي أو
الاقتصادي او الاجتماعي[20].
ويأتي بمثال حول منع الربا، ويضع التصورات التي
يمكن أن تحدث اقتصادياً إذا تم تطبيق منع الربا بصورة فورية ومن دون
تدرج، كأن يؤدي الى سحب الأموال وإفلاس عدد من المؤسسات بما يقود الى
اهتزاز الوضع الاقتصادي.
وليس تطبيق القوانين مقتصراً كما يتصور البعض على
الجوانب العقابية، بل البدء بالقوانين التي تغيّر وضع الناس الى الأفضل،
من مثل قانون بيت المال لتغطية احتياجات الطبقات الضعيفة، وقانون (الأرض
لمن عمرها) وقانون فتح المجال لكافة المسلمين للاستثمار باعتبار(الأخوة
الإسلامية). بل يطرح رحمه بنظره الثاقب أن يتم تأخير تطبيق القوانين
العقابية كجلد الزاني، وقطع يد السارق بعد توفر كافة الشروط الشرعية التي
تقلل من تنفيذ تلك العقوبات الى ما بعد خمس سنوات أو ما أشبه حسبما يقرره
الفريق الذي اقترحه لإدارة أسلمة الدولة وقوانينها. والفريق المذكور
مكون من شورى الفقهاء والخبراء العارفين بمختلف العلوم العصرية. وأراد –
رحمه الله – من وجود فترة انتقالية حتى تطبيق قانون العقوبات الإسلامية
هو أن تستوفي الدولة الإسلامية من تحقيق شروط العدالة والنمو والحرية
والرخاء، فلا يكون هناك عذر حينئذ بارتكاب أية جريمة.[21].
خامساً: وجود
سلطات أربع
إن خصوصية الأمة الإسلامية وقوانين الإسلام تقتضي
وجود أربع سلطات، في نظر الإمام الشيرازي، وهي:
1- السلطة العليا في الدولة، وهم مجلس شورى
الفقهاء المراجع، والذي يُعد المجلس الأعلى للدولة، وهم منتخبون من الشعب
باعتباره يرجع إلى أولئك الفقهاء المراجع في الأحكام الشرعية المختلفة.
وبما أن تلك الأحكام تشمل مختلف قضايا ومسائل الحياة، فإن الفقهاء
المراجع هم الأساس الحاكم[22].
ويختص عمل شورى الفقهاء بوضع التشريعات بصورتها العامة وأحكامها الكلية،
ومراقبة سير الدولة ومؤسساتها، وتوجيه الأمة فكرياً وثقافياً وتحقيق
التناغم والترابط بين الشعب والسلطات[23].
2- السلطة التشريعية، وهي مجلس الأمة[24].
وطبيعة تشكليه أما عائد الى مجلس الفقهاء في حال أن الأمة فوضت طريقة
اختيارهم الى الفقهاء المراجع، أو بالاختيار المباشر من الشعب. على أن
يكون مجال عمل مجلس الأمة علاوة على رقابة السلطات المختلفة هو صياغة
القوانين بصورته العملية والنهائية المستخلصة من المبادئ والقوانين
العامة التي يضعها مجلس شورى الفقهاء. وبحسب التعبير الفقهي أن عمل مجلس
الأمة هو تطبيق الكليات الشرعية الفقهية على الموارد الخارجية.
3- السلطة التنفيذية، وهي الحكومة، واختيارها أما
عائد الى مجلس الفقهاء كما في حال تفويض الأمة لمجلس الفقهاء بأن يعينوا
بأنفسهم الحكومة، أو بحسب بحسب ما يراه مجلس الأمة، بالتعاون مع مجلس
الفقهاء. وعملها هو تنفيذ ما تقرره السلطة التشريعية[25].
4- السلطة
القضائية. ويتم اختيارها بحسب ما ورد في السلطة التنفيذية. وتكون
مسئولياتها هو الفصل في المنازعات الحاصلة بين الناس أو بين السلطات
المختلفة، وتتمتع باستقلالية وقوة، بحيث أنها تستطيع أن تقاضي أي فرد في
الدولة كائناً من كان، كما يجب أن يكون القضاة متمكنين علماً وخبرة[26].
