إن قضية (تحرر المرأة) أصبحت من القضايا الجوهرية
في حركة البشرية المعاصرة. وحظيت باتفاق أوسع نسبة من المجتمعات
العالمية، حيث لم يعد هناك من يطرح تفنيدات بأحقية المرأة بالمساواة
الاجتماعية، إلا وتعرض لاستنكار مطلق.
إن إعلان الجمعية العامة لأمم المتحدة في 18
ديسمبر 1972 عن العام الدولي للمرأة والذي تكرس في عام 1975، هو تعبير عن
إجماع الإرادات البشرية الواعية على ضرورة التعجيل بتوفير الضمانات
المادية والحقوقية والمعنوية المتكاملة لتحرر المرأة. ولكن الاتفاق العام
على الأهمية الحاسمة لتحرر المرأة، لا يعني اتفاق المفاهيم المتعلقة
بمكانة المرأة ودورها وحقوقها ومسؤولياتها. إن اختلاف المفاهيم يؤثر إلى
مدى بعيد بالتطبيقات التقدمية الموظفة لصالح المرأة، وهو الذي يلعب دوراً
خطيراً في تقرير مضمون عملية التحرر النسوي وآفاقها(1).
لقد دعى الإسلام منذ تأسيسه إلى المساواة بين
الرجل والمرأة خاصة في المسائل العقائدية وفي الحقوق مع إسقاط بعض
الواجبات عن المرأة مراعاة لوضعها البيولوجي ويكفي المرأة تكريماً لها أن
الله خاطبها جنباً إلى جنب مع الرجل إذ يقول في كتابه العزيز:
(إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخشاعين
والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم
والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً
عظيماً) سورة الأحزاب: الآية:35.
كما أن التشريع الإسلامي قد حفظ حقوق المرأة
وصانها ورفع مكانتها، ومن أعظم إنجازات الإسلام تجاه المرأة أنه قد حرّم
(الوأد) تلك الجريمة التي كانت سائدة في الجزيرة العربية قبل مجيء
الإسلام. وعلماء الإسلام الحق يحافظون على نظرة الإسلام للمرأة ويطورونها
وفقاً للظروف الراهنة فيولونها أهمية في اجتهادهم بما يتناسب مع الشريعة
ولعل من أبرز العلماء الذين أعطوا قضية المرأة أهمية الإمام الشيرازي
(قده).
إن الناظر بنظرة عابرة، قد يرى السيد الشيرازي
رحمه الله ذا منهج تقليدي في النظر للمرأة، من خلال ملاحظته لجوانب
الاحتياط التي يفتي بها في أمر الحجاب والغطاء للوجه، وسائر المسائل، إلا
أن المتأمل بعمق في فكره يرى أنه قد أعطى لها دوراً أساسياً في مجالات
الخدمة للمجتمع، والأدوار السياسية والعامة الأخرى، سواء على الصعيد
النظري في كتبه، أو من خلال رعايته العامة للنشاطات النسائية، ومما يكشف
عن ذلك أن آخر ساعاته كان له لقاء مع إدارة الهيئات النسائية في إيران،
وبعدها ألمّ به ذلك العرض الصحي الممضّ(2).
تبقى المرأة هي الكيان المتكامل الذي خلقه الله
تعالى من اجل استمرارية الحياة، فالمرأة لها دورها الأسري والتربوي الذي
يعد عاملاً رئيسياً في بناء الأجيال لا سيما في هذه المرحلة العصيبة ونحن
نعيش مواجهة شرسة مع الإعلام الغربي المضلل الذي غزا الكثير من البيوت
وتحول إلى خطر كبير يهدد الأسرة بالتشتت ولكن دورها الآخر وهو التصدي إلى
الواقع الحياتي والاجتماعي يبقى ضرورة أخرى.
المرأة كالرجل في حدود حقوقها الشرعية فلها ممارسة
أعمالها مالم تخل بوظائفها الأخرى والإمام الراحل (قده) اشار إلى ذلك مع
ذكر التوجيهات في كتب له (توجيهات شرعية ـ أسئلة وأجوبة شرعية ـ تزويج
العازبات) مضافاً إلى غيرها من الكتب.
