|
(1)
ما الذي يجري في تركيا هذه الايام ؟؟ وما هو السياق
الذي تأتي فيه عمليات الاقتحام المسلح للسجون ؟؟ الاجابة على هذين السؤالين
وغيرهما من الاسئلة التي تدور حول مجريات الاحداث على الساحة التركية تستدعي
الغوص في تفاصيل المشكلة التي تعاني منها الدولة التي كانت في يوم من الايام
قائدة العالم الإسلامي الممتد من طنجة الى جاكارتا .
المقالات التالية ستحاول البحث في اصل القضية والتي تحمل عنوانا كبيرا هو
البحث عن الهوية . وتحاول وضع اليد على تفاصيل مهمة تقف خلف الخلل الهائل
الذي تعاني منه المجتمعات التركية الحديثة ، فمنذ مطلع القرن العشرين شهدت
تركيا تحولات دراماتيكية لم يسبق لها مثيل ، واخذت المؤسستان العسكرية
والسياسية تبحثان عن مخرج جوهري ومثالي من حالة الضعف التي وصلت اليها البلاد
او بالاحرى الامبراطورية العثمانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس لامتدادها
الجغرافي العميق .
لقد تمكنت ثلة من العسكر وعلى راسهم القائد كمال اتاتورك من احكام السيطرة
على مقدرات الامبراطورية واخرجوها منة سياقها الدولي والاقليمي ودفعوا بها
لأن تكون دولة من دول المنطقة تتقوقع على ذاتها تحت ذرائع شتى منها انها لم
تعد قادرة على القيام بمتطلبات الخلافة الاسلامية المترامية الاطراف التي
كانت توصف حينها ب "الرجل المريض" ، وان الإسلام الذي تعتنقه شعوب الاناضول
هو السبب في تخلفهم وانحطاطهم وتاخرهم عن الركب الحضاري الذي كانت تتنعم فيه
الدول الاوروبية الخارجة للتو من عصور الظلام ، وتمكن اتاتورك من خلال الدعم
الخارجي وخاصة البريطاني من احكام السيطرة على مقاليد الامور في اسلام بول (
استانبول ) .
بدا اتاتورك غير معروف النسب، اليوناني الاصل، السالونيكي المولد بتطبيق
نظريته الجديدة التي ملخصها البحث عن هوية جديدة او عن تعريف جديد لتركيا
وليس للدولة العثمانية ، واخذ بتنفيذ خطة استغرقت بضع سنين ليضع تركيا على
قائمة الدول المتحضرة ، تركيا التي اراد لها ان تكون اوروبية غربية القلب
والقالب ، فهل تمكن من ان ينتزع اعترافا اوروبيا رسميا به ، يتثبت من خلاله
انه لم يعد له أي علاقة بالشرق المسلم المتخلف ؟؟
اعلن اتاتورك الحرب على الإسلام ومظاهره وعلى اللغة العربية وما يترتب عليها
، فاختار صفوة العلماء وامر باعدامهم ، ومنع ألآذان وحوله الى اللغة التركية
، ومنع الكتابة بالاحرف العربية وغيرها جميعا الى اللاتينية ، واصدر فرمانا
يقضي بمعاقبة كل من يتكلم العربية في الدولة التركية ، وامر افراد
الشعب بارتداء القبعات الغربية بدل العمامات الاسلامية ، واخذ بمضايقة كل
الافراد الذين يبدون توجهات دينية ، وامر النساء بخلع الحجاب وغيرها من
الممارسات التي لا يتسع المقام لذكرها .
