من الصعب جداً أن نجد في كتاب الإنسانية وفي تاريخ
البشرية الطويل يوماً كيوم أبي عبد الله الحسين (ع) أنه اليوم الذي تجسد
وتجلى فيه قول الله سبحانه وتعالى بأوضح صوره وبأبلغ تعبيره أنه التجسيد
الأمثل للقول السماوي الخالد: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى
الله ألا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (التوبة: 32).
ولذلك فإن الحديث عن القضية الحسينية وعن الأثر
الذي تتركه تلك القضية في نفوس وقلوب العظماء من العلماء والمفكرين لهو
حديث طويل عن التضحية والفداء وعن العروج إلى السماء بحبال من النور
(الدامي) من أجل أن تبقى الرسالة الإسلامية محمدية في وجودها، حسينية في
بقائها واستمرارها إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، يوم تأتي فاطمة (ع)
حاملة قميص ابنها الإمام الحسين (ع) وهو ملطخ بالدماء عارضة إياه على
الله أحكم الحاكمين.
أما الأثر الكربلائي على النفوس البشرية فإنه
يتفاوت في قوته وعظمته، فالأثر عظيم بقدر عظمة النفس وحجم عزتها واتساع
إبائها.
وبالطبع، فإني لا أريد هنا أن استعرض الدروس
والعبر التي استخلصها العديد من علماء ومفكري العالم الإسلامي ولا أريد
أيضاً أن أفلت العنان لقلمي المتواضع كي يسجل الآثار التي تركتها النهضة
الحسينية المباركة في نفوس الكثير من الأدباء والمفكرين المسيحيين الذين
رأوا في الدماء الحسينية المسفوحة ظلماً صورة النبي المصطفى (ص) المقتول
غدراً من خلال قتل سبطه الذي أعطى الإنسانية دروساً لا تنسى في اختصار
الطريق الموصل إلى ملكوت الله.
فالكلام عن النهضة الحسينية عند المسيحيين من
أمثال جورج جرداق وبولس سلامة وعبد المسيح الإنطاكي وروكس بن زايد
العزيزي وجبران خليل جبران وغيرهم من عمالقة الفكر والأدب سيكون له مكان
آخر في أبحاث لاحقة، ولكن ما نود قوله الآن هو أن هناك مرجعاً إسلامياً
خالداً بآثاره وأعماله، استطاع أن يسبر أغوار الحركة الحسينية بحكمة
بالغة وببصيرة نافذة قلما نجد لها نظيراً أو مثيلاً في مؤلفات ومصنفات
العلماء والمفكرين المسلمين والمسيحيين على حد سواء.
لقد تناول فقيه الأمة الإسلامية المرجع الديني
الراحل والإمام المجدد آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس
سره) الحركة الحسينية في الكثير من مؤلفاته التي بلغ عددها الألف ومئتي
كتاباً ونيف.
وربَّ سائل يسأل قائلاً:
لماذا اهتم الإمام الشيرازي من خلال ما كتبه بقضية
الحركة الحسينية بعد مضي قرون وقرون عليها؟!
وما هي الدروس التي يريدنا الإمام الشيرازي (ره)
أن نتعلمها من فلسفة تلك الحركة التي هزت الضمير الإنساني على مرَّ
العصور؟!
ربما يسأل السائل هذه الأسئلة وربما يسأل أكثر من
ذلك أيضاً، ومن حق كل إنسان أن يسأل ما يشاء، فالحوار البناء والسؤال
الهادف والكلمة الطيبة هي المحاور الإيجابية الثلاثة التي تظهر وتتجلى من
خلالها الحقائق والثوابت بعد أن تنجلي عنها غيوم الشك والجهل والارتياب.
ومهما يكن من أمر، فإن الإمام الشيرازي يرى أن
الإمام الحسين (ع) قد لخص لنا ولكل الأجيال السابقة واللاحقة فلسفة نهضته
المباركة من خلال قوله الشريف: (إني لم اخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً
ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن أمر
بالمعروف، وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي) (1).
