تأتي ذكرى استشهاد أبي الأحرار
الحسين بن علي سلام الله عليه في وقت تحوم فيه حول العالم الإسلامي
سحب الفتنة الطائفية الداكنة التي تدفعها تلك الرياح الآتية من
الغرب عبر المحيط الأطلسي والتي يراد لها أن تمطر على رؤوسنا دما
قانيا وكأنه لم يكفنا تلك الأنهار التي سكبت من قبل هباء منثورا من
دماء المسلمين وثرواتهم!!.
كان من الممكن أن تكون هذه الذكرى
السنوية مناسبة لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم أو حتى لتحقيق
التقارب بدلا من السعي الدءوب لتكريس الصراع بينهم خاصة وأننا
كثيرا ما نسمع من يقول (أننا نحب أهل البيت وأن هذا الحب ليس قاصرا
على طائفة من المسلمين دون غيرهم) إلا أن الواقع المعاش والتشويش
المتعمد على تلك المناسبة والإصرار على وصم المحتفين بذكرى استشهاد
الإمام الحسين بشتى الصفات السلبية وتصوير الأمر كنوع من الهوس
وتكريس رغبة الانتقام والتشفي.
وحدهم الأسوياء هم الذين يصرخون من
الحزن والألم أما فاقدو الشعور فقد اختاروا لأنفسهم تلك الغيبوبة
الإرادية.
ليس من العدل ولا من المنطق أن يجري
التنديد بما يعده البعض نزعة انتقامية شيعية من دون التنديد بالظلم
والعدوان وهو السبب الرئيس لكل الشرور والآثام التي يعاني منها
البشر.
الآن يجادل أهل السياسة حول الإرهاب
محملين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين المسئولية عن هذه الظاهرة وأن
حل هذه القضية حلا عادلا سينزع من يد الإرهاب سلاحا طالما تذرع به
وهو ما تمارسه إسرائيل من مظالم بحق الشعب الفلسطيني الأعزل من
السلاح.
بعض هذا المنطق وليس كله صحيحا وهو
لا يعدو كونه تفسيرا لجانب معين من جوانب السلوك الإنساني وهو
سيكولوجية الانتقام التي هي مكون طبيعي من مكونات النفس البشرية.
جانب طبيعي نعم..
ولكنه يحتاج إلى تهذيب وضبط وربط
بقواعد الشريعة والقانون وإلا أصبح السلوك الانتقامي سلوكا عدوانيا
يتعين إدانته والوقوف بوجهه.
يروي نصر بن مزاحم في كتاب (صفين) أن
الإمام علي عندما فرغ من واقعة الجمل قام بمعاتبة من تخلف عن نصرته
من المسلمين فقال: ألا إنه قد قعد عن نصرتي منكم رجال فأنا عليهم
عاتب زار. فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا،فقام إليه مالك
بن حبيب اليربوعي ـ وكان صاحب شرطته ـ فقال: والله إني لأرى الهجر
وإسماع المكروه لهم قليلا. والله لئن أمرتنا لنقتلنهم فقال علي:
سبحان الله يا مال، جزت المدى، وعدوت الحد، وأغرقت في النزع! فقال:
يا أمير المؤمنين، لبعض الغشم أبلغ في أمور تنوبك من مهادنة
الأعادي. فقال علي: ليس هكذا قضى الله يا مال، قتل النفس بالنفس
فما بال الغشم. وقال: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا
يسرف في القتل إنه كان منصورا). والإسراف في القتل أن تقتل غير
قاتلك، فقد نهى الله عنه، وذلك هو الغشم.
ولأن الله تبارك وتعالى خلق السماوات
والأرض بالحق ووضع الميزان ليحكم الناس بالعدل فالغشم هو نقيض
العدل وهو انتقام جائر وهو عدوان حتى ولو كان الهدف منه رد الناس
إلى الصواب.
الذين ينددون بالنزعة الانتقامية
عليهم في نفس الوقت أن ينددوا بالظلم والعدوان ليصبح كلامهم كاملا
وليس على طريقة (ولا تقربوا الصلاة).
القصاص العادل هو مقوم من مقومات
الحياة الإنسانية الصحيحة والسليمة (ولكم في القصاص حياة يا أولي
اللباب) وعندما تتجاهل الأمم مثل هذه القاعدة ويصبح الظلم مباحا
للذي هو أقوى وأقدر على استباحة وانتهاك حرمات الآخرين لا بد أن
تتدخل الإرادة الإلهية انتقاما من الذين أجرموا ويومها لا يستثنى
من هذا الانتقام إلا من رحم الله ممن لم يرضى ولم يقر بهذا الظلم.
(فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً
وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ) الزخرف 55-56.
دور الجماعة
البشرية
ولأن الظلم والعدوان على حقوق العباد
لا يحدث في فراغ وإنما يحدث على أعين الناس فهناك مسئولية ملقاة
على عاتق الجماعة الإنسانية في إدانة العدوان ومواساة المظلوم
والتخفيف عنه في محنته.
إنه الدور الذي يتعين على الجماعة
الإنسانية القيام به ولو أنها وقفت من الظلم موقف اللا مبالي فهي
داخلة من دون أدنى شك في زمرة المعتدين.
إنه الموقف الذي يجمله الإمام علي بن
أبي طالب بقوله: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ
الرِّضِى وَالسُّخْطُ، وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ
وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ
بالرِّضَى فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا
نَادِمِينَ) فَمَا كَانَ إِلاَّ أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ
بِالْخَسْفَةِ خُوَارَ السِّكَّةِ الْـمُحْمَاةِ فِي الأرْضِ
الْخَوَّارَةِ.