المهم في كل ما جرى ان الدولة العثمانية تحولت الى الجمهورية التركية برئاسة
كمال اتاتورك ، ولم تعد البلاد بعد العام 1923 لها اية علاقة خارجية بمحيطها
العربي والاسلامي ، وتم تنفيذ الارادة الاوروبية على احسن وجه ، فهل اقتنعت
المجوعة الاوروبية التي كان يقودها البريطانيون والفرنسيون بما فعله
اتاتورك ؟ ام ان الامور بقيت على حالها ، وطالبوا اتاتورك بالمزيد ؟؟
الحقيقة ان اتاتورك لم يعمد الى الغاء الهوية الاسلامية لتركيا برغبة من دول
الاستعمار فقط وانما من منطلقات شخصية ، إذ ان وجوده في محاضن المشردين
واللقطاء القت بظلالها على تربيته اليونانية التي كانت تكن الحقد التاريخي
للعثمانيين ومن بعدهم الاتراك ، وتلقى اتاتورك في محاضن التربية السالونيكية
كل اشكال الاحتقار للعرب والمسلمين الذين كانوا حينها بلا حول منهم ولا قوة
وكانت غالبية الدول العربية تقع تحت سيطرة الاستعمار الغربي بكل اشكاله
.. فماذا فعلت المؤسسة التركية الاتاتوركية لتفوز برضى الاوروبيين ؟؟
ازدادت الحملة على البقية الباقية من مظاهر التدين الذي كان في الرمق الاخير
، وبدات حملة منظمة على تشويه الحقائق الدينية وايجاد حالة من انفصام الشخصية
لدى الشباب التركي الذي لم يعد يعرف بالضبط من هو ولا ما هي هويته الحقيقية
ولا الى أي الامم ينتمي !!
وكان العمل ضد التدين ياخذ اشكالا مدروسة ، فمثلا بنيت دور الدعارة جنبا الى
جنب مع المساجد ، لدرجة ان المكانين لم يكن يفصلهما سوى جدار ، ولكم ان
تتخيلوا شابا ياتي الى المسجد ليصلي احد الفروض ويمر قبل ذلك من امام بيت
الدعارة ( الكرخانة بالتركية ) ، ومثال آخر هو تحويل غالبية البقالات الى
خمارات تبيع المشروبات الكحولية ، وفرض اجواء من الابتهاج تستمر لمدة اسبوعين
بمناسبة حلول اعياد الميلاد وراس السنة الميلادية في الوقت الذي تنعدم فيه
هذه المظاهر وتمنع في عيدي الفطر والاضحى ، اضف الى ذلك ان العطلة الاسبوعية
تحولت من يوم الجمعة الى يومي السبت والاحد ، ولم يعط الناس الفرصة لاداء
صلاة الجمعة واعتبروها تعطيلا للعمل ، وغيرها الكثير من الممارسات التي اقل
ما يقال فيها انها تغريبية ،تخلع المجتمع التركي برمته من جذوره التاريخية
والدينية لتضعه في مصاف او حضيض التاريخ الغربي او هكذا كانت المحاولة ، فهل
قبلها الاوروبيون اوهل تنازل الاوربيون عن كبريائهم ورضوا بما فعله الاتراك
من اجل عيون اوروبا ليصبحوا منها ؟؟ وهل ما فعله اتاتورك وخلفائه بالاتراك
كان كافيا لازالة الحقد التاريخي الدفين على الدولة !
العثمانية التي وصلت الى جبال البرانس غربا ومعظم دول اوروبا الشرقية
؟؟ هذا ما نحاول الاجابة عليه في المقال القادم .
(2)
انتهت الحرب العالمية الثانية ولم تظفر تركيا باعتراف
احد من المنظومة الاوروبية ، ولان خارطة القوى السياسية والعسكرية العالمية
تغيرت نتيجة لتغير ميزان القوى ، فقد لجأت تركيا التي رفعت شعار العلمانية
الى الولايات المتحدة الامريكية وقدمت لها فروض الطاعة والولاء ، وحاولت من
خلال خدماتها التي قدمتها لواشنطن ان تستفيد من الوضع الدولي الجديد وتنتزع
اعترافا اوروبيا بها الا انها باءت بالفشل الذريع .