فالإمام الحسين (ع) لم يخرج طلباً للسلطة ولا حباً
بمنصب دنيوي أو كرسي زائل، بل خرج طلباً لإعادة النبض الدافق إلى وريد
الرسالة الإسلامية التي أنهكتها الأهواء والمطامع من الحكام الذين حاولوا
جاهدين طمس معالم تلك الرسالة السماوية الخالدة من جهة وتفريغها من
محتواها الروحي والفكري من جهة ثانية.
ولا نعتقد أن هناك من يعارض في أن يكون للحسين (ع)
الحق الكامل في أن يخرج من أجل المطالبة بإحياء التراث الروحي لرسالة
المصطفى أول خلق الله وخاتم رسله (ص).
فالإمام الحسين (ع) يمثل من خلال خروجه إلى كربلاء
الإيمان الأسمى والطاعة الكاملة لله والرسول، ولذلك كانت معركة كربلاء
لله ولكلمته، تلك الكلمة المحفورة على شغاف قلب الإمام الحسين مثلما كانت
محفورة من قبل في قلب جده المصطفى (ص)
ألم يقل المصطفى (ص): (أنا من حسين وحسين مني)(2)؟
أليس في هذا دليل على أن الحسين (ع) ليس مجرداً
إمام من نسل الرسول (ص) جسدياً بل هو من نسل الرسول عقائدياً وروحياً، أي
أنه ابن الرسالة الإسلامية ذاتها.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة الثابتة، فقد رأى الإمام
الشيرازي (ره) أن لعاشوراء رسالة عظيمة تعتبر الامتداد الحقيقي لرسالة
جده الصادق الأمين (ص).
وهاهو سماحته يقول عن فلسفة الحركة الحسينية في
عاشوراء أنها (إحياء الإسلام، وإرجاع القرآن إلى الحياة، وهذا هو ما كان
يستهدفه الإمام الحسين (ع) من نهضته وشهادته، وذلك لأن الإسلام الذين
أنزله الله تعالى في كتابه، ونطق به قرآنه، وبلغ له رسوله صلى الله عليه
وآله وسلم، وضحى من أجله أهل البيت عليهم السلام، وخاصة الإمام الحسين
عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء، هو الدين الكامل والقانون الشامل
الذي باستطاعته في كل عصر وزمان أن يسعد الإنسان والمجتمع البشري ويضمن
له التقدم والرقي والتطلع والازدهار)(3).
وهذا يعني أن الحركة الحسينية بالنسبة للإمام
الشيرازي لم تكن مجرد حركة منبثقة عن معركة حامية الوطيس بين الإمام
الحسين (ع) ويزيد اللعين، وإنما هي حالة صراع بين تيارين يمثلان كمال
الخير وكمال الشر، فالإمام الحسين )(ع) هو الدين الكامل والقانون الشامل
الذي يضمن للإنسان الارتقاء بإنسانيته إلى مستوى تحمل المسؤولية الفردية
أمام ما تقتضيه المسؤوليات والواجبات الجماعية في ظل تعاليم خاتمة
الرسالات الموجهة إلى بني آدم أجمعين.
وقد رأى الكثير من المفكرين صحة ما سبقهم إليه
الإمام الشيرازي عن الصراع المبدئي الدائم بين الأيديولوجيتين
المتناقضتين. فمازال المرء يجد أمامه دوماً حسيناً ويزيداً في كل زمان
ومكان، وهما يتنازعان بين الحق والباطل، وأن هذا النزاع هو في الواقع
تجسيد للصراع بين الخير والشر الذي ما زال قائماً وعلينا اتخاذ موقف ثابت
وواضح منه.(4)
ولأن الصراع أبدي بين الإيمان والكفر، بين الحق
والباطل، بين المبدأ واللامبدأ، فعلينا أن نلتزم دائماً جانب الحق والخير
والفضيلة في هذا الصراع فعندما خرج الإمام الحسين (ع) بأهل بيته الكرام
(ع) لخوض المعركة الحاسمة بين أتباع العقيدة الأموية القائمة على تحويل
الدين إلى سلعة تجارية تأخذ في حسبانها سياسة الربح والخسارة دون إقامة
أي وزن للتعاليم الروحية وللمبادئ الأخلاقية التي أرادت تلك الرسالة
السماوية أن يتحلى بها كل إنسان على وجه البسيطة.
