حين أطلعت للمرة الأولى على فكر آية الله
العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي أزعم أن من أهم ما شدني إلى
ذلك، فكرة اللاعنف التي تبناها السيد الشيرازي واعتبرها الأساس الثالث من
أسس دعوته إلى حكم إسلامي والى نهضة إسلامية جديدة إلى جانب الحقيقة
والصبر.
وقد اعتمد الإمام هذا الثالوث (الحقيقة،
الصبر، اللاعنف) في دعوته، ليس فقط لأن هذا الثالوث كما قال الإمام مأخوذ
عن خير أسوة للمسلمين وهو الرسول الكريم بل أيضاً نتيجة لقراءة دقيقة
وعلمية للعصر الذي يعيش فيه، وللظروف الدولية المتشابكة التي تحيط ببلاد
الإسلام، وأيضاً لمعرفته بالضعف الذي يحيق بالمسلمين من كل جانب، فهم
يعيشون في عصر تسود الأرض فيه قوة هائلة تكفي سبعة من القنابل التي
تملكها لنشر الموت والدمار على الأرض، وفي هذا المزدحم الهائل من القوى،
يريد الإسلام أن يثبت وجوده، وكيف ذلك وهو لا يملك القوة على مواجهة
أعدائه؟
ذلك هو السؤال الذي أجاب عليه الإمام
الراحل بضرورة اعتماد ثالوث (الحقيقة، الصبر، اللاعنف).
وسأقصر بحثي – في هذه العجالة – على
مفهوم اللاعنف عند الإمام الشيرازي.
في شرحه لمفهوم اللاعنف، يأخذنا الإمام
الشيرازي خطوة خطوة لنمضي معه متدرجين في طرق المعرفة، فهو يشرح بداية
معنى العنف، ومصدره، ثم يؤكد لنا أن وجوده مرتبط ببعض المظاهر، ثم ينتقل
إلى شرح أهمية اللاعنف في الحياة كل ذلك بأسلوب بياني ساحر معتمداً على
النص القرآني وعلى سيرة الرسول الكريم وأحاديثه، وآثار سيد البلاغة
الإمام علي كرم الله وجهه فيخبرنا الشيرازي بداية أن (النفس الإنسانية
فيها قوى عدوانية شريرة وفيها قوى خيرة).
وأن العنف هو من العلامات الظاهرية لتغلب
القوى الشريرة في الإنسان على القوى الخيرة.
ولا ينسى الإمام الراحل أن يعطينا مثلاً
من التاريخ القريب فالحرب العالمية الأولى والثانية والفظائع التي أسفرت
عنهما، لم تكن لتحدث لولا العنف، وأزعم أن هذا الدليل الذي استخدمه
ببراعة يحمل في طياته هجوماً على العنف بغض النظر عن زمان ومكان وقوعه
والأشخاص المتضررين منه، فهو يهاجم العنف كقيمة بحد ذاته ويدعو إلى نبذه
والابتعاد عنه.
كما يربط الإمام الراحل العنف بالجهل،
فالجهل مرتع صالح لبذور العنف والحل يكون بالعمل والتقدم، مركزاً على
العمل حيث (العمل صفة ملازمة للتقدم والرقي) مؤكداً حقيقة أن تقدم الغرب
هو نتيجة طبيعية للعمل، ويعيد الإمام الراحل سبب تراجعنا إلى (تخاذل)
البعض منا وفتورهم مما جعلنا نعيش في الهامش.
ويؤكد قائلاً من الواضح أن طريق التقدم
والتكامل في هذه الحياة هو العمل الجاد – فمن التزم به تقدم حتى ولو كان
كافراً، ومن تخلى عنه تأخر حتى لو كان مؤمناً) ولعمري تلك مقولة كبرى من
إمام كبير في حجم السيد الشيرازي، وضح إصبعه على الجرح تماماً، رأى الداء
ووصف الدواء بمهارة طبيب بارع، وبجرأة مسلم حقيقي فمن التزم بالعمل الجاد
تقدم حتى ولو كان كافراً، وأزعم أن الحل هنا أي الالتزام بالعمل الجاد.
والإمام الشيرازي يخبرنا أن هذا ما قال
به الأئمة المعصومون من قبله فالإمام علي يقول (العاقل يعتمد على عمله،
الجاهل يعتمد على أمله) ويقول (من عمل بالحق أفلح) وأيضاً (العمل شعار
المؤمن).
وانظروا إلى هذه المقولة العظيمة لسيد
البلاغة (إن ماضي يومك منتقل وباقيه متهم فاغتنم وقتك بالعمل).
ويستشهد الإمام الشيرازي في معرض تأكيده
على العمل بالآية الكريمة (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) والعمل كائناً ما
كان سوف يعرض على الله ورسوله والمؤمنين لقوله تعالى (وقلو أعملوا فسيرى
الله عملكم ورسوله والمؤمنون) فهل ترضى أيها المسلم أن تسوء هؤلاء بعض
أعمال عنيفة، قد تقوم بها عليهم؟.. ولعمري إنها لبراعة في طرح الموضوع
وبيان الحجة لا تدانيها براعة.
ثم يأخذنا الإمام الشيرازي خطوة أخرى إلى
الأمام فإضافة إلى الجهل الذي هو مرتع خصب للعنف كما أسلفنا، هنالك أيضاً
الغضب، الذي يحجب دخانه نور العقل، فلا يستطيع الإنسان الذي قد استحكم
فيه الغضب أن يفكر بعقله، بل تراه يندفع دون تفكير إلى العنف، الذي يقوده
إلى ارتكاب الموبقات والمعاصي وحين يسكن غضبه يندم على ما فعل، ولكنه
يكون خاسراً في كل الأحوال ويؤكد الإمام الشيرازي أن اللاعنف هو أحد
المظاهر المميزة لسيرة الرسول الكريم وآل بيته الأطهار والعلماء الأجلاء،
ويروي في أحاديثه وخطبه الكثير الكثير من مواقفهم التي جابهوا فيها العنف
الممارس ضدهم بالصبر والحلم حتى استطاعوا بذلك أن يكسبوا خصومهم إلى
جانبهم وجانب الحق.
ولللاعنف ثماراً عديدة منها (رضى الله
تعالى، والطمأنينة بين الناس، ومحبوبية الإنسان) كما أن له درجات،
(فاللاعنف في اليد أسهل من اللاعنف في اللسان، واللاعنف في اللسان أسهل
منه في القلب).
وكلما ازداد المسلم إيماناً ويقيناً
بالله، انتقل في درجات استخدامه للعنف، حتى يصبح اللاعنف هو منهج حياته
وسلوكه اليومي.
ذلك هو غيض من فيض، وتلك هي جوانب قليلة
من نظرة الإمام الشيرازي لللاعنف باعتبارها منهجاً وسلوكاً، يستعيد بها
المسلم مكانه الطبيعي بين سكان الأرض، باعتباره مكلفاً بنقل رسالة السلام
إلى الآخرين، فيبدأ بنفسه أولاً ليكون أسوة حسنة للناس، فائزاً بالدين
والدنيا من حيث هما صنوان متكاملان لا ينفصلان حتى يرث الله الأرض وما
عليها.
* حقوقي في جامعة دمشق |