سادساً: إطلاق الحريات العامة[27]
إن الدولة لا
يمكن أن تتطور في رؤية الإمام الشيرازي إلا بإطلاق مختلف الحريات
العامة، كحرية الصحافة وحرية تأسيس الإذاعات والمحطات التلفزيونية، وحرية
تكوين الأحزاب السياسية الحرة والنقابات والجمعيات المهنية وما أشبه بما
يُعرف حالياً بمؤسسات المجتمع المدني. وتقوم هذه المؤسسات بجمع مختلف
طاقات الشعب، وتننافس فيما بينها لتقديم أفضل الخدمات للشعب. والخدمات
المقصودة هي بناء الكفاءات المختلفة، وتقديم البرامج والإطروحات،
والمساهمة في سد حاجات الشعب، وتوعية الأمة وأثراها فكرياً وسياسياً.
ويرى المجدد الشيرازي أن كل مرجع من مراجع الأمة ينبغي أن يكون له حزب
سياسي لتأطير عمل أتباعه وتفجير طاقاتهم. كما يحق لبقية القوميات
والتجمعات والطاقات تشكيل أحزاب خاصة بها ما لم تكن محاربة للدين أو
مرتبطة بالدوائر الاستعمارية الاجنبية. على أن الحريات ينبغي أن لا تكون
محرمة شرعاً، كالبغاء، او تؤدي الى مفاسد ومضار على المجتمع.
سابعاً: سياسة العفو والسلم
دعا الإمام الشيرازي مراراً في العديد من كتبه
ومحاضراته، الى سياسة العفو العام عن كل من أجرم قبل قيام الدولة
الإسلامية، لأن ذلك يسبب اطمئنان الناس بالحكومة القائمة مما يؤدي الى
تعاونهم معها، وانتشار الاستقرار والأمن[28].
وعلى الرغم من غرابة هذا الرأي بادئ ذي بدء إلا إن المجدد الشيرازي يستند
في ذلك الى سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الإمام علي عليه
السلام حين انتصرا على أعدائهما، كما يستند على دليل عقلي، وهو إن عدم
العفو يوقع الحكومة الجديدة في أزمات مستمرة، وازدياد نسبة العداوة ضدها.
إلا أن ذلك لا يعني أن لا تكون هناك حالات استثنائية كالذين تسببوا
بجرائم كبرى، أو أن العفو عنهم يؤدي إلى مفسدة أعظم، فسيتدرك في كتبه
قائلا: وهذا العفو العام هو الأصل، وإذا كان هناك استثناء فاللازم أن
تقدر بقدر أقصى الضرورة كماً وكيفاً[29].
إن الوضع السياسي والأمني العراقي الحالي معقد
بالصورة التي تستلزم استخدام أقصى حالات الحكمة والحزم. فمن جهة هناك
جرائم شديدة كالقتل بأنواعه المختلفة، والتي قام بها عناصر النظام
السابق، وهؤلاء في نظري يمكن أن يطبق عليهم الاستثناء الذي ذكره المجدد
الشيرازي، بإنزال العقوبة العادلة، تطهيراً للعراق الجديد من القتلة
والسفاكين، وقصاصاً منهم. أما الذين دخلوا حزب البعث وهم بمئات الآلاف،
رهبة أو طمعاً، ومن دون أن تتلوث أيديهم بالقتل والتعذيب، فالأفضل هو
العفو عنهم، واحتضانهم وكسبهم ليتفرغوا للبناء والمشاركة.
ثامناً: التعامل مع الأقليات الدينية والقومية
هناك تنوع متعدد للأقليات في العراق، فمن الناحية
القومية هناك الأكراد، والتركمان. وفي الجانب المذهبي هناك السنة،
واليزيديون, وعلى الجانب الديني هناك المسيحيون، وبعض اليهود. ونظرة
المرجع الشيرازي إلى تلك الأقليات هو إعطاؤها حقوقها كاملة مثل: حرية
العقيدة، حيث لم يجبر الرسول(ص) أحداً على الإسلام بعد فتح مكة، وحرية
المراجعة القضائية لغير المسلمين بالرجوع إلى القضاة المسلمين أو إلى
القضاة من دينهم. كما يحق لتلك الأقليات إنشاء الأحزاب بشرط أن لا تدعو
الى ما يضاد الإسلام. كما يحق لكل قومية أن تمارس لغتها في المدارس
والجرائد وسائر وسائل الإعلام، ويحق لهم إطلاق الإذاعة والتلفزيون
والطباعة ونشر الجرائد والمجلات بلغتهم الخاصة[30].