ووقعت تركيا تحت سطوة الابتزاز الامريكي ، ففتحت لها ابوابها من جميع
الاتجاهات ، واصبحت الاراضي التركية مستباحة للقوات الامريكية التي انتشرت في
المدن التركية وزرعت فيها ما لا يقل عن سع وعشرين قاعدة عسكرية ، واصبحت
تركيا ذراع الولايات المتحدة الامريكية المتقدم في المنطقة ، واداة تستخدم
لوقف التغلغل الشيوعي في دول الجوار سواء كانت الدول العربية او الدول
الاوروبية ، كما ان تركيا تحولت الى دولة مراقبة وتجسس على المنظومة
الاشتراكية ، واصبح الامريكي هو الحاكم بامره الحقيقي في تركيا وانتشر الجيش
الامريكي بكل قطاعاته على مساحة الجغرافية الاناضولية ، واوجدوا دولة لهم
داخل الدولة ، لدرجة ان الامريكان كانت لهم اسواقهم التي يبتاعون منها
حاجياتهم وبالدولار الامريكي ، واصبحت لهم مدارسهم ، حتى ان امريكا فتحت
جامعة خاصة لتعليم ابناء القوات الامريكية العاملين في تركيا وابناء
المخابرات الامريكية العاملين في الشرق الاوسط واطلقوا عليها اسم جامعة الشرق
الاوسط الفنية والتي ما زالت لغاية الآن في العاصمة التركية انقرة الا انها
لم تعد امريكية الا في المناهج الدراسية بعد ان تمكن اليسار التركي من احكام
سي!
طرته عليها مطلع السبعينات .
ولم تيأس الحكومات التركية المتعاقبة من التودد للغرب الاوروبي والامريكي من
اجل الانضمام الى ما صار يعرف لاحقا بالاتحاد الاوروبي ، وكان الرفض سيد
الموقف ، إذ ان الأفكار الشيوعية واليسارية امتدت عبر الحدود الشمالية
التركية واخترقت حواجز المنع الامني وصارت فئة من الاتراك تبحث عن الهوية في
الطرح الاممي الذي بشرت به الماركسية اللينيية ، وانتشرت الاحزاب السرية
واخذت تلعب دورا هاما وحيويا في التحول الفكري الذي بات الشغل الشاغل للشباب
التركي الذي لا يعرف من هو ولا الى ماذا ينتمي . واخذت المواجهات بين اليسار
التركي تأخذ طابعا عنيفا ، إذ ان المؤسسة العسكرية المسيطرة على مقاليد
الامور في البلاد لم تاخذ بعين الاعتبار التغيرات على الساحة الدولية بعين
الاعتبار ، وكان همها الوحديد هو القضاء على مظاهر التدين في المجتمع التركي
، واصبحت البلاد في مطلع الستينات تدين بالولاء للسيطرة اليسارية ، الامر
الذي دفع بالدول الغربية وعلى راسها الولايات المتحدة التي تمتلك قواعد لها
لم تمتلك في أي دولة في العالم مثلها دفعه بها الى دق نوقيس الخطر من التمدد
الشيوعي الذي اصاب تركيا في الصميم ، فقامت بتحريك العسك!
ر الذين يدينون بالولاء لمبادئ اتاتورك العلمانية ، وبادروا الى استلام زمام
الامور عن طريق انقلاب عسكري بسطوا من خلاله سيطرتهم على مقاليد الامور في
البلاد ، واعدموا رئيس الحكومة آنذاك ( مندريس ) وفرضوا الاحكام العرفية على
البلاد ، وتم اعتقال الآف المؤلفة من قيادات الاحزاب الشيوعية وافاردها واعدم
العشرات منهم ، واختفت آثار البعض الآخر ، ولم يعد يجرؤ احد على التعبير عن
فكره او معتقده ، واستمرت الحالة هذه عدة سنوات انعكست على الاوضاع
الاقتصادية للبلاد التي اخذت بالتأزم ، مما حدا بالمؤسسة العسكرية التي تخفيف
القيود على حرية المواطنين في الحركة والتعبير ، وبدات مظاهر الاحتقان
السائدة في المجتمع الى اخذ اشكال متنوعة من الرفض لما يجري على الساحة ،
وبدأت بوادر تيار الإسلام السياسي بالظهور الى العلن من جديد ، اضافة الى
المد القومي .
