في المراسم التي أقيمت في مسجد الإمام زين
العابدين ـ عليه السلام ـ في مدينة قم المقدسة، بمناسبة الذكرى السنوية
الثانية لرحيل المجدد الشيرازي الثاني ـ قدس سره الشريف ـ، قال العلامة
مهدي بور (باحث وكاتب من الحوزة العلمية بقم المقدسة): قبل سنتين توقف
القلب الذي لم يتوقف يوماً عن خدمة الإسلام، ورحل من بيننا فقيه إسلامي
كبير وعالم ديني جليل ترك موته ثلمة في الدين وأورث فقده حزناً وألماً
فينا.
وأضاف: لقد كان الإمام الشيرازي ـ قدس سره ـ أغزر
العلماء في مجال الكتابة والتأليف، حتي أنّا لا نعرف بعد العلامة المجلسي
ـ رحمة الله عليه ـ عالماً بلغ ما بلغه فقيدنا في عالم الكتابة والتأليف.
ثم أشار المتحدث إلي دورة الفقه الكاملة للإمام
الشيرازي ـ رحمه الله ـ وقال: تقع موسوعة الفقه للمرحوم آية الله العظمي
الشيرازي في (150) مجلداً، وهي أشمل موسوعة فقهية لا نظير لها في العالم
الشيعي.
وقال حجة الاسلام والمسلمين مهدي بور في جانب آخر
من حديثه مشيراً إلي الخصوصيات الأخلاقية لهذا المرجع العظيم: لقد حاز
الإمام الشيرازي قصب السبق من بين المراجع الذين عاصرناهم وسمعنا بهم في
مجال حسن الخلق والمعاملة الحسنة مع مختلف فئات المجتمع، وكان يحكي
دائماً بلسانه وسلوكه الأخلاق الإعجازية لأجداده الطاهرين صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين.
وأضاف: كان الإمام الشيرازي نادرة الدهر في مجال
الزهد والترفع عن الدنيا حتي عادت بساطة العيش ملكة له يمارسها دون أدني
تكلف!
وفي مجال الدور الرسالي للفقيد قال الخطيب مهدي
بور: عندما كان يلتقيه علماء الدين من المدن المختلفة، كان سماحته يوصيهم
بالسعي لإنشاء قناة فضائية لبثّ التشيع والدفاع عن الحق من خلالها علي
مستوي العالم، أو أن تكون لهم علي الأقل مواقع علي شبكة الانترنيت
العالمية للتعريف بالإسلام ومذهب أهل البيت عليهم السلام ونشر تعاليمهم
علي أوسع مستويً ممكن.
وقال حجة الاسلام والمسلمين مهدي بور في جانب آخر
من حديثه: ما أكثر الخطباء المشهورين الذين صعدوا المنبر بتشجيع الإمام
الشيرازي وتوجيهاته وأصبحوا بعد ذلك من الخطباء المقتدرين والمعروفين علي
مستوي العالم الشيعي!
وما أكثر المؤلفين الكبار الذين أمسكوا بالقلم
بفضل إيصائه لهم ثم صاروا بعد ذلك من الكتّاب والمؤلفين المرموقين!
وختم المحاضر حديثه بالقول: طالما سعي الإمام
الشيرازي لإنقاذ الإسلام وتطبيق تعاليمه في الحواضر الإسلامية، ولم يتوقف
في طريق بلوغ هذه الأهداف الكبري آناً ولا انثني عنها مرة!
الإمام الشيرازي والتعلق بالحجة المنتظر(عجل الله تعالي فرجه):
كان الأستاذ والباحث الجامعي الدكتور فقيهي من
جملة الذين تحدثوا في المراسم التي أقيمت في مسجد زين العابدين ـ عليه
السلام ـ في مدينة قم المقدسة، بمناسبة الذكري السنوية الثانية لرحيل
المجدد الشيرازي الثاني، فقال: لقد كان الإمام الشيرازي سباحاً ماهراً
وغواصاً مقتدراً في بحرالدين العظيم وكانت أفكاره البكر والجديدة نتيجة
هذا الغوص العميق!
وأضاف: كل ما ظهر من منقبة للإمام الشيرازي ـ قدس
سره ـ فإنما يعود الفضل في ذلك إلي علقته الشديدة وارتباطه الوثيق بحجة
الله الاكبر الإمام المنتظر عجّل الله تعالي فرجه الشريف.
وواصل الأستاذ فقيهي حديثه قائلاً: ينبغي الالتفات
إلي الخصال التي تميّز بها هذا الفقيه الكبير، لمعرفة سرّ نجاحه، ومن
الخصال التي ميّزته عن الآخرين الشمولية وكونه متعدد الأبعاد.
وأوضح الأستاذ المحاضر هذه النقطة بقوله: إن
المتبحرين في علم ما، ينظرون إلي كل شيء من زاوية خاصة (وهي زاوية ذلك
العلم) ويخضعونه للبحث من تلك الزاوية، أما الشمولية فتمنح صاحبها القدرة
علي تكوين تصوير أكثر واقعية للأمر المبحوث عنه.