لقد أراد الإمام الحسين (ع) كما يقول الإمام
الشيرازي (ره): (أن ينشل الأمة من الحضيض الذي أركست فيه إلى العز، وذلك
عندما رضيت الأمة الإسلامية بواقعها المتردي، المتمثل بالخمول، والركون
إلى الدنيا، والسكوت على الظلم، وتسلط الظالمين من أمثال يزيد وأبيه
وأضرابهم، فأراد الإمام الحسين (ع) أن يبث روح الإيمان والحق فيها لتنهض
من جديد، كما كانت في عهد رسول الله (ص)) (5)
ومن النقاط الهامة التي يجب أن نتذكرها دائماً عند
الحديث عن الفاجعة الكربلائية إنها قضية التآخي في الله والاعتصام في كل
حدث وفي كل موقف من مواقف الحياة، وبما أن الحركة الحسينية هي حركة
التآخي بين المؤمنين، فقد كان لخروج أهل بيت الحسين (ع) دلالة عميقة على
الأبعاد الروحية لعملية التآخي تلك.
فالكل يعلم أن الإمام الحسين (ع) كان قائداً لجيشه
الصغير المكون من بعض الشباب والرجال وحتى من النساء والأطفال، وكان ضمن
جيشه الصغير وجوه عربية ووجوه غير عربية، وكان في جيشه البالغ على بعض
الروايات (73) شخصاً فقط، الأبيض والأسمر والأسود، وهذا يعني أن هناك
فلسفة وحكمة خفية أراد الإمام الحسين (ع) إظهارها وتوضيحها للناس من خلال
إبراز أهل بيته (ع) للقيام بأدوارهم على رمال كربلاء.
وتنكشف الغيوم عن تلك الحكمة عندما ندرك أن الإمام
الحسين (ع) أراد أن يقول لنا أن المؤمنين أخوة لأن ثورته لا تعترف باللون
الأبيض ولا باللون الأسود، وحركته لا تعترف بقومية دون أخرى، وإنما كل
الألوان وكل القوميات تسقط أمام ثورته وحركته لأن نهضته كانت من أجل الله
ومن أجل كرامة الإنسان إينما كان فهو (ع) المحيي لشريعة جده (ص)، وجده
بعث للناس كافة وكان رحمة للعالمين.
وانطلاقاً من هذه الحقائق، فقد رأى سماحة السيد
محمد الحسيني الشيرازي (ره) أن نهضة الإمام الحسين (ع) (كانت نبراساً
لسائر النهضات التحريرية في العالم ضد الظالمين، وكانت هي الانفجار
العظيم الذي هز عرش كل الطغاة المستبدين، كما ومهدت الطريق أمام الثورات
الأخرى)(6)
ولا أريد أن أضرب إلا مثالاً واحداً للتأكيد على
قول الإمام الشيرازي (ره) أن الحركة الحسينية كانت النبراس لسائر النهضات
التحريرية في العالم ضد الظالمين، ومثالنا هو قول الزعيم الهندي
(المهاتما غاندي) الذي أستطاع أن يحرر الأمة الهندية من براثن الاستعمار
الإنكليزي البغيض، حيث وقف قائلاً بكل ثقة وصدق مخاطباً أبناء الهند:
(على الهند إذا أرادت أن تنتصر، أن تقتدي بالإمام الحسين)(7).
والإمام الشيرازي بدوره يرى أن الثورة الحسينية لم
تكن في يوم من الأيام إرثاً للمسلمين فحسب، وإنما الثورة الحسينية إرث
للبشرية جمعاء، ولذلك إذا أرادت الإنسانية الجريحة أن تشفى من جراحها وأن
تعافى من آلامها، عليها أن تعيش كربلاءها المستمدة من كربلاء الحسين (ع).