ومع كل ذلك ، ورغم احكام العسكر قبضتهم على مقاليد الامور فيما بعد الا ان
اوروبا ما زالت ترفض ضم تركيا اليها . وهنا يبرز سؤال كبير ومهم : لماذا كل
هذا التعنت الغربي اتجاه تركيا التي قدمت لهم من خلال المؤسسة الحاكمة كل ما
يريدونه منها ؟؟ المقال التالي يحاول الاجابة على هذا التساؤل .
(3)
لا شك ان الزمرة الحاكمة في انقرة ترغب في تغريب البلاد ولا شك ان الرغبة في
التخلص من عبْ الماضي ما زال يراود الكثيرين من اصحاب القرار ، الا ان الغرب
الاوروبي المسيحي لم ينس بعد الحكم التركي الذي امتد اليهم وفي عقر دارهم ،
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لا يرغب الاوربيون ان تصبح تركيا واحدة من منظومة
الاتحاد الاوروبي لسبب نفسي آخر هو ان الانفتاح الذي شهده المجتمع التركي
وادى الى هجرة الملايين من الاتراك طلبا للحياة الرغيدة في الدول الاوروبية
التي بشر بها القادة الاتراك وارادوا نقلها الى بلادهم ، هذا الاحتكاك
المباشر مع الاتراك اوجد حالة من الحواجز النفسية دفعت بالاوروبيين الى
التشدد اكثر واكثر في رفض انضمام تركيا اليهم ، إذ ان غالبية الاتراك الذين
هاجروا الى بريطانيا والمانيا وفرنسا كانوا من الطبقة غير المتعلمة او
المثقفة ، وكانت المجتمعات الاوروبية التي ارتقت مدنيا تعاني نقصا حادا في
الوظائف الدونية التي لا تحتاج الى علم وثقافة فكان الحل الامثل هو القبول
بالاتراك في اعمال التنظيف والاعمال التي تحتاج الى مجهود عضلي مثل اعمال
البناء او الاعمال التي تتسم بالقسوة مثل اعمال المناجم والفح!
م وغيرها مما اعطى انطباعا لدى الاوروبيين ان هؤلاء يمثلون الوجه الحقيقي
للاتراك ، وانهم شعب متخلف مثلهم مثل الدول الشرق اوسطية الاخرى او الدول
الافريقية التي تعاني التخلف والحرمان والمرض والجوع .
وكان لوسائل الاعلام الغربية وحتى التركية دور في نقل الصورة المشوهة عن
الاتراك للمجتمع الغربي ، فمن يقف خلف هذه الوسائل ؟؟ ان الاجابة على هذا
السؤال يمكن ان نتعرف عليها اذا علمنا اكبر عشر صحف يومية والاكثر مقروئية في
تركيا يمتلكها يهود حتى ان الصحيفة اليسارية الوحيدة واسمها ( جمهوريات)
يمتلكها يهودي حسب تقرير موسع نشرته مجلة العربي الكويتية في السبيعينات ،
ولليهود دور تخريبي تدميري كما العهد بهم في كل المجتمعات التي عاشوا .
ان الاعداد الحقيقية لليهود في تركيا تقل عن واحد في الالف وهم فقط بعشرات
الالاف ، ووجودهم في المجتمع التركي غير منظور لدرجة ان الاعتقاد يذهب بالبعض
الى عدم وجود يهود في تركيا ، وهذه القلة في اعداد اليهود سببها الخلافة
الاسلامية التي كانت تتخذ من اسلام بول مقرا لها ، ولان اليهود يتصفون بالجبن
فقد عملوا على ترك البلاد او التظاهر بانهم دخلوا في الدين الإسلامي ، وهؤلاء
هم الذين يعرفون بيهود الدونمة أي الذين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ،
وهؤلاء كان لهم الاثر الاكبر في انهيار الخلافة العثمانية ، ودعم كمال
اتاتورك والتبشير بالنهج العلماني وحتي الدفع بالشباب التركي الى اعتناق
الشيوعية في محاولة منهم لابعادهم عن الدين الإسلامي .