وأضاف: الخصلة الأخري التي تحظي بالأهمية في شخصية
الفقيد الكبير هو تبحره في معرفة الإسلام، فإننا نجد في تاريخنا فقهاء
وفلاسفة وحكماء ومتكلمين كثيرين ولكنا قلما نجد عالماً درس الإسلام
واستوعبه في كل مجالاته.
وذكّر الأستاذ فقيهي أن الإسلام مجموعة متكاملة
مترابطة من العقائد والفقه والأخلاق هدفها إخراج الناس من ظلمات النفس
إلي نور التوحيد، ومن ثم فإن تبعيض الإسلام وتقطيعه ليس صحيحاً بل ينبغي
استكشافه مجتمعاً من خلال معرفته في كل مجالاته.
وقال: لقد كان هذا البعد واضحاً في شخصية الإمام
الشيرازي لدرجة أنّا لا نجد في كتاباته أدني تأثر بالمفاهيم الفلسفية
والأفكار العرفانية الخاصة، كما تظهر خصيصة عدم التأثر إلا بما هو من
معارف الإسلام الأصيلة في سلوكه العملي، لأن الأخلاق الإسلامية عنده هي
الأخلاق الإسلامية، ولا ينحصر الدين بالفقه والعرفان والفلسفة بل هو كل
مترابط صيغ لجميع مراحل حياة الإنسان ومختلف أفراده.
وعدّ الأستاذ فقيهي الإبداع من الخصوصيات الأخري
للامام الشيرازي وقال: لقد كتب المرجع الفقيد في المجالات والعلوم
المختلفة وطرقَ كل الأبواب الفقهية وغيرها وألّف كتباً يعسر عدّها.
وقال: لقد أضاف الامام الشيرازي أبواباً جديدة في
الفقه، وعرض مسائله المختلفة من زوايا متعددة وتناول فروعاً كثيرة من
مختلف الأبواب الفقهية كلها مقرونة بالنظريات المبرهنة وإقامة الدليل.
بعد ذلك تحدث الأستاذ فقيهي عن بساطة العيش والزهد
لدي المجدد الشيرازي الثاني وقال: عاش الامام الشيرازي بعيداً عن التكلف
وفي منتهي الزهد والبساطة، وكانت هذه خصوصية أخري تفوّق فيها حتي امتاز
بها عمن سواه، فكان ينسجم مع مخاطبه في أي مستوي اجتماعي كان، وكان يكلّم
الناس علي قدر عقولهم، كما كان يتفنن في شرح أعقد المسائل بأبسط بيان
يفهمه عامة الناس!
وفي الختام تحدث الخطيب عن سر موفقية المجدد
الشيرازي الثاني وقال: لقد جهدت كثيراً لمعرفة سرّ موفقية الامام
الشيرازي من وجهة نظر الدين فانتهيت أخيراً إلي أنه يعود إلي همته، وكما
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لجنديه المخلص ذلك القائد الوفي
والصحابي الكبير مالك الاشتر: «وليس يَخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله
من ذلك إلا بالاهتمام، والاستعانة بالله، وتوطين نفسه علي لزوم الحق،
والصبر عليه فيما خفّ عليه أو ثَقُل». إنني أري نجاح الامام الشيرازي
يعود إلي هذه الخصال أيضاً.
أمنيات الإمام الشيرازي(قدس سره):
استهلّ حجة الإسلام والمسلمين محقق (من فضلاء
الحوزة العلمية في مدينة مشهد المقدسة) حديثه في مراسم الذكري السنوية
الثانية لرحيل المرجع الديني الإمام الشيرازي ـ قدس سره ـ بالآية
الكريمة: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وقال: في المفهوم القرآني
يتفاضل الناس في ثلاثة أشياء، أولها التقوي؛ وهي الملكة التي تعصم صاحبها
من ارتكاب الذنوب وتقيه من الأمور الضارّة به.
وأضاف: يذكر الله تعالي المتقين في كتابه الكريم
في أكثر من (85) مورداً وآية تتحدث عن عظمة المتقين وأنهم الأكرم عند
الله تعالي وممن شُملوا بحبّه وفضله وتقريبه.
ثم قسّم الخطيب المحقق التقوي ـ من وجهة نظر علماء
الأخلاق ـ إلي ثلاث مراحل، وهي: التقوي العامة، والتقوي الخاصة، والتقوي
خاصة الخاصة، موضحاً ذلك بقوله:
التقوي العامة هي أن يكون الفرد مسيطراً علي نفسه
ويستطيع أن يغضّ النظر عن المحرمات ويأتي بالواجبات، وهذه هي المرحلة
الأولي من مراحل التقوي، أما في المرحلة الثانية فبالاضافة إلي ما مرّ
يمنع الفرد المتقي نفسه من ارتكاب المكروهات ويحملها علي الإتيان
بالمستحبات. وأما المرحلة الثالثة من مراحل التقوي فهي أعلي من المرحلتين
السابقتين لأن الإنسان لا يري فيها في كل خطوة يخطوها أو خاطر يخطر عليه
إلا الله سبحانه، وكل ما يقوم به أو يفكر فيه فهو لنيل مرضاته تعالي فقط.