ويؤكد الإمام الشيرازي (ره) في كتابه (رؤى عن نهضة
الإمام الحسين (ع)) على (أن يكون المحرم منطلقاً مناسباً لإبلاغ أهداف
الإمام الحسين (ع) إلى البشرية المتعطشة.. حيث أن الإسلام دين عالمي
لإنقاذ جميع النسا من الظلمات إلى النور، وليس دين ألف مليون مسلم فقط)(8)
فالأمة التي لا تعود لقراءة تاريخها ولا ترتبط
بجذورها ولا تقتدي برموزها لهي أمة لا يمكن أن تعيش الحاضر مع بذور
القدرة على اللحاق بموكب الحضارة والرقي في المستقبل.
والأمة التي لا تجعل نصب عينها ضرورة الإقتداء
والامتثال لتعاليم عظمائها، خاصة إذا كان عظماؤها من المعصومين الذين
يمثلون سفن النجاة ومصابيح الهدى، فلن يمكنها أن تفلح في السير على نهج
التقدم ولا يمكنها أن تعيش السعادة والرفاهية المطلوبتين، تلك الرفاهية
والسعادة القائمتين على مبدأ التوازن بين احتياجات الدنيا ومتطلبات
الآخرة.
ولو توقفنا مع أحد كتب الإمام الشيرازي (ره) عن
فلسفة الحركة الحسينية وما أكثرها في مؤلفاته القيمة، ونقصد بذلك كتاب
(رؤى عن نهضة الإمام الحسين (ع))، لوجدنا أن سماحته قد أوجز لنا أهداف
خروج الإمام الحسين (ع) بشكل واضح ومبسط، ولكن سماحته ركز بشكل واضح على
نقطة هامة مركزية في قضية الخروج والاستشهاد، إنها الغاية الأخلاقية التي
أراد الإمام الحسين (ع) أن يعيد إليها البهاء والنضارة كما كانت عليه في
زمن رسول الله (ص).
ألم يأتِ في الحديث الشريف: (تخلقوا بأخلاق الله)(9)؟
إذاً، فالأخلاق حجر الأساس في الشريعة الإسلامية
وذلك لأن الأخلاق هي الناظم الذي يحدد علاقة الفرد بالآخرين، ويحدد أيضاً
علاقة ذلك الفرد بذاته وبالله عز وجل.
ولذلك فإن سماحة الإمام الشيرازي قد ركز على هذا
الجانب من حركة الإمام الحسين مع أهل بيته (ع) مركزاً على أن أحد أهداف
تلك الحركة (تصحيح سلوك الناس وتقويمه، بعد أن تلون سلوك الناس وأخلاقهم
في ظل النظام الأموي بطابع العنف والاستبداد والوحشية والاستهتار بما لا
يتناسب مع الخلق الإسلامي والإنساني، فأعاد الإمام (ع) بنهضته الشريفة
مكارم الأخلاق التي بناها جده الكريم (ص) وقدمها إلى البشرية ودعى الناس
للتخلق بها في كل مراحل الحياة)(10)
وعلينا هنا أن نتوقف قليلاً للإشارة إلى ملاحظة
نرى أنه من الواجب علينا أن نشير إليها وذلك لأنها تتعلق مباشرة بسيرة
ومسيرة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (ره) وهذه الملاحظة
يمكن أن توجز بقولنا إن الإمام الشيرازي كان يقفو أثر الإمام الحسين (ع)
في حياته وفي حركته وأهدافه.
فالذي يقرأ سيرة حياة الإمام الراحل (ره) يدرك أنه
لم يكن مجرد فقيه تجاوزت موسوعته الفقهية المائة والخمسين مجلداً، ولم
يكن أيضاً مجرد رجل أنشأ الكثير من المؤسسات الدينية والخيرية، بل من
يدرس سيرته العطرة يرى أن له حكايات بطولية ومواقف عز مع الحكام، فهو
المجاهد الصلب في سبيل الله وفي سبيل رسالة رسوله (ص) يقارع الظالمين
ويؤلب الأمة عليهم صابراً محتسباً على ما يلاقيه في هذا الطريق(11)،
وقد برهن خلال رحلة عمره على أنه محمدي الأخلاق والسيرة، علوي الجهاد
والمسيرة.
