الصفحة الرئيسية  |  الأعداد السابقة  |  أنت تسأل ونحن نجيب  |  الأرتباطات  |  أرشيف الأخبار الثقافية  |  شارك في الكتابة  |  اتصلوا بنا  |  الرجوع الى صفحة المقالات الواردة >>

 

صورة الحرب في شعر الخنيزي

عقيل بن ناجي المسكين

الحرب وإن فُرضَتْ, ليست هدفاً مقدساً في حدِّ ذاتها ؛ وإنما هي ظرفٌ طارئ يقبله الإنسان على كره فيه, حيث أنه جُبِل على حبِّ الأمن والسلام، وقد عبّر القرآن الكريم عن كراهة الإنسان للحرب بالآية ( كُتِب عليكم القتال وهو كُره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )،  أما من شذّ من البشر, ممن يعتبرون الحرب هدفاً لهم للكسب المادي وتحصيل المصالح الدنيوية, فهم يصطنعون الحروب من أجل مراميهم وأطماعهم ولو كانت على حساب آلاف الضحايا،  وقد رأيت أن أكتب في هذا الجانب من الناحية الأدبية, وبالذات في مجال الشعر وهو أبو الأدب العربي القديم والحديث -إن صحّ التعبير-  حيث أن الكثير من شعرائنا تطرّقوا في موضوعات قصائدهم إلى الحرب وبشاعتها وما تجرّه من المصائب والويلات والدمار على البشر والكائنات والطبيعة والحياة بشكل عام،  ففي الشعر القديم تطرق الشاعر الجاهلي إلى الحرب من عدة جوانب ومن مختلف المواقف خصوصاً وأن  ". . . حياة القبائل … سلسلة حروب ومنازعات ، تنشب لأسباب ذات خطر أو ليست بذات خطر، وأهم خصوماتهم تقوم على مراعي السوام ومواقع المياه،  والغزو الذي اتخذوه وسيلة من وسائل العيش، والثأر الذي لا يغسل عاره إلا الدم، وبذلك كانت حياتهم عمادها الحرب والغارة، والاستعداد توقعاً للخطر، فهم شاكّوا السلاح ، حاضروا العدّة ، معتصمون بصهوات جيادهم ، يجدّون في قعقعة السيوف ووقع الأسنّة وصهيل الخيل، استجابة لمعاني البطولة والقوة في نفوسهم، وقد سميت حروبهم ووقائعهم أياماً لأنهم يتقاتلون نهاراً فإذا جاء الليل حجزهم وفرّقهم ، فإذا حلّ اليوم الثاني عادوا للقتال.. وأيام العرب كثيرة بحيث يقال أن أبا عبيدة ( معمر بن المثنى - 211هـ ) ألف كتاباً جاء فيه ذكر مائتين وألف يوم، ولم يصل إلينا هذا الكتاب، ولكن كتابه شرح النقائض حفظ طائفة كبيرة من تلك الأيام ، وقد ذكر الميداني في كتابه ( مجمع الأمثال ) اثنين وثلاثين ومائة يوم ضبط أسماءها وبين أحداثها والقبائل التي اشتركت فيها .. وقد كانت الأيام هذه مادة غنية للشعراء،  فكان الشعر صدى واضحاً لها ، حكى وقائعها ووصف هولها وبكى قتلاها ، وتوعد الخصوم ، وطالب بالثأر ، وافتخر بالنصر وعيّر بالهزيمة .. وقد كانت الكتب التي عنيت بالأيام دواوين وملاحم رائعة صادقة ، حفظت ذلك الشعر ، الذي ما زالت روعته وفخامته تهز سامعيه ، وتبعث فيهم روح البطولة والبسالة والحماسة . . . " 
هذا ما ذكره الدكتور يحيى الجبوري وهو هنا يرصد باختصار حالة الحرب بين القبائل وينوّه بالشعر الذي نما وتطوّر من خلال تفاعل الشعراء وممن يقرضون الشعر مع هذه الحروب وما تتركه من الأحقاد والأضغان وتنازع الأنفس تجاه طلب الثأر وما إلى ذلك.. إلا أنه في المقابل هناك في المجتمع الجاهلي من يذم الحرب ويدعو الناس إلى الصلح والسلم بين الناس و يمكنني الجزم بأن أفضل ما قيل في ذم الحرب, إن لم أكن قد بالغت, هو ما قاله الشاعر زهير بن أبي سلمى ضمن معلقته الشهيرة التي مطلعها :
وتضر إذا ضريتموها فتضرموا          وما هو عنها بالحديث المرجّمِ