وقال الشيخ المحقق بعد ذلك ـ مشيراً إلي الفضيلة
الثانية ـ: تحدث القرآن الكريم عن العلم والعلماء في أكثر من (800)
مورد، لكن المهم في الموضوع أن العلم الذي يعظّمه القرآن والأحاديث
الشريفة هو العلم الذي يزيد من معرفة الإنسان بالله تعالي ويمنح صاحبه
قلباً نيّراً يستطيع من خلاله تشخيص مسؤولياته تجاه الله ودينه وعباده.
أمّا العنصر الثالث الذي يحقق الافضلية حسب
المفهوم القرآني، فهو الجهاد في سبيل الله تعالي، كما قال الخطيب المحقق
وأضاف: الذين يجاهدون في سبيل الله تعالي قد يكون سلاحهم السيف وما أشبه
من وسائل القتل والقتال، وقد يجاهدون بالكلمة والمنطق فيكون المجاهد
داعية يستطيع بلسانه وقلمه أن يذبّ عن دين الله ويوصل كلمة الحق الي
العباد.
ثم تحدث الخطيب في جانب آخر من حديثه عن شخصية
المرجع الديني الراحل الإمام المجدد الشيرازي الثاني ومكانته العلمية
والجهادية وقال: إن القلب النابض الذي لم يتوقف عن الخدمة للاسلام طيلة
سبعين عاماً، توقف عن العمل منذ سنتين وأغرقَنا في عالم من الحزن والأسي
نتجرع مرارة فقده وارتحاله، فانا لله وإنا إليه راجعون.
وأضاف: يحتض التراب منذ سنتين يداً وُفّقت لتحرير
أكثر من ألف كتاب في المجالات المختلفة، وربما أمسكت هذه اليد القلم بين
أناملها زهاء عشر ساعات يومياً في بعض الأزمان.
وقال أيضاً: لم يتفق أن يطرق باب بيت هذا المرجع
العامل أحد ثم يعود خائباً حتي لقد أطلق عليه البعض صفة كريم أهل البيت
وهي الصفة التي عرف بها الإمام المجتبي عليه السلام.
أما عن الأمنيات العظيمة لهذا المرجع الكبير فقال
الخطيب المحقق: كان المرحوم آية الله العظمي الشيرازي قد ذكر يوماً لأحد
علماء إصفهان إن لهو أمنيات ثلاث، أولاها أن يُسلم جميع اليهود والنصاري
وغير المسلمين، والثانية أن يستبصر المسلمون غير الشيعة كافّة ويكونوا من
اتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام. وأما الثالثة فهي أن يعمل الشيعة
كلهم بتعاليم أهل البيت عليهم السلام ويطبقوا الاسلام الحقيقي علي وجه
الأرض.
بعد ذلك أشار حجة الاسلام والمسلمين المحقق إلي
الحضور الفاعل والخدمات الجليلة التي قدّمها المرحوم في الكويت وقال:
إحدي الخطوات المهمة التي قام بها سماحته في دولة الكويت طيلة مقامه فيها
هي أنه ـ قدس سره ـ استطاع بمتابعاته ان يقنع المسؤولين ببث مراسم تعزية
يوم عاشوراء من الإذاعة والتلفزيون، ولم يكن هذا الأمر معهوداً من قبل
أبداً.
وذكّر الخطيب المستمعين بالدور الرسالي للمرجع
الفقيد ولقاءاته مع مختلف طبقات المجتمع وإلقاء المحاضرات والكلمات فيهم،
فقال: بلغت محاضرات المرحوم آية الله العظمي الشيرازي لمختلف فئات
المجتمع أكثر من خمسة آلاف محاضرة وكلمة، وكان ـ رحمه الله ـ مستمراً علي
هذه السنّة حتي أخريات أيام حياته الكريمة.
وفي الختام أشار الخطيب إلي الحديث الذي فحواه:
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وولد صالح، وعلم
ينتفع به وقال: إذا كان كل انسان يموت ذكره وعمله إذا مات الا احد هذه
الفئات الثلاث، فان المرحوم الامام الشيرازي ـ قدس سره ـ جمع هذه الخصال
كلها، فما أكثر الصدقات الجارية التي تركها خلفه! أما القلم النافع فلقد
زادت كتبه علي الألف، وأما الولد الصالح فنعم ما خلّف. لقد خلُد ـ رحمه
الله ـ بأولاده كما خلد بالصدقات الجارية والعلوم التي نفع بها الدين
وأهل الدين.
|