ومما تدمع له العين حزناً هي تلك الصورة التي
نستطيع أن نتخيلها عندما صعدت روح الإمام الراحل إلى جوار ربها الكريم،
وإن دلت تلك الصورة على شيء، فإنما تدل على مدى ارتباط الإمام الشيرازي
بأخلاقيات ومبادئ الحركة الحسينية الخالدة، فبعد أن انتشر نبأ وفاة
الإمام الشيرازي في محيط المستشفى الذي لفظ فيه أنفاسه الأخيرة ضجت
القاعة بالبكاء والعويل، وكانت أول صرخة ارتفعت من ذاك الجو الرهيب،
والحزين نداء شق عنان السماء، واحسين، مات أبو الحسينيين جميعاً، لقد
كانت النهضة الحسينية تجري في كل عروقه، وكان الحسين (ع) يحتل كل خلايا
فكره.(12)
ويحق للإمام الشيرازي أن يكون كذلك، فهو حسيني
بالدم وبالعقيدة والولاء، وهو سليل أسرة عريقة بالعلم والعمل الصالح
والولاء الصادق لأهل البيت المحمدي (ع) وللتعاليم التي تمخضت عنها النهضة
الحسينية بقيادة سيد شباب أهل الجنة وأحد ريحانتي رسول الله (ص).
ولا نعتقد أننا نتجاوز حدود الحقيقة عندما نقول أن
المشروع النهضوي عند الإمام الشيرازي (ره) هو عبارة عن مشروع حضاري
متكامل، ويأتي التكامل فيه من خلال إقامته وتأسيسه على الأهداف المباشرة
التي خرج من أجلها الإمام الحسين(ع) ليؤدي دوره (القيادي – النهضوي) على
مسرح الفاجعة الكربلائية.
ولذلك نرى أنه من الطبيعي جداً أن يولي الإمام
الراحل (ره) قضية إحياء الشعائر الحسينية أهمية كبيرة في مختلف مؤلفاته
وأعماله، فالمشروع الحضاري الذي طرحه الإمام الشيرازي من خلال منظومته
الفكرية الموسوعية الشاملة ترتكز أساساً على عملية تجذير الشعائر
الحسينية في النفوس والعقول عند كافة المسلمين الذين يريدون حقاً بناء
وصياغة الشخصية الإسلامية على أعلى وأسمى المستويات الإنسانية الراقية.
ويمكن اعتبارا الباعث الأول للمواكب الحسينية هو
التأكيد على صدق الموالاة لأهل البيت (ع) فكراً وممارسة، بالإضافة إلى
التعاطف الوجداني لما لحق بهم (ع) من فواجع ونكبات بعد غياب صاحب الرسالة
الإسلامية (ص) والتي لا يمكن لكل ذي بصيرة أن يرى في تلك الفواجع
والنكبات التي لحقت بهم (ع) إلا محاولة جادة لإجهاض رسالة محمد (ص) من
خلال محاولات أعداء محمد (ص) الدؤوبة الانتقام منه عن طريق إلحاق الأذى و
(تصنيع) الفواجع والنكبات لذريته المتمثلة بأولاد علي وفاطمة (عليهما
السلام).
وبالقدر الذي كان يركز فيه الإمام الشيرازي على
المواكب الحسينية كجزء من إحياء الشعائر الحسينية، كان يركز سماحته أيضاً
على دور المنبر الحسيني في رفع منظومة القيم والأخلاق الإسلامية الأصيلة.
فالمنبر الحسيني محطة هامة في المسيرة الحسينية
الداعية للعودة إلى مبادئ وتعاليم السماء الموحى بها إلى الرسول الأمين
(ص) آخر سفير للسماء على الأرض.