ففي كتابه (المرأة المسلمة والوصايا الأخيرة) يذكر
الإمام رحمه الله أن مجموعة من النسوة المؤمنات قدمن إليه من مدينة يزد
وكن حوالي 500امرأة فقال لهن ناصحاً: «بحمد الله أنتن مثقفات وتدركن هذه
المعاني، أنتن متعلمات وقد درستن وطالعتن الكتب، وتحضرن المجالس الدينية
والحسينية وتسمعن هذا الخطاب، لذا يجب أن تكن حسنات الأخلاق دائماً، فإذا
كان الإنسان سيء الأخلاق في وقت ما فسينال جزاءه في الدنيا، ويتعرض هو
أيضاً لمعاملة سيئة، فدق يكون ابنه لا سمح الله سيء الأخلاق مثلاً، أو
يكون أخوه أو أخته لا سمح الله ولا قدّر سيء الأخلاق»(3).
ينطلق الإمام رحمه الله من منطلق إسلامي في تعيين
وظيفة المرأة المسلمة في الحياة فالمؤمنة كفؤ المؤمن كما في الحديث، كما
أن الإسلام أمر المرأة والرجل سوية بأداء الواجبات الدينية والاجتماعية
وغيرها باستثناء بعض الفروق بينهما مثل سقوط الجهاد عن المرأة أو الجماعة
والجمعة أو سقوط الفرائض أيام دورتها وما شاكل.
ليس مغالاةً في القول بأن المجتمعات الزراعية،
التي تعد في التحليل الحضاري العمومي متخلفة، تقدم تعبيراً واقعياً
محدداً عن مكانة المرأة (على الرغم من شيوع ظاهرة سلطة الرجل طبعاً) أكثر
إنسانية من بعض ظواهر الاستعراضية البرجوازية فيما يتعلق بالمرأة.
فالمرأة الكادحة في الريف تزرع وتسقي وتحصد وترعى، وتشارك الرجل في أعباء
العمل اليومي، إضافة إلى عملها التقليدي المتمثل بالعمل المنـزلي
والإنجاب والرضاعة ورعاية الأطفال وسوى ذلك من مهمات أسرية… مما نستخلص
منه، أن تطوير العناصر الإيجابية في الحركة الاجتماعية يعطي لحركة تحرر
المرأة مضموناً واقعياً فيما أن التقليد يدخر نقيض ذلك.
يقول الإمام الشيرازي (قده): «يجب أن يعمل الرجل
وأن تعمل المرأة كلاهما، لأن المرأة تتصور أنها ربة بيت وخلقت للاستهلاك
وإنجاب الأولاد وتربيتهم فقط».
من القضايا والأفكار الأساسية التي تسهم بتكوين
تصورات علمية وواقعية عن ظروف المرأة وإمكانات تحررها ما يلي:
أولاً: إن علاقة
المرأة بالرجل ليست علاقة استعباد الواحد للآخر، بل هي علاقة مصيرية
واجتماعية تنامت عبر مراحل التاريخ، واكتسبت أشكالاً متعددة تبعاً للدور
السيادي للمرأة والرجل وحيث أن (الزواج) هو الشكل الأرقى للعلاقة بين
المرأة والرجل، فإن الصور التاريخية للزواج تكشف عن التبدلات الحاصلة في
السيادة الاجتماعية.
ثانياً: إن
تاريخ اضطهاد المرأة هو تاريخ الاضطهاد الطبقي أيضاً. وإن الفترات
المزدهرة في حياة المجتمعات انتعشت فيها إنسانية الرجل والمرأة على حد
سواء. وفي التاريخ العربي أخبار كثيرة عن المرأة المقاتلة والمرأة
الشاعرة والمرأة التاجرة.
فالزهراء عليها السلام هي المثل الأعلى التي كانت
تهتم برعاية أبنائها ولكن في نفس الوقت كانت تقف مع الإمامة المتمثلة
بالإمام أمير المؤمنين في التصدي للانحراف.
وأيضاً كان لبطلة الطف الحوراء زينب عليها السلام،
الدور البارز في نشر رسالة الطف المقدسة، فالجمع بين الدورين هو ما كان
يؤكد عليه المقدس الراحل.