ويتميز اليهود الاتراك بانهم يسيطرون على الاقتصاد والاعلام والعسكر، اضافة
الى سيطرتهم المطلقة على اسواق المال ، ومن خلال هذه المؤسسات بسط اليهود
نفوذهم على مقاليد الامور لكنهم كانوا اذكى من ان يظهروا في الصورة ، وكانوا
باستمرار يمررون مخططاتهم من خلال القيادات الفكرية والسياسية والاعلامية في
البلاد ، يحوهم هدف واحد كبير هو الابقاء على تركيا ضعيفة ، مهيضة الجناح ،
تمثل آخر رموز التخلف الذي تسبب به الإسلام للبشرية ، ومن خلال الحكام
الاتراك الذين استلموا زمام الامور في البلاد بعد انهيار الخلافة الاسمية
بدءا من اتاتورك تمكن اليهود من ايجاد موطئ قدم لهم في فلسطين ، وحكايتهم مع
السلطان عنبد الحميد الثاني الذي رفض السماح لليهود باقتطاع أي جزء من فلسطين
وما جرى له بعد ذلك من نفي وابعاد جراء موقفه المشرف ليست بعيدة عن مسامع
القراء الكرام .
ان تحالف الاعلام الغربي مع الاعلام التركي غير المقدس المسيطر عليهما من
اليهود مكنهم من اعطاء صورة عن التركي في المخيلة الجمعية لاوروبا ، فالتركي
: همجي ، شرس ، متخلف ، بدائي ، غوغائي ، عنيد ، جهول ، محب لشهوتي الفرج
والبطن ، حيواني، ميتافيزيقي ، تلك كانت الصورة والتي ما زالت على حالها مع
تغيير طفيف لا يرقى الى مستوى ازالة كل التراكمات المعششة في الذهنية
الاوروبية تجاه الاتراك ، بمعنى ان التغير المحدود الذي طرا على الاوروبيون
لم يكن كافيا لتغيير الطورة او استبداها بالكامل ، ومن هنا ما زال الغرب
الاوروبي يطرف انضمام تركيا اليهم ، وبالطبع هنالك اسباب أخرى لا يتسع المقال
لذكرها سنأتي عليها لاحقا .
(4)
في المباحثات التي يجريها المسؤولون الاتراك مع نظرائهم الاوربيون عند مناقشة
انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي يتم التركيز في ألآونة الاخيرة على ملفات
حقوق الانسان والديمقراطية ، ويؤكد الغربيون في كل مرة على المؤسسة الحاكمة
في انقرة سواء كانت المؤسسة العسكرية التي تدين بالولاء للعلمانية وللغرب على
حد سواء او المؤسسة المدنية السياسية التي تتهم دائما بانتهاكات خطيرة لحقوق
الانسان .