هذا بالإضافة إلى الحقوق السياسية المكفولة إلى كل مواطن كحق التصويت،
والانتخاب والترشيح لمجلس اِلأمة.
تاسعا: نظرية الأمن الإسلامية
يرى -رحمه الله - أن توفير الأمن للناس، وتحقيق
الاستقرار لهم، هو من أولويات الجهاز الأمني في الدولة الإسلامية. وهذه
النظرية هي خلاف عمل أجهزة الأمن الحالية في الدول المعاصرة. فهو يرى أن
الجهاز الأمني ينبغي عليه التوجه أساساً لمواجهة شبكات الأمن المعادية
والمضادة التي تحاول اختراق الحكومة الشعبية، أو إسقاطها، أو تخريب الوضع
الاقتصادي والأمني والاجتماعي في العراق من خلال العمليات الإرهابية، أو
بث الإشاعات وتضليل الناس وما أشبه. ولا يحق لذلك الجهاز التجسس على
الناس، بل العكس يراقب سير المسئولين، ومدى تقيدهم بالضوابط والقوانين،
ويراقب أعداء الدولة المتربصين بإسقاطها كما لا ترتكب أجهزة الأمن أية
مخالفات لحقوق الإنسان من مثل التعذيب، او التضييق على الحريات وما شابه
ذلك[31]..
عاشراً : جمع الكفاءات وتنميتها
يرى المجدد أن كل من تتوفر فيه الأمانة والخبرة
القائمة على العلم الاختصاصي يجب على الدولة أن تحتضنه، وتهتم به ولا
تفرط فيه، و تضعه في الموقع اللائق به في أجهزة الدولة المختلفة، او
مؤسسات المجتمع، ولا ينبغي أن تكون العقيدة والولاء للنظام هو الأساس[32].
الحادي عشر: تقليل إجهزة الدولة والاقتصار على
الوظائف الرئيسية لها:
يرى الإمام الشيرازي أن للدولة أربع وظائف أساسية
هي
1. تنظيم الحياة العامة للناس في مختلف أوجه
الحياة.
2. الحفاظ على الأمن العام.
3. تطوير المجتمع.
4. الدفاع عن الدولة.
اما غيرها من الوظائف فينبغي أن تمنح للناس، وهذا
يجعل حركة الناس أكثر نشاطاً والمشاريع أفضل أنتاجاً، على أن ترعى الدولة
حق المواطنين بحيث لا يكون هناك احتكار وضرر على المواطنين. ومن ثم يرى
الإمام الراحل أن يتم تقليص موظفي الدولة الى أقل حد ممكن، وهذا يؤدي الى
انصراف الناس الى الإنتاج والاستثمار التام لطاقاتها. وقد بحث ذلك مفصلا
في العديد من كتبه كالفقة الاجتماع والسياسة والحكم في الإسلام وغيرها من
كتبه[33].
الثاني عشر: الأكتفاء الذاتي وتطوير الوضع
الاقتصادي
يرى المجدد أن على الدولة أن تتجه نحو سياسة
الاكتفاء الذاتي في مختلف احتياجاتها، بوضع خطط متكاملة تقود البلاد نحو
التصنيع والتطوير للقدرات والكفاءات، والاستفادة التامة من الثروات
الكامنة في العراق كمثل الأنهار، والزراعة والمعادن وتطوير السبل لأفضل
استثمار لهذه الأمكانيات. كما ينبغي أن تكون الأولوية للمشاريع التي
تؤدي الى تشغيل الأيدي العاملة وعدم وجود بطالة مقنعة أو غير مقنعة[34].
الثالث عشر: تطوير المدن القائمة وبناء المدن
المتطورة:
يرى الإمام الشيرازي أن المدن المقدسة بالدرجة
الأولى ينبغي أن تتطور وتتوسع وأن يتم توفير الخدمات الضرورية واللازمة
لاستيعاب ملايين الزوار الذين يأتون للعراق الى الزيارة. كما ينبغي أن
تكون المدن العراقية واسعة، ويتم تجمليها وتوفير المساحات اللازمة
للحدائق وما يدخل البهجة على النفوس، ويرى أن ذلك يترك أثراً إيجابيا على
الشعب وحركته الايجابية نحو التطور والتفاعل مع النظام السياسي[35].
