عن المرء ليعجب من التمييع الذي تبتلى به بعض
المفاهيم الرفيعة من بعض الأقلام، فهاهو (هنتنغتن) يقسم في صدام الحضارات
دول العالم زمن الحرب الباردة، وينظم في سلك العالم الحر النظامين
العنصريين في إسرائيل وجنوب افريقيا، فهل تم تمييع وتشويه لهذا المفهوم
السامي، الحرية، من أن يذكر العنصريون الطغاة في عداد الأحرار؟! فالحرية
ليست كلمة تلقى على عواهنها من دون أن ينظر إلى مصاديقها، هل هي رفيعة
كرفعة المفهوم الذي يجمعها وإننا سنتناول أدناه بعضاً مما أورده أحد
مفكري عصرنا البارزين الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده)
متكلماً على الحرية من زاويا شتى.
فالإمام يبين بكل وضوح: (إن الإسلام دين الحرية
بجميع معنى الكلمة) فالإنسان حر في أن ينتخب مرجع تقليده، وهو حر في أن
ينتخب رئيس دولته، وهو حر في أن ينتخب نواب مجلسه، وهو حر في أن ينتخب
إمام جماعته، وهو حر في أن ينتخب قاضيه، وهو حر في أن يسافر، ويبني ويزرع،
ويتاجر ويكتسب ويسبق إلى الحاجات ويستملك الأراضي، ولا يقف الإمام عند
هذا الحد بل يمضي في ذكر ما سوى ذلك، ويمنع من مصادرة الحريات الأساسية
التي جاء بها الإسلام وجعلها من أوليات حياة الإنسان من مثل حرية السفر
والإقامة، والتعبير عن الرأي، وغير ذلك من النشاطات الاجتماعية والثقافية
والاقتصادية والسياسية وغيرها، إلا في المحرمات الشرعية، ويستنبط ذلك كله
من الحديث الشريف (الناس مسلطون على أموالهم) ومن القاعدة الفقهية وعلى
أنفسهم، فإذا أمعنا النظر في هذا الكلام وجدنا أنه يستوعب الحاجات
الطبيعية للإنسان والكمالات التي ينشدها والتي هي موارد الحرية، وبالنظر
إلى تمكن الإنسان منها يقال أنه حر من القيود التي تحول بينه وبينها.
وبهذه الحرية يجمع الخصال التي يحتاج إليها
الإنسان حتى يكون لحياته معنى كي يفهم من قول الإمام جعفر الصادق (ع) خمس
خصال من لم يكن فيه شيء منها لم يكن فيه كثير مستمتع، أولها الوفاء،
والثانية التدبير والثالثة الحياء والرابعة حسن الخلق والخامسة وهي تجمع
هذه الخصال الحرية.
وإذ ذكرنا على وجه الإجمال أبواب الحرية، فلتناول
بشيء من التفصيل ما ذكره الإمام الراحل من الحريات الأساسية، يلزم سماحة
الإمام السيد محمد الشيرازي (قدس سره) النظام الإسلامي أن يوفر للناس
الأجواء الحرة التي تتيح لكل إنسان الوصول إلى العلم والحكم والمال بحيث
تكون هذه الأمور الثلاثة مثلها مثل الماء والهواء والنور والسبل إليها
مفتوح مثل السبل إلى هذه، فهذه الحريات تمكن كل إنسان من الصعود في قومه،
وبلوغ الإنسان درجات عالية من الكمال أمر حاضر دوماً في ذهنه (قده) يضاف
إلى ذلك حرصه كمرجع ديني على دفع المفاسد من الصراع الذي يتولد من قمع
الحريات، وهذا كله منسجم أشد الأنسجام مع توكيد الإسلام على أن الناس
جميعاً نظراء في الخلق (كما عن أمير المؤمنين علي (ع) فمن هذا كله يتضح
لنا أن كلام سماحة الإمام الشيرازي عن الحرية الشخصية هو نتيجة منطقية
لتفكير فهمي ومنهج فكري متناسق، فهو يحرم استعباد الفرد واستغلال طاقاته
وما يتفرع عن ذلك من تحريم تجربة الأدوية الطبية عليه، أو أخذ المال منه
بالإكراه أو سجنه وما شابه ذلك مما يتنافى مع الحرية الإنسانية التي
منحها الله تعالى للإنسان، وتتمة لذلك فهو يشدد على أهمية حصول الإنسان
على حرية التعبير عن رأيه في صورة تكوين الأحزاب، بل التظاهر أيضاً.
