على شواطئك الولهى – سيدي يا أباعبدالله – ترسو سفائن
العشَّاق ... نعم ، على شطآنك المضمَّخة بعبير الخلود ونسيم الكبرياء، على
شطآنك الوثيرة – سيدي – تعبُّ منها عطر البقاء الزاكي، ومعاني النقاء الكبير
...
تتملَّى فيه أطياف العروج في سوح أمجاده الرحيبة ،
علَّها ترسم في مخيلتها شيئاً ولو كان بسيطاً من معاني العزة التي شيَّدتَ .
ولعمري كيف لها أن تستطيع أن تحيط بأطوادك الشامخة ورؤاك السامقة .
سيدي يا أباعبدالله ، يشطُّ بيَ الخيال قليلاً إلى بقاياً من خيام ، خيامٍ
كانتْ مشيَّدةً على ضفاف نهرٍ مُستلقٍ في أقاصي الصحراء ، نهرٍ أنهكته حرارة
الصحراء بهجيرها والشمس بقسوتها ، نهرٍ مازال يبكي بكاء الثكلى ، ولكن ،
علامَ يبكي ؟!! أيبكي حالة الوحدة التي تطبق عليه ؟ أم يبكي ما يعتريه من ضرٍ
و ألم ؟! أم يبكي ماذا ؟!
حاولتُ تقصي الحقيقة ، حتى دفعني الفضول إلى الاستفهام منه عن سبب كل هذا
البكاء المر ، الذي لا يصدر إلا من الثكالى ،فأخذت أنظر إليه عن كثب ثم قمتُ
بمناداته : أيها النهر ... أيها النهر – صرختُ بأعلى صوتي – أيها النهر،
علامَ تبكي ؟! كررت عليه سؤالي مراراً وتكراراً ، أرجوك ، أخبرني بحق السماء
، وبقيتُ أنتظر الجواب المدفون في أعماقه ، تلك الأعناق المتخمة بالخطيئة
والشعور بالذنب معاً ، ولكأني كنتُ أصرخ في الهواء !! إذ لا من مجيب .
وبعد برهة من الزمن ليست بالقصيرة ، إذا به ينتبه من نوبة البكاء التي اعترته
، وكأنه للتوِّ قد عرف بوجودي أمامه ، فأخذ يحدق في عينيَّ بوجهه الشاحب
الهزيل ، بطريقةٍ أشعرني من خلالها وكأنني من عالمٍ آخرٍ غيرِ هذا العالم ،
وكأني كائن غريب عنه لم يرَ مثله من قبل !! كررت عليه سؤالي مرةً أخرى ،
ولكني و بصُنعي هذا كأني فتحتُ عليه نافذة من جحيم البكاء ، نعم إذ بمجرد أن
أنهيتُ سؤالي انفجر بالبكاء من جديد ، وربما بشكل أكبر من السابق ، أخذتني
الحيرة مأخذاً عظيماً ، ياللعجب !!
ما حاله ؟!! وما عساه يكون السبب ، نعم ، ما سببُ كلِّ هذا البكاء الهستيري
الغريب ؟!!! شيء يبعث على الحيرة حقاً .
وكلما حاولتُ الحصول على إجابةٍ شافيةٍ لسؤالي لم أظفر بشيء .
عدتُ مرةً أخرى إلى بقايا الخيام التي أجهدتها النيران التي نشبت بأطرافها ،
فتفاررت مذعورةً في تلك الصحراء القاحلة ، محاولةً إطفاء ما نشب فيها من نار
، ولكن دون جدوى ، حتى سقطتْ أشلاءً على رمضاء الهجير .
أمعنتُ النظر قليلاً قليلاً ، ماذا أرى ؟!! عجباً ، إني أرى خيالاً لرجل
يتحدى بقامته العالية الإندثار ، وكأنه ( يقف على عظام كبريائه ).
طفقتُ أتخطى جثثَ الكبرياء الملقاة على الصعيد دون أن تنال من كبريائها
العتيد أنياب الضواري البائسة ، وأوهام أقزامٍ يمتطون جياداً من خشب ،
ويمتشقون سيوفاً من غبار ، تخطيتها متجهاً نحو ذلك ( الرجل / الخيال ) ،
ويالشدة دهشتي ! فهذا الرجل لا تستطيع قدمايَ أن تصل إلى مرتقاه ، وكأنه
سرابٌ يسخر مني ومن كل من يحاول الوصول إليه ، نال مني التعب ، توقفت عجلة
قوتي عن الدوران . فتوقفتُ عن المسير ...
ولكن دون أن أدرك له كنهاً ...
رجعت القهقري ، مثقلاً بأطنانٍ من الخيبة والعجب .
والآن، وبعد ما يربو على الأف عام ، وذلك النهر مازال يجري ، أو قُلْ : ما
زال يبكي بذات الحرقة التي كان عليها في تلك اللحظات التي إلتقيته فيها أول
مرة ، ولكني وبعد مضي كل هذه المدة لم أزدد إلا حيرة وعجباً ، ولكني أيضاً
وبعد طويل تأملٍ تعرفتُ على ما أعتقد أنه سببٌ لهذا البكاء ، نعم ، تعرفت على
شيء عنه ...
وتسألني عن سبب ذلك ؟؟ فأقول : نعم ، إن هذا النهر قد استُدرِج في ذلك اليوم
القائض من قِبَلِ رجالٍ هم حثالة الأرض وأرجاس الخليقة ، استُدرِج لغايةٍ هي
في غاية الخسَّة والدناءة ، ولكنه لم يكتشف الحقيقة إلا بعد فوات الأوان ،
لهذا تراه يبكي دائماً بغية التكفير عما بَدَرَ منه من خطايا .
أما ، أما إذا سألتني عن ( الرجل / الخيال ) وهذا ما يثير العجب حقاً ، فإني
لا أجانب الصواب مطلقاً إذا ما قلتُ لك بأنه كان الحقيقة ، نعم الحقيقة ، في
حين أنني كنت أنا الخيال ، وإذا كنت لم أستطع الوصول إليه في ذلك اليوم ،
فلأنه كان الوجود ، في حين كنتُ أنا العدم ، كان هو الحضور وكنتُ أنا الغياب
... ولا غرو في ذلك ، فهو الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) .
ولكن من أنا.. ؟! |