الرابع عشر: الأساس في العلاقات الدولية[36].
يرى الإمام الشيرازي الأمور التالية في العلاقات
الدولية:
1. أن يتم تصنيف العلاقات على حسب ارتباط تلك
الدولة بالإسلام أولا، فتكون هناك علاقات تعاون وتكامل وتوثيق تام مع
الدول الإسلامية، ومحاولة الوصول الى صيغة الدولة الإسلامية الواحدة. أما
الدول غير الإسلامية فالأساس هو محاولة كسبها، والإحسان إليها وتوثيق
العلاقة معها.
2. حفظ حقوق دول الجوار، وحل المشاكل بالطرق
السلمية والودية، وفتح الحدود مع تلك الدول وعدم تقييد حرية الانتقال
والسفر للمواطنين.
3. عدم الانجرار إلى المواجهات الإعلامية أو
العسكرية ومحاولات الاستفزاز التي قد تقوم بها بعض الدول.
4. التدخل لمساعدة الشعوب المستضعفة من خلال
الضغوطات الإعلامية والسياسية على الدول المستبدة، أو مساعدتها في حل
أزماتها المختلفة.
الخامس عشر: تطوير الحوزات العلمية
إن الحوزات العلمية تلعب في نظر الإمام الشيرازي
دوراً هاماً في تغذية الأمة الإسلامية بالعلماء الصالحين، والذين هم
بدورهم قادة الفكر والرأي والسلوك. وكلما كانت الحوزات العلمية نشطة
وواعية ومتمتعة بأبعاد عديدة في الفكر والسياسية واالمعارف العلمية كلما
استطاعت ان تخّرج العلماء الأكفاء. على أن طلبة العلوم الدينية ينبغي أن
يهتموا بنيل أعلى درجات الإيمان والأخلاق والعلم.
إن تطوير الحوزات العلمية التي دمرها النظام
السابق، وإعادتها لا يكون فقط بتعميرها مادياً، وإنما بتجديد مناهج
الحوزة، وإعطاء الاعتبار لفهم القرآن والسنة المطهرة كأساس في التدريس
العلمي في الحوزة. كما ينبغي إعادة صياغة الكتب المتداولة في الحوزات
بأسلوب واضح وعلمي. ومن مسئوليات الحوزة تخريج علماء قادرين على التحدث
بلغات أجنبية حتى يستطيعوا أن يقوموا بمهمة التبليغ الديني في البلدان
المخلتفة في العالم.
إن من المهم في نظر الإمام الشيرازي أن تقوم
الحوزة بتخريج علماء أكفاء قادرين على إغناء المسلمين بالهدى الرباني
المتسلح أساساً بالقرآن والسنة النبوية، وأصحاب همة عالية في تمكين
الإسلام في الحياة، وقادرين على التعامل مع الأجيال المعاصرة[37].
خلاصة البحث:
إن العراق كان في قلب وعقل الإمام الشيرازي لم
يفارقه رغم رحيله عنه، فقد قام بمقابلة العديد من الشخصيات القيادية
المعارضة في العراق أبان الحكم البعثي، وألقى عشرات المحاضرات، وكتب
البيانات والكتب المختصة بالشأن العراقي. إن رؤية الإمام الشيرازي للعراق
الجديد تقوم على أساس أن النهوض الصحيح للعراق لا يكون في جانبه المادي
لوحده، بل يشمل النهوض بالإنسان والبيئة والمجتمع والعمران معاً.
وقد اعتمد أسساً يراها هي الأهم في مسيرة تقدم أي
بلد وهي: شورى الفقهاء، الانتخابات الحرة، إطلاق الحريات، الأخوة
الإسلامية، تنمية الكفاءات. إن وجود هذه الأسس بنظر الإمام الشيرازي
كفيل بتحقيق تقدم واسع في شتى المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية
والسياسية تحت مظلة الإيمان والموزانة بين عالمي الدنيا والآخرة.