تلقح كيشافاً ثم تنتــــج فُتتئمكم          أحــمر عادٍ ثــم ترضــــع فتفطمِ

وماالحرب إلاماقدعملتم وذقتم          متىتبعثوهاتبحثوهاذميمةًفتعرككم

عــــرك الرحـــى الحبَّ بثفافها          فتنتج لكم غلــــمان أشام كلهم

حيث تطرق ابن أبي سلمى إلى ذم الحرب التي وقعت بين عبسٍ وذبيان, وقد دعا الشاعر القبيلتين إلى السلم بل وظّف شعره في سبيل تحقيق السلم بين القبلتين ومدح سيدين شريفين من أشراف العرب, ممن وقفوا ضد الحرب وراموا السلام وهما هرم بن سنان والحارث بن عوف, حيث تحمّلا ديات القتلى وأبرموا الصلح بين القبيلتين؛  ومما ذمَّ به الحرب وويلاتها قوله ضمن معلقته الشهيرة:
وتضْرَ إذا ضرّيتُموها  فتضرمِو   وما هو عنها بالحديثِ المرجّمِ

تلقحْ كِشافاً  ثمّ  تُنتِجْ  فتتئمِك     أحمرِعادٍ  ثمَّ  ترضِعْ  فتفطمِ

وما الحربُ إلا ما قدْ علمتمْ وذُقتمُ    متى تبعثوها تبعثوها ذميمةًفتعرككمْ 

عركَ  الرحى  بِثفالِها             فتنتجْ  لكمْ  غلمانَ  أشأمَ  كُلّهمْ
يقول الزوزني معلقاً على أبيات زهير :  "  ليستِ  الحربُ  إلا  ما عهدتموها  وجربتموها ومارستم كراهتها ،  وما هذا الذي أقول بحديث مرجّمٍ عن الحرب فهذا ماشهدت عليه الشواهد  الصادقة من التجارب وليست  من أحكامِ الظنون ،  ومتى تبعثوا الحرب تبعثوها مذمومة على إثارتها ،  ويشتد ضرمها إذ حملتموها على شدة الضرى فتلتهب نيرانها ؛  وإنكم إذا أوقدتم نار الحرب ذُممتم ،  ومتى  أثرتموها ثارت وهيجتموها هاجت .. وتعرككم الحرب عرك الرحى الحب مع ثفاله … وتلقح الحرب في السنة مرتين وتلد توأمين .. وجعل إفناء الحرب إياهم بمنزلة طحن الرحى الحبَّ وجعل صنوف الشر تتولد من تلك الحرب بمنزلة الأولاد الناشئة من الأمهات ،  وبالغ في وصفها باستتباع الشر شيئين: أحدهما جعله إياهم لا قحة كِشافاً، والآخر إتآمها… فتولد لكم أبناءً في أثناء تلك الحروب كل واحد منهم يُضاهي في الشوءم عاقر الناقة ثم ترضعهم الحروب وتفطمهم ،  أي تكون ولادتهم ونشوؤهم في الحروب فيصبحون مشائيم على آبائهم"
لقد اعتمد الشاعر الجاهلي في ذمه للحرب منطلقاً من بيئته فهو يشبهها بالنار إذا أضرمت،  وشبهها بالرّحى التي تعرك الدقيق،  وشبهها بأنها تلد أبناءاً مشائيم سرعان ما يصبحوا يتامى،  إضافة إلى ما حملته نفوسهم من ويلات الحرب فاضطربوا ولم يذوقوا طعم السعادة في حياتهم، فالشاعر هنا يستخدم (النار - الرحى - الناقة)  وكلها من البيئة التي عاشها الجاهلي.