وإن توزيع المسؤوليات بين الرجل والمرأة ارتبط
أصلاً بنظم تقسيم العمل التي ولدت الأطوار العديدة من الصراع الطبقي.
ثالثاً: إن تحرر
المرأة يتحقق من خلال التحرر الاجتماعي الجذري وأن اضطهاد المرأة دلالة
أكيدة على التخلف الاجتماعي.
وأي تفكير في الحياة الجديدة لأي مجتمع، ينطلق
اصلاً من شرط إطلاق حرية المرأة، في إطار المساواة العامة، والتحرر
الاجتماعي الشامل.
إن تحرر المرأة الحقيقي يتأكد في تأسيس عادل
لمقومات البناء الاجتماعي القائم على وحدة المرأة والرجل في العمل
والحقوق والواجبات.
إن أهلية المرأة للإنتاج والإبداع مؤكدة، والمهم
على الدوام انخراط المرأة في مسيرة البناء والعمل الإنتاجي، كي ما يتيسر
لها الإسهام الفعال في واجبها الحضاري، وفي مسار المشاركة بين المرأة
والرجل من أجل بناء حياة جديدة للإثنين معاً، يدعو الإمام الراحل إلى ذلك
حيث يقول مخاطباً وفداً نسائياً قدم لزيارته: «يلزم على كل واحدة منكن أن
تسعى لتنمية قدراتها على الكتابة والتأليف فبحمد الله أنتن متعلمات وقد
درستن بعض العلوم الدينية، لذا يلزم أن تكتبن الكتب النافعة والمفيدة
للمجتمع وخاصة النسوي منه، لزميلاتكن ومثيلاتكن من البنات والنساء».
إن نمط المرأة السلبي، يتمثل في المرأة العاطلة،
وفي تعاطي أعمال من طراز البطالة المقنعة، إنها بذلك تستغل الرجل أسوأ
استغلال. وليس أكثر سلبية وضرراً على حركة النساء من أن تستنـزف المرأة
الرجل الذي يكد ويكدح ويشقى ويتعرض للتضحيات وهي لا تعرف غير الاستهلاك
والمزيد من المطالب الشخصية الجسيمة.
رابعاً: إن
التفوق البيولوجي بين الرجل والمرأة لا يصح أن يكون أساساً للتمايزات
الجنسية والاعتبارات اللاإنسانية الناجمة عنها. إنما هو قائم فعلاً في
صلب وحدة الكائنية البشرية والعضوية الاجتماعية.
إن إشاعة قيم الحب الاجتماعي والعمل من أجل
المجتمع، تضع الوظيفة الجنسية في علاقة المرأة والرجل في جوهر المسألة
الاجتماعية. ولا تستند إلى أي أساس الإدعاءات القائلة بأن (أنثوية)
المرأة هي الدليل على (ثانويتها). وإنما هي أفكار بلهاء ومتخلفة تلك التي
تدمغ أنثوية المرأة بالاتهام. وهي في كل تحليل ليست إهانة للزوجة فحسب،
بل إهانة للأم والمرأة بعامة.
وما من ترجمة لموقف الإمام الشيرازي قدس سره من
المرأة أبلغ من أنه قد قرن أقواله وقناعاته المنبثقة من تعاليم الدين
الحنيف واجتهاداته الملائمة لمشكلات العصر بأفعاله حيث قام بإنشاء
الحسينيات النسائية كي تكون منبراً للمرأة المسلمة تمارس من خلاله دورها
في الحوار والتفقه بأحكام الدين والأئمة الصالحين عليهم السلام ولكي
تتمكن دائماً من أن تكون عنصراً فاعلاً في المجتمع بصورته الخاصة
(أسرتها) وصورته العامة.
(1)
حق المرأة، عزيز السيد جاسم، ص5.
(2)
لقاء مع الشيخ فوزي سيف، مجلة النبأ، العدد 69 ذي القعدة 1423هـ ص237.
(3)
المرأة المسلمة والوصايا الأخيرة، الإمام الشيرازي، ص24.
|