لكن هل الغرب جاد في مسألة الديمقراطية وحقوق الانسان ، وما موقفه اذا افرزت
الديمقراطية قيادات ترفض الانصياع لمتطلبات الغرب او اذا اسفرت اللعبة
الديمقراطية عن عودة قوية للاسلام السياسي ؟؟
الحقيقة ان المد الإسلامي الذي شهدته تركيا في مطلع التسعينات ، سبقه مد
يساري خلال فترة الستينات والبسبعينات واوائل الثمانينات، لكن المد اليساري
لم يكتب له النجاح لاسباب تتعلق بالتركيبة الداخلية للاحزاب نفسها اضافة الى
الانهيار المروع للاتحاد السوفييتي ، فكان ثمرة الانفتاح الديمقراطي
بالمواصفات الغربية وانهيار ميزان القوى لصالح الامبريالية العالمية بقيادة
امريكا عودة المد الإسلامي من جديد في محاولة لصياغة هوية تركيا انطلاقا من
ارثها الحضاري الضارب في اعماق التاريخ ، الامر الذي ادى الى الاكتساح الكبير
لحزب الرفاه بقيادة الزعيم التاريخي له البروفيسور نجم الدين اربكان ، الذي
شكل حكومة وطنية بالتحالف مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيلر ، الا ان
التجربة لم يكتب لها النجاح ، وبدأت الدوائر الغربية الاوروبية والامريكية
بالتحريض من جديد على حزب الرفاه الإسلامي وعلى اعضائه في البرلمان وعلى
رئيسه المنتخب اربكان ، ورفعت القضايا ضد شرعية الحزب وتحرك العسكر من جديد
كعادتهم بحجة حماية العلمانية الاتاتوركية التي يريد اربكان تحطيمها كما
يقولون، ودخل الحزب في متاهات المحاكم ، وحكم على زعيمه ب!
الحبس وقضت المحكمة بحل الحزب ، وحكمت ايضا على رؤساء بلديات من حزب الرفاه
بالحبس وعلى رأسهم رئيس بلدية استانبول ( اردوغان) ومنعت النائبة في البرلمان
التركي ( مروة قاوقجي ) التي انتخبها الشعب من الجلوس تحت القبة بحجة
التزامها بالحجاب الإسلامي الذي يمثل تهديدا للعلمانية التركية بزعمهم ،
وقالوا انها تحمل الجنسية الامريكية وان زوجها الفلسطيني اصولي من تنظيم حركة
المقاومة الاسلامية (حماس) وغبرها من الحجج التي تهدف بالدرجة الاولى اقصاء
الإسلام السياسي عن مسرح الحياة .
ان مطالبة تركيا بالديمقراطية وحقوق الانسان تصبح غير ذات قيمة اذا اسفرت هذه
المطالب عن تفوق نوعي لتيار الإسلام السياسي الذي عملت كل القوى الغربية
واليهودية والعلمانية على اقصائه ليس من الحياة فقط وانما من الوجود .
ان القيود التي تفرضها القيادة الحالية للبلاد على قوى المجتمع التركي
الاهلية تفوق كل الحدود والمعقول ، الامر الذي دفع بالاف السجناء اليساريين
وغير اليساريين الذين يقبعون في الحبس منذ سنوات وسنوات الى حالة التمرد التي
انفجرت في الايام القليلة الماضية ، وتزامنت هذه الحركة مع احتجاج من الإسلام
السياسي جاءت على شكل أحياء شهر رمضان لهذا العام بطريقة اعاد فيها الاتراك
ايام زمان من جديد ، فنصبوا الخيام الرمضانية واضاءوا الفوانيس ، وقاموا
ليالي رمضان بالصلاة والدعاء ، والتواصل بين افراد الشعب وخاصة بين الفقراء
والاغنياء في تمازج شعبي وجداني لم يسيق له مثيل ، ويقف وراء التحركات
الرمضانية تلك حزب الفضيلة الذي خلف الرفاه بعد قرار المحكمة بعدم دستورية
الاخير .
وما تزال تركيا تعيش على صفيح ساخن ، وما زال الشعب التركي يبحث عن هويته ،
وما زالت الحرب على الإسلام ومظاهر التدين مستمرة ، لان الاسس التي تقوم
عليها المؤسسة العسكرية ما زالت هي هي موروثة منذ عهد اتاتورك الهالك الذي لا
تزال العملة تصك حتى هذه الايام وتحمل صورته ولا احد يجرؤ على تغييرها والا
اتهم بالمروق ومعاداة الاتاتوركية التي اصبحت دينا يتعبد به من دون الله ،
ولا خلاص للاتراك الا بالتخلي عن هذا الموروث الذي لم ينسبهم الى الاوروبيين
ولم يحتفظ لهم بهويتهم الاسلامية ، وصارت حكايتهم مثل حكاية الغراب الذي قلد
النسر في مشيته. |