والحريات الشخصية التي ذكرنا ليست وقفاً على
المسلمين دون غيرهم. فأهل الأديان والمذاهب جميعاً أحرار في التمسك
بأديانهم وفي التعبد على وفق شرائعها، وفي أن يعملوا بما هو جائز عندهم
وما ألزموا به أنفسهم فمثلاً لا يمنع أهل الكتاب من شرب الخمر في بيوتهم.
وهذا الكلام على الحرية للفرد يستتبع الكلام على
الحرية للجماعة، أن الفكر الشيرازي يتبنى تبنياً قاطعاً مسألة الحرية
والاستقلال للدولة في اختياراتها، ومنهجها في السيطرة على شؤونها
ومواردها وعلاقاتها مع الدول الأخرى، وإذ يتناول في كلامه الدولة
الإسلامية فإنه يعد الحرية والاستقلال شعارات نابعان من تعاليم العقيدة
وتراث المقاومة للاحتلال الأجنبي، فمن جهة العقيدة نجد أقوالاً مثل قول
الإمام علي (ع) (لا تكونوا عبد غيرك وقد خلقك الله حراً) تبعث في الإنسان
جذوة التمرد على القهر والاستعمار ومن الجهة الأخرى، تبين التجارب
المريرة التي مرت بها الشعوب ومنها الشعب المسلم أن الخضوع للأجنبي لن
يجلب له إلا الويلات والقهر، وإن النضال ضروري حتى تعيش الأمة حرة كريمة
في أرضها.
وتعزيزاً للحرية والاستقلال وانطلاقاً من قواعد
علم السياسة ومقولاته من أن الحرية والاستقلال لا يأخذان مجالهما الحقيقي
إلا بالتضامن بين الدول المتجاورة الواقعة في منطقة التنافس الدولي فإن
الفكر الشيرازي يدعو باستمرار إلى الوحدة الإسلامية، ويعضد ذلك بالدعوة
إلى مناهضة الاستعمار والتبعية بأشكالها جميعاً.
لكن العبودية.. بالاسترقاق والتبعية بالفتح
العسكري ليستا الصورتين الوحيدتين للعبودية والتبعية، فانبهار مجتمع ما
بمجتمع آخر واتخاذه مثلاً يتبعه إتباعاً أعمى هو صورة أخرى للتبعية.
وكذلك الانجراف في تيار الشهوات هو لون ثان من
ألوان العبودية وهو الذي حذر الإمام علي (ع) منه وندب إلى الانعتاق منه
في قوله: (ألا حد يدع هذه اللماظة لأهلها، أما أنه ليس لأنفسكم ثمن إلا
الجنة فلا تبيعوها إلا بها) وإن خير معين لهذا التحرير هو الثقافة
النافعة والعلم الصحيح، ولهذا فسماحة الإمام الشيرازي (قدس سره) يؤكد
حرية الثقافة، ويبين أن الإسلام يؤمن بها وبمقدماتها المشروعة، فلكل شخص
أو جهة أو ما أشبه أن تؤسس الإذاعات والتلفزيونات، وأن تصدر الصحف
والمجلات، وأن تنشر الكتب والموسوعات والكراريس والمقالات، وأن تؤسس
المعاهد ومراكز التعليم تيسيراً لنشر الوعي والثقافة في المجتمع، وبناء
على هذا سماحة الإمام الشيرازي (قدس سره) يدعو إلى إزالة الحواجز التي
تمنع من اختلاط الثقافات المختلفة، لأن التثاقف يتيح للفرد والجماعة
الإطلاع على أنواع كثيرة من الثقافة مما يسهل عليه الأخذ بأحسنها، مثلما
يتاح للمتسوق أن يشتري البضاعة الأحسن من سوق يعرض أنواعاً شتى، أما
النتيجة التي يخرج بها سماحته من هذا كله فمهمة جداً، إنه يرى أن الثقافة
من أهم الأسباب في تكون شخصية الإنسان، فالذي يعيش في جو من الحرية
الثقافية يتفتح فكره وعقله طبيعياً متنامياً حاله حال البدن غير المقيد
وبخلاف الجسم المكبل بقيود شتى تعوق نموه وحركته.