إن الشخصيات القيادية في العراق مدعوة الى قراءة
المشروع الحضاري للإمام الشيرازي قراءة متفحصة للاستفادة منه في بناء
العراق على أسس واعية سليمة تجمع بين إصالة الشعب العراقي وثوابته
الدينية والتاريخية وبين عصرنته بالتطورات المناسبة والصالحة التي تحف
بها الدول المتقدمة.
وأضع هنا بعضا من أهم الكتب التي ينبغي مراجعتها
لاستيعاب هذا المشروع الحضاري للعراق الجديد:
1- الفقه السياسة.
2- الحكم في الإسلام.
3- الدولة الإسلامية.
4- إذا قام الإسلام في العراق.
الرحمة لروح المرحوم الإمام الشيرازي بما قدم من
جهد بالغ لتطوير الأمة الإسلامية وإعادتها الى دورها الريادي في قيادة
العالم.
ملتمساً العذر من أي نقص او خلل اوتقصير في هذا
البحث المتواضع.
[1] الفقه الاجتماع – ج1 ص 342
[2] كان عمر الإمام الشيرازي في نهاية الحرب العالمية
الثانية ثمانية عشر سنة.
[3] موسوعة السياسة ج6 ص632 - بتصرف
[4] راجع كتابي "حوار حول تطبيق الحكم في الإسلام" و
" تلك الأيام" للإمام الشيرازي،ويسرد فيهما لقاءه بالعديد من
المسئولين في العهد الملكي والرؤساء والمسئولين في العهد الجمهوري
[5] راجع كتابه كفاحنا - للإمام الشيرازي
[6] من كلمة للمرجع المدرسي في الوفد الشعبي
البحراني الذي ذهب لتعزيته في شوال 1422 بوفاة أستاذه وخاله الإمام
الشيرازي، وشاركت في ذلك الوفد.
[7] راجع "العراق بعد حزب البعث" كتيب يستعرض
المحاضرة الأخيرة التي ألقاها الى المجاهدين العراقيين في قم المقدسة
في 27 رمضان المبارك 1422هـ.
[8] الشورى في الإسلام – 11 – الإمام اشيرازي
[10] الحكم في الإسلام – 53 – الإمام الشيرازي
[11] راجع : الشورى في الإسلام ص 11-13 15
[13] الدولة الإسلامية ج 1 ص 118 - الإمام الشيرازي
[14] الطريق لأنهاض المسلمين 375 - الإمام الشيرازي
[16] – تلك الأيام- 69 الإمام الشيرازي
[17] حكومة الأكثرية- 28 – الحكم في الإسلام -52 -
الإمام الشيرازي
[18] الحكم في الإسلام – 125
[19] العراق بعد حزب البعث – 6- الدولة الإسلامية ج1
- 101
[20] إذا قام الإسلام في العراق 41 – الدولة
الإسلامية ج1: 176
[22] طرح الإمام الشيرازي موضوع مجلس الفقهاء المراجع
في العديد من كتبه، راجع السبيل لإنهاض المسلمين 297
[23] راجع كتاب "شورى الفقهاء المراجع" للشيخ ناصر
الأسدي.
[24] راجع الدولة الإسلامية ج1 : 118
[26] المصدر السابق 118، 154
[27] لمزيد من التفاصيل حول هيئات المجتمع المدني
راجع – الفقه السياسية ج2 الصفحات من 98 الى 212
[28] راجع "إذا قام الإسلام في العراق"- -27 الإمام
الشيرازي
[31] المصدر السابق 68 – للمزيد من التفاصيل الدولة
الإسلامية ج1: 72، 228
[32] ذكر هذه القضية في العديد من محاضراته وكتبه –
راجع: ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين 111 – الإمام الشيرازي
[33] راجع الفقه الاجتماع ج1 : 330
[34] إذا قام الإسلام في العراق 90 – السبيل لإنهاض
المسلمين 175
[35] الفقه الاجتماع ج1 : 272 – حكم الإسلام بعد نجاة
العراق وأفغان ص 16
[36] الحكم في الإسلام 143 - إذا قام الإسلام في
العراق77 -81- 124
[37] راجع: المرجعية الإسلامية 85 – الإمام الشيرازي
– دور الحوزات العلمية في بناء المجتمع، الحوزة العلمية ومتطلبات
العصر للإمام الشيرازي.
|