وهذا مثال واحد في ذم الحرب من الشعر الجاهلي وهو يحمل رؤية صادقة قريبة من صفاء الفطرة والتصاقها بمبادئ السماء خصوصاً وإن زهير بن أبي سلمى يعرف عنه بشعره الديني بحكم ما اتصل به من ثقافة دينية لها ارتباط وثيق بالحنفية وما تبقى من ديانة إبراهيم (ع) في جزيرة العرب وقتئذ..
أما في العصر الحديث فهناك الكثير من الشعر في ذم الحرب وخصوصاً ممن قاسى ويلاتها ودمارها كالشعوب العربية والإسلامية التي وقعت تحت نير الاستعمار ،  حتى الاحتلال اليهودي الصهيوني للأراضي الفلسطينية منذ نصف قرن وحتى الآن، وكذلك حرب الخليج الأولى والثانية من المصائب والفواجع،  ثم الاعتداءات الأمريكية على العراق وفرضها الحظر الاقتصادي على الشعب العراقي وأطفاله ،  وغير ذلك من مسلسل الحروب الذي لا زال متواصلاً حتى يومنا هذا، ولا يتحمل فيه الخسائر غير الشعوب المستضعفة..
ومن الشعراء المعاصرين من جيل المدرسة الرومانسية الحديثة شاعرنا الكبير محمد سعيد الخنيزي ، أحد شعراء القطيف المعروفين، حيث قرأت في مجمل أشعاره بعض القصائد التي تتحدث عن الحرب وتحتوي على بعض الصور التي يحمل من خلالها الشاعر رأيه الصريح في الحرب وما تخلفه من الدمار الكبير ومن هذه القصائد التي تناول فيها الحرب قصيدة ( إلى الفدائيين ) المؤرخة في  5/3/1969م وهي قصيدة حماسية تتجلّى فيها روح المقاومة والفِداء وقد كُتِبَتْ عندما كانت " فتح " تمارس العمل الفدائي سعياً لتحرير فلسطين من أيدي الصهاينة، و جاءت القصيدة على بحر البسيط و مطلعها:
ليستعيدَ فلسطيناً إلى  العربِ        صوتُ الفداءِ يُدوّي منْ فمِ اللَّهَبِ
وقصيدة (المأساة الصامتة) المؤرخة 15/11/1972م حيث تناول فيها آثار الحرب وما تتركه من الدمار وضياع الإنسان ، وهي على بحر ( مجزوء الكامل ) ومطلعها:
نبأٌ كأمواجِ الظلامِ            نشرَ المساءُ ببيتها
وقصيدة (القنبلة الذرية)المؤرخة في  1/4/1987م  حيث " كتب الشاعر هذه القصيدة ، حينما صوّر أحد مجرمي الحرب وأعداء الإنسانية - بغرورٍ منه وحماقةٍ- وقد فجّر القنبلة الذرية. هنا صوّر الشاعر أن الحياة احترقت، ودُمِّرتْ بمبانيها وزروعها، وغاض ماؤها، ولم يبق إلا زوجان لجآ إلى ملجإ ؛ وبعد فترةٍ خرجا منْ ملجئهما، فإذا هما وسط شتاءٍ نووي، لا حياة ولاناس؛ فعطشا، فشربا من ماء المطر الملوّث بالذّرة، فكانت نهايتهما المحزنة لعالم مدمّر" والقصيدة جاءت على بحر

وقصيدة  ( الدم أقوى من الرصاص ) المؤرخة في  2/3/1988م  وهي قصيدة عبّر فيها عن الانتفاضة الأولى حيث أهدى الشاعر هذه القصيدة إلى فلسطين الحبيبة في ثورتها العارمة المنتصرة، وجاءت القصيدة على بحر المتقارب ومطلعها:
يدوّي بسمعِ الدُّنا كالرُّعودِ      سمعتُ زئيركَ مثلَ الأُسودِ
كما نقرأ في تضاعيف بعض القصائد شيئاً عن حرب الطغاة ضد الأبرياء و جرائمهم ضد الإنسانية كقصيدة ( بلا عنوان ) المؤرخة في 4/9/1992م حيث رثا فيها سماحة المرجع الديني الأعلى زعيم الطائفة آية الله العظمى الإمام الراحل السيد أبو القاسم الخوئي - قدِّس سرّه الشريف - المتوفي في 8/2/1413هـ وقد ألقاها الشاعر في ذكرى الأربعين التي أقامها أهالي القطيف في حسينية آل سنان ،  وقد تناول الشاعر في هذه القصيدة صورة من صور الحرب التي يشنّها الطّغاة على علماء الدين وما يمارسوه من الإرهاب بشتّى أشكاله..
وفي الحقيقة أن جميع هذه القصائد تستحق الدراسة وتسليط الضوء عليها إلا أنني سأكتفي بالقراءة التحليلية لقصيدة ( القنبلة الذرية ) لغرضٍ ما, حيث أنّ هذه القصيدة تتحدث عن أكبر جريمة إرهابية في تاريخ الإنسانية الحديث إضافة إلى كون هذه الجريمة العظمى قد ارتكبها من يسمون أنفسهم بأصحاب السيادة على العالم وقادة النظام العالمي الجديد؛  ومؤخراً رُعاة " النسر النبيل " وقوّاد الحملة العالمية ضد الإرهاب والتي أسموها بـ " العدالة بلا حدود ".. هذه القصيدة رغم بساطتها الأدبية - وهي نقطة قوة برأيي - إلا أنها لخّصت بعض المعاني الرمزية التي يمكننا تطبيق عدة مصاديق عليها.. المصاديق التي لا زالت موجودة في واقعنا المعاصر حتى تاريخ كتابة هذه السطور.. فهناك ( المستكبرون في الأرض - المجرمون - ) وهناك ( أداة الجريمة - القنبلة الذرية ) وهناك ( آلاف الضحايا ) وهناك ( الدمار الشامل ) ويمكننا أن نوضحها في هذا الشكل:

- أمريكا المجرم ( المستكبر )

- القنبلة الذرية أداة الجريمة

- ضحايا هيروشيما ونكازاكي ( الضحايا )

- مدينتي هيروشيما ونكازاكي الدمار ( مسرح الجريمة )
هذا هو الواقع الفعلي الذي حصل عندما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين على كل من هيروشيما وناكازاكي في اليابان إبان الحرب العالمية الثانية والتي على أثرها استسلمت اليابان وبدأت فصلاً جديداً من البناء بعد أن ذاقت مرارة الجريمة وعمق المأساة. ولكن يمكن أن نطبّق ذلك أيضاً بذات المراحل في أي منطقة أخرى في العالم خصوصاً بعد أن صعّدت أمريكا من نواياها لمحاربة ما أسمته بالإرهاب في العالم سواء استخدمت السلاح الذري أو النووي أو لم تستخدمه فهي إلى جانب قوتها في هذا المجال تستخدم ( حق الفيتو ) الذي يقف حجر عثرة أمام كل من يقف في وجهها لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن باعتبارها الدولة العظمى ، وخير تشبيه لسيدة الكون كما تزعم هو أنها كـغِرٍّ أو مجنونٍ يحملُ سلاحاً محشواً  يصوّبه أمام الجالسين وهو ينظر إليهم بنظرات ملؤها السخرية والاستهتار والاستهزاء،  بينما الجالسون تكاد قلوبهم أن تتوقف من شدّة الخوف وهم يحاولون تهدئته لكي لا يتهور ويضغط على الزناد فتُزهقُ الأرواح .. وتسيل الدماء .. ويخيّم شبح الموت على رؤوسهم .. أو كما شبّهها الشاعر المصري القدير بدوي السعيد راضي عندما كتب قصيدته( صلوات في محراب سيدة الكون ) حيث شبّهها بالسيدة الجميلة التي يعبدها الخانعون والمنهزمون لفرط هزيمتهم أمام جمالها الخلاّب وبسمتها اللعوب ..
وفي الواقع فإن الخطاب الإسلامي عامة عربياً كان أو غير عربي مليء بذم الحرب واستكبار القوى العظمى في العالم وطغيانها ،  وفي المقابل مليء أيضاً بتصوير مدى هزيمتنا الحضارية كمسلمين وخنوعنا تجاه هذا " الظلم العالمي الجديد " أو " الظلم بلا حدود " أو " النسر المغرور ". . .
وقبل أن نلج في عالم قصيدة ( القنبلة الذرية ) للشاعر محمد سعيد الخنيزي ؛ يحسن بنا أن نقرأ القصيدة أولاً لنهيء أنفسنا ومن ثم ندخل في عالمها موضحين أهم المحاور التي ارتكزت عليه ورسالتها التي تريد تبليغها والخطاب الثقافي الذي يريد أن يوجهه الشاعر للمتلقين. . .
القصيدة : 
هبط الزوجانِ للملجإ في  ليلٍ  عكِرْ           عندما جلجلَ إنذارٌ يُناديْ  بالخطرْ

فجّروها ذرَّةً  منْ  أمرِ  شيطانٍ  أشِرْ          فإذا  الدُّنيا  لهيبٌ  وجحيمٌ  يستعِرْ

وإذا  الزّرعُ  حطامٌ  ،  لا  ترى  منهُ  أثَرْ          وإذا  العالمُ  شلوٌ  ضائعٌ  بينَ  الحُفَرْ

كلُّ شيءٍ ماتَ  مِنْ  جرَّائها  حتّى  الحجَرْ          قد هَمتْ  منْ أعينِ  الآفاقِ  موجاتُ  مطرْ

وإذا  الدنيا   تراءتْ  قبساتٍ  منْ  شررْ          فإذا  الدنيا  شتاءٌ  نوويٌّ  ينتشرْ