ولذلك يرى سماحة الإمام الراحل (ره) ضرورة أن
(نرفع من كَمِّها (أي المنابر الحسينية) وكيفها باستمرار ودوام، وذلك بأن
نقيم المجالس إقامة حسنة، وأن نراعي فيها الكيفية المطلوبة لدى الناس،
وخاصة ما يفيد الشباب والناشئة، وأن ندعو الخطباء البارعين والمبلغين
الحسينيين المبرزين لإدارة المنبر والخطابة في الناس وإلقاء المحاضرات
المفيدة والقوية عليهم، متضمنة متطلبات العصر، وملبية لحاجيات المجتمع،
ومتفاعلة مع النفوس والقلوب، والأفكار والعواطف)(13)
وهذا يعني أن للمنبر الحسيني – وجهة نظر الإمام
الشيرازي – دوراً إضافياً آخر غير دوره الأول المتمثل بإعادة الصور
المأساوية واستذكار الأهداف الأخلاقية واسترجاع القيم الروحية في
الأذهان، بل يرى الإمام الشيرازي (ره) أن على المنبر الحسيني أن يلعب دور
صلة الوصل بين قضايا الماضي الزائل وبين قضايا العصر الراهن، فنحن نستطيع
أن نناقش قضايانا ومتطلبات عصرنا من خلال المنبر الحسيني ذاته.
ولا يغيب عن ذهن الإمام الشيرازي ما للمجالس
الحسينية من أهمية في تعبئة وتنظيم الجماهير الشعبية وتوجيهها ضمن مسار
الخط المحمدي والنهج العلوي الحسيني، ويقول سماحته عن قيمة هذه المجالس
حرفياً: (هناك تجمع وتنظيم أساسي لا يمكن التغافل عنه، وعلينا أن نعيره
أكبر اهتمامنا ألا وهو (التنظيم الحسيني) فمجالسنا الحسينية التي يقيمها
أبناء الشعب في أيام عاشوراء وأربعين الإمام الحسين (ع) ووفاة النبي (ص)
والصديقة الطاهرة (ع) ومجالس الوفيات للأئمة عليهم السلام والمجالس
الأسبوعية والشهرية التي تقام في المساجد والمدارس والبيوت هذه المجالس
يجب أن تكون ضمن تنظيم حسيني في كل مدينة وفي كل قرية، وتكن هناك قيادات
منتخبة وتنسيق بين المجالس في اختيار الخطباء، وتنظيم المواكب العزائية
واختيار الشعارات الإسلامية التي تنمي في نفسية الشعب روح الحركة
والاندفاع..)(14)
ولو أننا أعدنا قراءة الكتب التي كتبها سماحة
الإمام الراحل (ره) عن فلسفة النهضة الحسينية وعن أيديولوجية الحركة
الاستشهادية التي تسير في خط الموت الجسدي بهدف الوصول إلى البقاء
الروحي، لاستطعنا أن نلخص فلسفة تلك الحركة في مؤلفات الإمام الشيرازي
بالنقاط التالية:
أ) النهضة الحسينية هي التجسيد الحقيقي للكثير من
المفاهيم والقيم الإنسانية النبيلة في الحياة كالتضحية والعدالة والحق
والحرية والرفعة الإنسانية.
ب) النهضة الحسينية استنفار دائم للإنسان كي يعيش
في كل لحظة من عمره حالة الاستعداد الدائم لمواجهة الباطل والشر إينما
وجد وفي أي عصر كان، لأن الحياة بمتناقضاتها تتطلب من المؤمن الحقيقي أن
يكون كل يوم عنده عاشوراء وأن تكون كل ارض له كربلاء.
ج) النهضة الحسينية تحقيق لقول الله سبحانه
وتعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)
(العنكبوت:69) فجهاد الحسين (ع) امتداد لحركة الأنبياء الجهادية.
ء) النهضة الحسينية عبارة عن إعادة تشكيل وبلورة
الشخصية الإسلامية الرسالية القادرة على إدراك معاني وأهداف وجوده في
الحياة من خلال متغيراتها الحركية وخط سيرها للأمام.
هـ) النهضة الحسينية، وما يتبعها من مراسم وطقوس
كالمنابر والمجالس الحسينية، عبارة عن وسيلة فعالة لشحن وتفعيل عوامل
التحدي ضد قوى الاستكبار مهما كان حجمها ومهما كانت قوتها ومظاهر
جبروتها.
