ذكريات خالدة عن الإمام الشيرازي الراحل - قدس سره - |
محمد كاظم الخاقاني |
(من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق) هنالك من الذكريات ما تخالط النفس، خالدة ما حيي المرء، لا تفارق الخيال، مميزة بمعالمها، متفردة بمحاسنها، لا تنال منها مطارق الحدثان، ولا تبلي ربيع أيامها مخالب الذئبان، وليدة يوم قل ناصره، وتنكّر للحق من عرف أهله، وإن أقرّ في الخلوات بما أصغت له مسامع القلوب. هكذا تمر الأيام بلياليها بما تحمل في طياتها من العبر والذكريات يمتزج حلوها بمرها لتبني صرحها الجميل في مسالك النفس تاركة وراءها أكداساً من الهموم والصعاب هشمتها معاول الصبر. ولقد كان من أبرز الذكريات الخالدة على الرغم من ظروفها القاسية حينما أمرني سماحة الوالد - قدس سره - أن أخبر حرس الثورة بإحضار سيارة لزيارة فقيدنا الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي - قدس سره - في بيته بمناسبة استشهاد أخيه المرحوم آية الله السيد حسن الشيرازي قبل أن تقام الفاتحة، على الرغم من عدم خروج الوالد من بيته قط لظروف لست بصدد شرح تفاصيلها، فكان إصرار الوالد - قدس سره - للخروج أداءً لبعض ما لسماحة السيد الشيرازي من الحق، حيث كان وصولاً في أيام الأزمة، مع قليل من الأعلام كآية الله السيد رضا الصدر وسماحة السيد علي الفالي وآية الله العظمى السيد محمد كاظم شريعتمدار - رحمهم الله - وكذلك سماحة آية الله العظمى السيد صادق الروحاني.. فبينما كنا ننتظر وصول السيارة إذا بالباب تطرق، ويخبرنا الحرس بأن سماحة السيد الشيرازي يريد زيارة الوالد - قدس سره - قائلاً عند دخوله على الوالد: إني علمت أن سماحتكم مع ما أنتم عليه من العجز والمرض سوف تحاولون قراءة الفاتحة عندي بمجرد أن يبلغكم خبر استشهاد أخي، فبادرت لزيارتكم حتى لا تتحملوا عناء المجيء وأكون قد أسقطت حقي. وقد بذل سماحته الكثير من الجهد في إقامة مراسم التشييع والفاتحة للوالد - قدس سره - ولم تنته مواقفه التي لا تنسى في بلدة قم المقدسة، بل استمرت بتمام معنى الكلمة في أيام وفاة العلوية الوالدة - رحمها الله تعالى - بما قام به أبناؤه والعديد من مقربيه من خدمات وجهود يشكرون عليها. (معالم الولاية) تمر الأمة الإسلامية منذ فترة من الزمن وبالأخص في هذه الأيام بأشرس أدوار حياتها صعوبةً واختباراً على الرغم من مظاهر الحرية ومنظمات حقوق الإنسان التي أضحت مجرد موجّهٍ لمطامع أصحاب السلطات بإعطائها شرعية العدوان وتخديرها شعوباً أصبحت لا تمتلك حتى حرية الأنين من وجع جراحها ونزف دمائها دفاعاً عن النفس. أجل في مثل هذه الظروف العصيبة والليالي الدامسة، حيث انهارت فيها الحصون وانقلعت الأبواب، نتيجة انهزام في الداخل، وهجمة تجاوزت كافة القيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والحضارية، وفرضت في غالب ميادينها التبعية المطلقة على فلول المنهزمين الراضية بطبق من شعير، إن وجدوا له محفلاً أو مكاناً، بعد ما كانت عليه الأمة من الطموح والعز تحت راية رائد السلام محمد بن عبد الله (ص)، وبعد الانهزام والسبات الطويل بات العديد من أبناء الأمة الإسلامية يلمسون أكثر من ذي قبل لزوم التعمق بالتراث الإسلامي كدرع حصين يعيد للأمة وعيها وتراثها المنهوب أو المهجور حتى في محافل العلم على الرغم من عظيم الادعاء. وما كانت لتبلغ الأمة هذه الهوة، وما تعانيه من مأساة على كافة الأصعدة المادية والمعنوية، لو تقلدت أمورها قيادة سليمة، تشرح الرسالة بأبعادها وبطونها، وتطّبق الشريعة بعدلها وإحسانها، وهو الأمر الذي حرص عليه أبناء هذه الأمة المخلصين طيلة قرون، لم تأخذهم في الله لومة لائم، فاعتبروا صلاح القيادة عدلاً لجميع أبعاد الرسالة، وقواماً لأسسها في ميادين العلم والعمل تبعاً لقول الله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين)، حيث اعتبر تعالى تبليغ أمر القيادة وأنه (ص) إن لم يفعل لم يكن قد بلّغ الرسالة فاعتبر تعالى عدم القيادة السليمة بمثابة عدم الرسالة بكل أبعادها. وقد كان من جملة أبناء هذه الأمة الحريصين على حفظ خط الولاية، خوفاً من نبرات البعض الساعية لفرض الوسطية في المقام، هو فقيدنا الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، وقد عُرفَ سماحة السيد الشيرازي بشمولية البحث والتبسيط، ساعياً من خلال ذلك التمشي مع مختلف الطبقات التي يعيش الكثير منها البعد عن الصياغة الحوزوية لما في بعض الكتب من التعقيد والأسلوب القديم، حيث باتت الأمة بحاجة ماسة إلى خطاب يوصل التراث الإسلامي، بما فيه من عظيم الحضارة، إلى أذهان المجتمع، ويلاحظ فيه مناسبة الزمان والمكان عبر تحرك لكسب الطليعة الشابة المؤمنة التي تحتاج إلى مزيد من الوعي الذي يواكب العصر، خوفاً من إلقاءات بعض المتفلسفين أو المغرضين لبعض الشبه، وبالأخص بعد ما أصبح كل ذي وعي وغيرة على الإسلام يلمس توحّد الباطل، على اختلاف مذاهبه، ضد الحق وسبيل الرشاد. وكان من أهم ما رآه سماحته - قدس سره - لازماً، مسألة الشورى، كما أصر الوالد - قدس سره - أيضاً على تلكم القضية الضرورية في جميع محاوراته وإرشاداته، بلزوم جريانها في كافة مجالات الحياة العلمية والعملية، للاجتناب عن الأحادية في التفكير والحكم، ولصيانة القانون مهما أمكن عن الخطأ، والابتعاد عن عقلية الاستبداد في الرأي الذي يسوق الأمة إلى كبت القابليات، وإماتة الوعي، وعدم الإحساس بالمسؤولية تجاه مصيرها المحتوم الذي تساق إليه تحت ظل أنظمة صانعي البطولات والتقديس، بدلاً من المساعي المشتركة في ميادين التحاور والاستدلال للأخذ بالأهم والأكثر نفعاً والأقرب إلى واقع الشرع والقانون، حيث تشترك في ضمان فهمه العقول، ويندفع أصحاب الخبرة والاختصاص، فهماً لمدارج الشريعة وتطبيقاً لها في ميادين الحكم، كل فرد بما يناسبه من الأمر ومجال الاختصاص، سواء في ذلك الجانب الفقهي بتشكيل شورى الفقهاء، أو الجوانب الأخرى الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو غيرها، بما يحتاجه كل مقام من لجان أخصائيين يعملون بالشورى تحت ضوابط الشرع بإشراف شورى الفقهاء. ومن جملة ما ركّز عليه، مسألة إحياء الشعائر الحسينية، حيث اعتبرها المنطلق للتحرك نحو نشر الرسالة المحمدية، وهي القضية التي اتفق عليها جميع أهل الولاء من علماء الشيعة، وإن كان ربما وقع شيء من الاختلاف في بعض الجزئيات، أو سبل إظهار الجزع والحزن على سيد الشهداء (ع)، وهو ما يعتبر اختلافاً في تشخيص بعض المصاديق لخدمة الشعائر الحسينية، وليس اختلافاً في أصل الموضوع الذي رآه الأعلام من الأسس لحفظ الشريعة، بمتابعة منهج الحسين (ع) لإحياء شريعة جده المصطفى (ص). وقد رأى في سيرة الصديقة فاطمة الزهراء (ع) وخطبها البيان الشافي لكافة أبعاد الرسالة والدفاع عنها وعن منهج الولاية لولي الله الأعظم وآية الله الكبرى الإمام علي (ع). وقال سماحة السيد الشيرازي أيضاً في كتابه (الشيعة والتشيع): ونعتقد أن النبي (ص) يعلم الغيب بإذن الله تعالى ويعلم الماضي والحاضر والمستقبل بتعليم الله سبحانه له، كما قال تعالى (فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول) فالله سبحانه وتعالى أظهر الرسول على غيبه والرسول علّم ذلك أهل بيته عليهم السلام.. حيث أشار - قدس سره - في كتابه بإطلاق الكلمة إلى علم الغيب للأزمنة الثلاثة بدون تقيد العلم بخصوصيات الشريعة؛ وذلك مما يدل على أنه يعتقد بالعلم لهم (ع)، العلم المستوعب لكافة الأزمنة. والعلم بإطلاق الكلمة أحد الأدلة على الولاية المطلقة التكوينية على بعض معانيها، وهو أنه من عَلِمَ - بإذن الله تعالى - حقائق الأمور وأسبابها ونواميسها، كانت له الولاية التكوينية، لأن الأمور تابعة لأسبابها وعللها ومصالحها ومفاسدها، إن لم يكن - قدس سره - أراد الولاية التكوينية المطلقة بأبعادها العرفانية والفلسفية والشرعية أيضاً، التي لست بصدد شرحها في هذا العرض السريع. وقد وجدت أن من أجمل التعابير المنبثقة عن حب أهل البيت عليهم السلام، لمن أمعن في عبارة الكتاب (الشيعة والتشيع)، قول سماحته: ينقسم المسلمون في العالم إلى شيعة هم أكثر من خمسمائة مليون، وسنّة هم بقية المسلمين.. فأوقفتني هذه الصياغة فترة من الزمن؛ إذْ وجدت فيها ما يسر القلوب صياغة ومعنى بالنسبة إلى أهل بيت الرسول (ص). تغمده الله تعالى وبقية علمائنا الماضين بواسع رحمته وسدد خطى الباقين منهم لخدمة الشريعة الغراء إنه ولي التوفيق. |