لا يُطاقُ  العيشُ  فيهِ  لا  ولا  دنيا  مقرْ          لوّث الإشعاعُ منها  ما تبقى  منْ  صَخَرْ

خرجَ الزوجانِ بعد اليأسِ منْ موتٍ زُؤامْ          يطلبان الأكلَ في لهفةِ صبٍّ  مستهامْ

نظَرا للأرضِ؛إنّ الأرضَ عادتْ  كالحطامْ          لا زروعٌ  لا مياهٌ  غيرُ  أشباحِ  الأكامْ

لا طعامٌ يأكلانِ ، غيرَ  ماءٍ  منْ  حِمامْ          شربا  منْ  مطرِ  الذّرةِ ظنَّا  بالسّلامْ

شربا  كي  يطفآ الحرَّ  لقلبٍ  منْ  أُوامْ          صرخا: ماذا نحسُّ ؟ أي شيءٍ في  العظامْ

فهوى الزّوجانِ للأرضِ عناقاً في الرُّغامْ          أسلما الرُّوحَ وماتا في  ضبابٍ منْ

قصةُ  الذّرةِ  تدميرُ بقاءٍ  للوجودْ                 فحياةُ الناسِ أخطارٌ  من العلمِ الجديدْ

يهلكُ الحرثُ مع النسلِ بأمرٍ  منْ  عنيدْ          فوقَ أحلامِ سريرٍ، بين كأسٍ ، بينَ  غيدْ

فوق حرباتِ  جنودٍ  عنده  مثلُ  العبيدْ            حرَقَ الدنيا ليبقى وسطَ عيشٍ منْ  رغيدْ