و) على الرغم من أن النهضة الحسينية هي الوريثة
الشرعية للرسالة الإسلامية المحمدية، إلا أن واقعها الحركي وغاياتها
الإنسانية الشاملة حولتها من ثورة إسلامية إلى ثورة عالمية لا تستطيع
الحواجز القومية أو الاعتبارات العرقية أن تصمد أمام عنفوانها وأهدافها
الإنسانية السامية.
وهكذا نرى أن الإمام المجدد الشيرازي الثاني (ره)
قد تفاعل عملياً مع النهضة الحسينية حيث أنه نذر الكثير من جهده ووقته،
وحتى ماله في سبيل إعادة وإحياء الشعائر الحسينية بعد أن رفع النقاب عن
العديد من الجوانب الفلسفية لتلك النهضة التي كانت نقطة انطلاقها كربلاء
في عاشوراء، أما حدودها فهي حدود العالم في كل زمان وأوان، ولعل خير ما
نختم به هذا المقال عن فقيد الإنسانية – ولا أقول فقيد الإسلام فقط –
الإمام الشيرازي رحمه الله تعالى هو دعاؤه الشجي قبيل وفاته بفترة قصيرة
حيث يشكو بثه وحزنه الخريفي إلى الله سبحانه وتعالى:
(لقد اشتقت إلى كربلاء.. وأدعو ربي أن يريني يوماً
أعود فيه للصلاة من جديد في حرم جدي الحسين عليه السلام)(15)
لقد عاش سماحة الإمام الراحل (ع) نهج الحركة
الحسينية في كل ذرة وخلية من خلايا عقله وقلبه، وعاشها في كل نفس من
أنفاسه حتى صعدت روحه الطاهرة إلى عتبات مملكة الخلود إلى جوار جده أبي
الثوار وسيد الشهداء الإمام الحسين(ع) مصباح الهدى وسفينة النجاة.
(1)
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (عاشوراء والعودة إلى الإسلام) دار
صادق بيروت ط2/2003م ص11.
(2)
توفيق أبو علم (الحسين بن علي) دار المعارف بمصر – القاهرة ط2/1982 ص18.
(3)
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رسالة عاشوراء) طبع هيئة
محمد الأمين – بيروت ط1/1422هـ ص3.
(4)
إبراهيم الحيدري (تراجيديا كربلاء) دار الساقي – بيروت ط1/1999م ص16.
(5)
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قبس من شعاع الإمام الحسين –ع-) دار
صادق بيروت ط2/2002 ص30.
(6)
ثقافة عاشوراء في فكر الإمام الشيرازي إعداد ونشر مركز الإمام الشيرازي
للبحوث والدراسات بيروت – دمشق ط1/ 2002م ص12.
(7)
عبد الله عدنان المنتفكي (الثورة الحسينية في الفكر العالمي) مجلة
الثقافة الإسلامية إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق – راجع عدد
تموز – آب 1993م العدد (50) ص44.
(8)
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (الحسين مصباح الهدى) مؤسسة السيدة
زينب (ع) بيروت د.ت ص15.
(9)
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (الحسين مصباح الهدى) مؤسسة السيدة
زينب (ع) د.ت ص19.
(10)
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (الحسين مصباح الهدى) مؤسسة
السيدة زينب (ع) د.ت ص16.
(11)
في رحاب الإمام الشيرازي إعداد المؤسسة العالمية لإحياء تراث الإمام
الشيرازي مؤسسة المجتبى بيروت ط1/2002م ص15.
(12)
نفس المصدر السابق ص57.
(13)
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (عاشوراء والقرآن المهجور) مؤسسة
المجتبى بيروت ط1/ 1421هـ ص36.
(14)
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان
والحرية والرفاه والسلام) مؤسسة الفكر الإسلامي بيروت ط3/ 1413هـ ص728.
(15)
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي عشت في كربلاء مركز
الرسول الأعظم (ص) بيروت ط2/2003م ص77. |