لو لم تتقاعس الجماعة البشرية عامة
والأمة الإسلامية على وجه الخصوص عن نصرة المظلوم والأخذ على يد
الظالمين والحيلولة بينهم وبين التمادي في ظلمهم لما كان هناك مجال
للعدوان على العباد ولتقلصت حاجة الناس للقصاص ومن باب أولى
للانتقام بنوعيه العادل والعشوائي.
إنه ليس كلاما نظريا أو تصورا مثاليا
بل هي حاجة أخلاقية وضرورة بقاء للمجتمعات حتى وإن لم تدرك كلها.
ليس كل الناس كعلي بن أبي طالب الذي
رفض طلب قائد الشرطة بممارسة الغشم ولو سبيل الإرهاب والتأديب ولا
زالت مجتمعاتنا تمارس عادة الثأر البدائي الجاهلي لا لشيء إلا لأن
هؤلاء وقر في أذهانهم أنهم لن يحصلوا على حقهم ممن ظلمهم عن غير
هذا الطريق.
نظرة على احتفالية إعدام صدام تكشف
أننا ما زلنا بعيدين عن تحقيق هذا المطلب فنحن غارقون في مستنقع
تبرير الظلم والإجحاف بل وأصبحت هذا الثقافة سلعة رائجة في أسواق
الدعاية والإعلام ولا نرى ثمة ضميرا جمعيا يقظا يدين الظلم
والعدوان أيا كان مصدره أو ضحيته ولا شك أن إدانة الظلم من قبل
المخالفين في الدين أو المذهب تشير إلى نفوس حية تأبى الظلم لغيرها
مثلما تأباه لنفسها.
لو أن المسلمين أضافوا إلى ثقافة
الأمجاد السائدة ثقافة إدانة الظلم والظالمين فربما تقلص الخوف من
النزوع الانتقامي للمظلومين والمضطهدين وربما تحقق نوع من التضامن
النفسي بينهم على عكس تلك الحالة السائدة الآن.
فبينما يستذكر فريق من المسلمين
مأساة مقتل ابن بنت نبيهم يصر الطرف المقابل على اعتبار الأمر نوعا
من الهياج والهوس غير المبرر أو يتجاهل الأمر برمته!!.
ثم يقولون نحن جميعا نحب أهل البيت!!
ولكنهم لا يحزنون لحزنهم ولا يأسفون على ما نزل بهم وبنا من ظلم
وإجحاف!!.
أذكر أنهم كانوا يعلموننا في دروس
القومية العربية أننا (أمة وحدتها الآلام والآمال).
ولا أدري لماذا لا يتكرم علينا سدنة
القومية العربية الوهابية المعاصرين باعتبار استشهاد الإمام الحسين
بن علي واحدا من تلك الآلام حيث لم يبق لنا من هذا المشروع سوى
الآلام والأوجاع.
أما الآمال فنحن يكفينا بحمد الله من
الغنيمة الإياب!!.
الانتقام من الظالمين هو حق بشري
مشروع خاصة وأن البعض ما زال يصر على إبقاء نفس النهج الأخلاقي
المقلوب الذي يستثني أهل البيت وشيعتهم من كل المعادلات الاجتماعية
العادلة ويسعى لإبقائهم على هامش الحياة.
وبدلا من أن يستنكر القوم ما يسمونه
بالنزعة الانتقامية الشيعية كان عليهم أن يقفوا مع المظلوم في
مواجهة الظالم وأن يأخذوا على يديه بدلا من الإصرار على انتهاج نفس
النهج الأموي الجائر ليسلموا وتسلم مجتمعاتهم من القصاص الإلهي
القادم لا محالة.
القصاص الإلهي العادل ممن ظلم مأكلا
بمأكل ومشربا بمشرب هو حتمية كونية إلهية وهو آت لا محالة مهما
حاول الأمويون القدامى والجدد إطالة عمر نظمهم القمعية الظالمة
التي لم تبق بيتا من بيوت المسلمين إلا وأدخلته حزنا وهما لا يزول
إلا بزوال الظالمين والقصاص العادل منهم.
كان على هؤلاء لو بقي لديهم ذرة من
عقل أن يتعظوا مما لحق برفيقهم طاغية العرب صدام ولكنهم لا يعقلون
ولا يتعظون.
يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه
السلام.
فَعِنْدَ ذلِكَ لاَ يَبْقَى بَيْتُ
مَدَر وَلاَ وَبَر إِلاَّ وَأَدْخَلَهُ الظَّلَمَةُ تَرْحَةً
وَأَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً، فَيَوْمَئِذ لاَ يَبْقَى لَهُمْ فِي
السَّماءِ عَاذِرٌ، وَلاَ فِي الأرْضِ نَاصِرٌ. وَسَيَنْتَقِمُ
اللهُ مِمَّنْ ظَلَمَ، مَأْكَلاً بِمَأْكَل، وَمَشْرَباً
بِمَشْرَب، مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ، وَمَشَارِبِ الصَّبِرِ
وَالْمَقِرِ، وَلِبَاسِ شِعَارِ الْخَوْفِ، وَدِثَارِ السَّيْفِ.
وَإِنَّمَا هُمْ مَطَايَا الْخَطِيئَاتِ وَزَوَامِلُ الآثَامِ.
فَأُقْسِمُ، ثُمَّ أُقْسِمُ،
لَتَنَخَّمَنَّهَا أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ
النُّخَامَةُ، ثُمَّ لاَ تَذُوقُهَا وَلاَ تَطْعَمُ بِطَعْمِهَا
أَبَداً مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ!!.
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم.
*المنصورة مصر
[email protected] |