ليس يدري سوف يصلى نارها ذاتَ الوقودْ        فإذا الآمرُ بالذّرةِ شلوٌ من جليدْ

يبسَ الملكُ على التّاجِ  كأغصانِ  الورودْ         إنّها  مأساةُ  إجرامٍ  لمغرورٍ  حقودْ
لقد قسّم الشاعر قصيدته إلى ثلاثة أدوار كل دور أخذ قافية مستقلة وهو أحد أساليب الشعر الحديث التي درج عليها الكثير من شعراء النهضة المعاصرة.
لقد بدأ الشاعر الدور الأول من القصيدة بمشهد عن الزوجين وهما يهبطان في أحد الملاجئ تحت الأرض ليقيهم ويلات الحرب والدمار القادم (هبط الزوجانِ للملجإ ،  في  ليلٍ  عكِرْ  )؛  وقد كان ذلك الليل عكِراً على جميع اليابانيين وقتئذٍ إن لم يكن عكراً على جميع شعوب العالم وهم يتابعون أخبار الحرب في ذلك الوقت ، واستخدم الشاعر لفظة عكِر ووصف بها الليل والعرب يصفون الليل بالعكر إذا  " اشتدّ سواده واختلط والتبس ؛ قال رؤبة :
و أعْسِف  الليلَ  إذا  اللَّيْلُ  اعْتَكَرْ
وقال عبد الملك بن عمير : عاد عمرو بن حُريث أبا العُريان الأسدي فقال له : كيف تجدك؟ فأنشده :
" تقارُبُ المشْي وسُوءٌ في  البصَرْ وكثرةٌ  النسيانِ فيما  يُدَّكَرْ" "وقلّةُ النومِ، إذا  الليلُ  اعتَكَرْوتَركِيَ  الحَسناءَ في  قُبْل  الطُّهَرْ "  
فلفظة عَكر جاءت هنا صفة لليل المشئوم الذي وقعت فيه الكارثة الإنسانية الكبيرة لتناسبها والمقام الذي يتحدث عنه الشاعر،  كما يمكننا أن نصف مزاج الإنسان ونفسيته بهذه الصفة أيضاً فنقول فلانٌ مزاجه عكِر أو متعكِّر أي مختلط وغير متثبت أو مستقر على حسْنِ الحال،  وهنا أيضاً أصبح طعم الدنيا عكراً لدى جميع البشر بسبب ما بثّه شبح الحرب من الرعب والخوف ،  حيث جلجل الإنذار بقدوم الخطر الأمريكي ،  ولأن الحدث المفجع كان سريعاً نلاحظ أن الشاعر ينتقل مباشرة إلى مشهد الانفجار الذري الهائل المروّع ويستخدم الفعل الماضي - باعتبار الشاعر ينشئ خبراً ونصاً عن كارثة حلّت وانتهت - ( فجّر )  ويقرنه بواو الجماعة والضمير العائد على القنبلة الذرية فيقول ( فجّروها ) أي أن اللذين قاموا بتفجيرها هم جماعة كبيرة من أعداء الإنسانية في هذه الأرض ،  من اللذين استكبروا في الأرض وعلوا علواً كبيراً ،  ثم يعقب الشاعر بقوله ( من أمرِ شيطانٍ أشر ) وبالفعل لقد أُطلق هذا المسمى على أمريكا فيما بعد منذ عام 1997م, ولازالت تُسمى بهذا الاسم.. إلا أن الشاعر أراد بقوله ( من أمر شيطان أشر) أي من غواية الشيطان لبني الإنسان،  ثم يتابع الشاعر مكرراً ( إذا ) الفجائية حيث بدأ بحرف الفاء وهي حرف يفيد التتابع حيث أنه بمجرد حدوث الانفجار فإذا بالدنيا تتحول إلى لهيب وجحيم يستعر؛  ويكرر ( إذا ) مرة ثانية زيادة في التفصيل حيث الزرع يتحول إلى حطام لا يُرى له من اثر، ويكرر ( إذا ) مرة ثالثة حيث يعمم هذه الفاجعة على العالم الذي تحوّل إلى شلوٍ ضائع بين الحفر والمقصود بالعالم إي مدار أفق مدينتي هيروشيما وناكازاكي بالطبع.. ثم يستوعب الشاعر بلفظة ( كل ) ليلخّص حجم المأساة بعد أن فصّلها نوعاً ما في الأبيات السابقة، بل ويزيد من المبالغة عندما يشمل الموت كل شيء حتى الحجر وهو جماد ومع ذلك شمله الذبول والتصدّع،  ونلاحظ أن الدور الأول من القصيدة ينقسم إلى مشهدين:
 - المشهد الأول : الهروب من الخطر إلى الملاجئ ..
- المشهد الثاني : سقوط القنبلة الذرية وتدميرها للطبيعة والعمران والإنسان ..
أما الدور الثاني من القصيدة فيصور لنا الشاعر مشهد خروج الزوجين من الملجأ حيث أنهما بعد أن خرجا وبعد أن طالت إقامتهما فيه أخذ الجوع والعطش منهما كل مأخذ وقد يئسا من الحياة ، وما أن خرجا حتى أخذا يطلبان الأكل والشرب في لهفة شديدة شبّهها الشاعر بوجه من الوجوه بلهفة الصب المستهام أي المحب العاشق حيث استعار صفة شدة لهفة المحب المستهام إلى حبيبه ،  وقد نظرا للأرض من حولهما فإذا بهما بجدان الحطام في كل مكان ،  والشاعر يستخدم حرف التوكيد والنصب ( إنَّ ) لتأكيد حصول الدمار حيث يقول ( إن الأرضَ عادت كالحطام ) وقد شبّه الشاعر الأرض بالحطام مستخدماً إحدى أدوات التشبيه وهي ( الكاف )، والحطام للأرض أو الزرع تعبيرٌ قرآني ، قال تعالى  )  ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكهُ ينابيعَ في الأرضِ ثم يُخرجُ به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيجُ فتراهُ مصفرّاً ثم يجعلهُ حطاماً إن في ذلك لَذكرى لأُولي الألباب(   وقال تعالى  ) أفرأيتم ما تحرثون ، ء أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ، لو نشاء لجعلناهُ حطاماً فظلتم تفكّهون (   وقال تعالى )… ثم يهيج فتراهُ مصفرّاً ثم يكون حطاماً… وفي قول الشاعر: ( لا زروع لا مياه غير أشباح الأكام ) يستخدم الشاعر أسلوب الذم بما يشبه المدح حيث أن المتلقي ينتظر بأداة الاستثناء ( غير ) شيئاً  يستثني به الشاعر ما حل بالأرضِ من دمار وإذا به يفاجئنا أيضاً بذمٍّ  آخر حيث يضيف تعبيراً جديداً لصورة الدمار الذي خلّفته الحرب فلا زروع ولا مياه  إضافة إلى ذلك تخيّم أشباح الرعب والخوف في آكام المكان ونواحيه ؛  ويستخدم الشاعر ذات الأسلوب أيضاً في البيت الذي يليه ( لا طعام يأكلان ، غير ماءٍ من حِمام ) حيث أضاف الحمام وهو الموت إلى الماء مشكّلاً بذلك عبارة استعارية حيث لا يوجد في الطبيعة ماء الحِمَام فالماء دائماً يقرن بالحياة والقرآن الكريم قرنه بذلك في الآية القائلة    )  وجعلنا من الماءِ كل شيء حي (   ثم ينتقل إلى اللحظات الأخيرة من مأساة هذين الزوجين عندما شربا من ماء المطر المتساقط والملوّث بإشعاعات الانفجار الذري وقد شربا ظنّاً منهما أن سينجيان من الموت ولكنهما صرخا لفرط ما أثّر فيهما هذا الماء الملوّث القاتل وهويا إلى الأرض و ( أسلما الروح وماتا في ضباب من قتامْ ) ..