وهذا التحرير الثقافي الذي ينشده الشيرازي للإنسان
يكمله تحرير من نوع آخر ألا وهو التحرير الاقتصادي فالإنسان محتاج ليخرج
من أسر الظروف الطبيعية ولسؤال الآخرين، إلى أن يكون مطلقاً القيود التي
تعوق سبل العمل للحصول على حاجاته لأن الذي لا يكون كذلك يكون إما معدماً
من كل شيء أو آخذاً إياه من الغير وهذا ما يحذر الإمام علي (ع) منه بقوله:
(احتج إلى من شئت تكن أسيره) وعليه فإن الشيرازي يوجب على الحاكم
الإسلامي والحكومة الإسلامية منح الحرية الاقتصادية التي قررها الإسلام
لكل الناس وذلك بأن تسمح لهم، بل وتساعدهم في إنتاج وتصنيع كل ما
يحتاجونه أو يريدونه من مواد غذائية وإنشائية وخدماتية سواء في مجال
الزراعة أو الصناعة أو الفنون والتقنيات اللازمة، فتفتح عليهم أبواب
العلوم والحرف والمهن والكسب والاكتساب والتصدير والاستيراد وغير ذلك،
ويبين الإمام الراحل أن الإسلام يقر الملكية الشخصية ولا يسمح لأحد ولا
لجهة بالتصرف فيها إلا عن طيب نفس المالك وذلك لما في تقرير الملكية من
منافع يتوقف عليها تقدم المجتمع ورقيه إضافة إلى ما فيه من احترام
للإنسان واحترام لما يرتبط به.
إن هذه الحريات التي ذكرناها وغيرها مما لم نذكره
ليست بالحريات المطلقة، أي أن ليس للإنسان أن يفعل ما يحلو له لأنه محكوم
بأمور تنظم الحريات التي نالها، فلقد عرف المجتمع البشري منذ مراحله
الأولى صوراً تشى من القواعد التي تنظم أفعال أبنائه، وحتى في المجتمع
الصناعي الغني الحديث ثمة قوانين شتى تحدد للفرد ما لا يجوز له، لكن مما
يجدر التنويه به أن القيود التي تضعها القوانين الوضعية على فعل الفرد هي
قيود أخذت بلحاظ الأفراد الآخرين، لممنوع هو ما يضر بالآخرين، ويتعدى على
حرياتهم، أما في الإسلام سماحة الشيرازي يذكر فئة أخرى من الضوابط ألا
وهي، المنع من إضرار المرء بنفسه، ولهذا ينعى على بعض الأدعياء للعلم
إباحة المسكرات، وما شاكلها من الأشياء السيئة الأخرى باسم الحرية
الشخصية، ونحن نذكر ضابطاً آخر للحرية وهو ترك ما يسيء أهل الفضل والمنة،
فالأبوان مثلاً قد طوقا أولادهما بأطواق كثيرة من الفضل مما يشكل ديناً
ثقيلاً في أعناق الأبناء لا يجوز لهم التخلف عن الوفاء به أو فعل ما يسيء
الأبوين المتفضلين لأنه كما ورد عن أمير المؤمنين علي (ع) (من علمني حرفاً
كنت له عبداً) فما بال الوالدين الذين غمرا الأولاد بالمنى والفضل؟!
وبعد فإن موضوع الحرية موضوع أثير، والكلام فيه
وفي الديمقراطية هو (موضة) العصر.. وقد أحبننا في السطور الماضية أن نقدم
عرضاً موجزاً لبعض صور الحرية كما أنعكس في مرآة فكر الإمام الشيرازي
الراحل وأن نشدد على أمرين الأول: أن للنفس استعداداً للترقي والتكامل،
والالتفات إلى الحرية المادية دون غيرها يحد من حريتها في بلوغ كمالاتها،
والآخر، إن حريات الغير ليست هي القيود الوحيدة على حرية الفرد، بل إن كل
ما يسلبه حرية التكامل المعنوي أو يحول دون الوفاء بما في رقبته من دين
لأولي الفضل عليه، ما هو إلا قيد على وجه من وجوه الحرية – وإطلاق لحرية
أسمى بها يكون الإنسان إنساناً. |