أما الدور الثالث من القصيدة فإن صوت الشاعر - الراوي - هو الذي يبرز من خلال النص حيث يعلّق على قصة هذه المأساة الإنسانية بقوله ( قصة الذّرةِ .. تدميرُ بقاءٍ للوجودْ ) لأن المستكبر الأمريكي استخدمها ضد الوجود البشري ويعلل الشاعر ذلك بقوله ( فحياة الناس أخطارٌ من العلم الجديدْ ) فالعلم كما يقال سلاحٌ ذو حدّين : حدٌّ  للخير وحدٌّ للشر ،  وقد استخدم المستكبرون في الأرض حدّ الشر فيهلكون الحرث والنسل معاندين ومتعالين من أجل تحقيق مآربهم الدنيوية ومصالحهم المادية ( يهلك الحرثُ مع النسلِ بأمرٍ من عنيدْ ) وإهلاك الحرث والنسل مقرون بالفساد في الأرض و ذُكر ذلك في القرآن الكريم   )  وإذا تولّى سعى في الأرضِ ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسلَ والله لا يحب الفساد ( - البقرة 205- ،  أما صفة العناد التي أشار لها الشاعر في هذا البيت فهي إما أن تكون عائدة على القيادة المعتدية أو عائدة إلى الشيطان فهو من صفاته العناد أيضاً ؛  وهو مصداق من مصاديق الآية القرآنية  ) وتلك عادٌ جحدوا بآيات ربهم وعصوا رُسُلَهُ واتّبعوا أمر كلِّ جبارٍ عنيد( - هود 59 -  أو عائدة إلى الشيطان فهو من صفاته العناد أيضاً ،  والعناد من أبرز صفات الكافرين حيث قرَن الله سبحانه وتعالى الكفر بالعناد بقوله عزّ وجل ( ألقيا في جهنّمَ كلّ كفّارٍ عنيد ، منّاع للخير معتدٍ أثيم ) - ق 24-25- ، كما أن العناد من معانيه الإعراض والجحود بآيات الله ( كلا إنَّه كان لآياتنا عنيدا ) - المدثر 16-  ..
ويصوّر الشاعر الطاغية وكأنّه سلطان زمانه - كما يعبّرون - يجلس على سرير ملكه يكرع من الخمور ما لذّ له ويداعب الغيد الحسان  ( فوق أحلامِ سريرٍ بين كأسٍ .. بين غيدْ ) هذا من جهة الإنصراف إلى الشهوات واللّذات الدنيوية والانغماس فيها ، ومن جهة أخرى يحمي نفسه بجيوش مجيّشة ( فوق حرباتِ جنودٍ عنده مثل العبيد ) فهذه الجيوش عبيد عنده رضت بذلك أم لم ترضى وقد شبّهها الشاعر بالعبيد مستخدماً أداة التشبيه ( مثل ) للمقابلة والمماثلة بين أشخاص الجنود وأشخاص العبيد وتشابههم في تلقي الأوامر من دون أي كلام وكأنّهم مسلوبي الإرادة ،  وهذا هو واقع الجيوش التي يحكمها الطغاة عبر العصور ،  والشاعر هنا يصور مدى تسلط الطغاة على قوة الجيش لا لأجل تحقيق العدالة والحفاظ على الأمن الحقيقي والسلام لشعبه وإنما لأجل الحفاظ على مصلحته الدنيوية وهو على أتم الاستعداد لحرق الدنيا بما فيها من أجل الحفاظ على مصلحته هو وعرشه وما يحيط به من الملذات وهناء العيش (  حرق الدنيا ليبقى وسط عيشٍ منْ رغيدْ ) ولكن النتيجة أنّ الطغاة عادة ما يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأنهم حتماً يرمون أنفسهم إلى قعر جهنّم إن عاجلاً أو آجلا ( ليس يدري سوف يصلى نارها ذات الوقودْ ) ، وهنا نلاحظ اقتباس الشاعر بالتعبيرات القرآنية كما في سورة البروج ) النارُ ذات الوقود(- البروج 5 - ( فإذا الآمر بالذّرة شلوٌ من جليدْ ) يعبر الشاعر هنا بلفظة الجليد أي السكون والتجمّد فحركات الطاغية تصبح مشلولة فلا قولٌ ولا فعلٌ ولا بطشٌ وإنّما انقياد تام واستسلام لمن بيده زمام أمره في عالم الجزاء والعذاب ،  فلا ملك لديه ولا إمارة ولا رئاسة ولا زعامة ولا تحكّم ولا سلطان فلقد (  يبِس الملكُ على التاجِ كأغصانِ الورودْ ) ، ( إنّها مأساةُ إجرامٍ لمغرورٍ حقود ) فالغرور أدى بالطغاةِ إلى مصيرهم الحتمي الذي رسمه لهم الشيطان )  لَعَنَهُ اللهُ وقال لأتّخِذَن من عبادك نصيباً مفروضا ؛  ولأُضِلَّنَّهمْ ولأمرنَّهم فليُبتِّكُنَّ ءَ اذان الأنعامِ ولأمُدَّنَّهم فليغيِرُنَّ خَلقَ اللهِ ومنْ يتخذْ الشيطان ولياً من دون اللهِ فقد خسِر خسراناً مبينا ؛  يعدهم ويُمنّيهمْ وما يعدهمْ الشيطان إلا غرورا (   - النساء  118،119،120،121.
نلاحظ أن الشاعر في القصيدة اتخذ أسلوب السرد القصصي أو المسرحي حيث يبدأ قصيدته بمشهدٍ يتصوّره المتلقي في مخيلته وينتقل الشاعر من مشهدٍ إلى آخر في ثلاثة أدوار ( مشهد اللجوء إلى الملاجئ - مشهد الانفجار وما خلّفه من الكارثة الإنسانية العظمى - مشهد بقايا الأحياء وهم يموتون بسبب ماء الموت الذي لوّثته وسمّمته الإشعاعات الذرية - ثم صوت الشاعر - الراوي - يختم فيها النص )  ،  وهذا الأسلوب اتّخذه الشاعر في عدة قصائد من شعره ولكنه لم يكثر أو يتخصص في هذا المضمار ولو أكثر وأنتج مطولات شعرية قصصية أو مسرحية لأجاد في ذلك لامتلاكه كافة المقومات التي نلمسها في هذه القصيدة ومثيلاتها " مأساة إنسانية " " المعبود الثاني " وغيرها .. كما لاحظنا تأثير الثقافة الإسلامية متمثلة في النص القرآني على الشاعر وتعبيراته في النص ..
الهوامش :
القرآن الكريم - آية 216
الجبوري . يحيى ، الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه ، ص 47-48- ط 8-1418هـ 1997م ،
الزوزني ، أبي عبد الله الحسين بن أحمد ، شرح المعلقات السبع ، الدار العالمية ، بيروت ط 1413هـ،1993م ص 71

الزوزني ، أبي عبد الله الحسين بن أحمد ، شرح المعلقات السبع ، الدار العالمية ، بيروت ط 1413هـ،1993م ص 78

الزوزني ، أبي عبد الله الحسين بن أحمد ، شرح المعلقات السبع ، الدار العالمية ، بيروت ط 1413هـ،1993م ص 78-79

الخنيزي ، محمد سعيد - شمس بلا أُفق ، شعر ، الدار العالمية ، ط 1 ، 1406هـ 1986م ص 93

الخنيزي ، محمد سعيد - شمس بلا أُفق ، شعر ، الدار العالمية ، ط 1 ، 1406هـ 1986م ص 115

الخنيزي ، محمد سعيد - مدينة الدراري ، شعر ، مطابع الرياض ، الدمام ، ط 1 ، 1414هـ 1993م ص 99
الخنيزي ، محمد سعيد - مدينة الدراري ، شعر ، مطابع الرياض ، الدمام ، ط 1 ، 1414هـ 1993م ص 101

الخنيزي ، محمد سعيد - مدينة الدراري ، شعر ، مطابع الرياض ، الدمام ، ط 1 ، 1414هـ 1993م ص 125

الخنيزي ، محمد سعيد - مدينة الدراري ، شعر ، مطابع الرياض ، الدمام ، ط 1 ، 1414هـ 1993م ص 101،102

ابن منظور ؛ أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم - لسان العرب - ج 4 دار صادر ط 1412هـ 1992م ص 600

القرآن الكريم - الزمر 21

القرآن الكريم - الواقعة من 63 إلى  65

القرآن الكريم - الحديد  20