إشكالية المفاهيم
تشكل القرابين جزءاً من التراث النفسي والروحي للامة في محاولة
لتوثيق تواصلها مع السماء، وهي ليست ظاهرة تنطلق من فراغ نفسي او
خواء اجتماعي كما تحاول الفلسفة المادية تفسيره، وهي ليست نتاجا
للاحباط الروحي في تقويم العلاقة بين الانسان والخالق، ما يدفع
الانسان في حالة من الانفعال الاحباطي الى تقديم نفسه اضحية او
قربانا ليجد في موته الخلاص من اشكالية الحياة كما يتوهم بعض
الفلاسفة المحدثين، كما انه لايمكن تفسير القرابين باعتبارها عوامل
في فكرة التناقض بين المادي والالهي، او استلابا للعقل في بحثه
المستمر عن مثل عليا، فتصبح القرابين اداة للتواصل بين الانسان
والخالق خارج حدود مشروع السنن الالهية، ما يمكن اعتباره توارثا
لامنطقيا ينتقل عبر الاجيال لترسيم و لترتيب علاقة الانسان
بالخالق، ومن هنا لايمكن فهم القيمة العليا للقرابين خارج معايير
السنن الالهية، بل ان القرابين هي من السنن الالهية.
القربان و الاخلاص المطلق
يقول الحق سبحانه: (فلما بلغ معه السعي قال يابني إني ارى في
المنام أني اذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت إفعل ما تؤمر وستجدني
انشاء الله من الصابرين) الصافات/101 – 102، فيمكن اعتبار هذا النص
مصداقا لفهم القربان كسنة الهية تسعى الى تحقيق مطلق الاخلاص لله
تعالى عبر مطلق الخضوع للحكم الالهي، ولكن النص القرآني يؤكد انه
لن يتحقق هذا الاخلاص بدون الفعل ولهذا: (فلما اسلما وتله للجبين،
وناديناه أن يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن
هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم) الصافات/ 103- 107
لتتحقق بذلك قيمة الاخلاص عبر الفعل عندما يصبح مطلق القول مساويا
لمطلق الفعل كما في حالة ابراهيم واسماعيل عليهما السلام، لتتكشف
لنا حكمة السنة الالهية القربان باعتبارها تقييما لاخلاص العبد في
مسيرته نحو تحقيق ارادة الله وفق السنن السماوية، مع التاكيد على
اهمية العقل الانساني في ادراك الغايات التي تهدف اليها السنة
السماوية من وراء القربان ولهاذ قال ابراهيم عليه السلام (فانظر
ماذا ترى) تحقيقا لاستعمال العقل باعتباره احد مصادر التشريع،
وبنفس المفاهيم ندرك فعل عبد المطلب جد الرسول الاعظم مع اصغر واحب
اولاده اليه عبد الله والد نبينا الكريم صلوات الله عليه وآله.
فالسنن تستمر بازلية الوجود والقرابين تطرح على مسار حركة التاريخ
موثقة اخلاص المخلصين للعقيدة السماوية في تحركهم العبادي تحقيقا
لمثل عليا دعت اليها الرسالات السماوية، لتتكرس بعد ذلك عبر ثورة
كونية هدفت منذ البداية الى اعادة الموقف الى مساره الرسالي بعد
الكم الهائل من الانحرافات التي اضرت بالعقيدة والامة على السواء،
فلم يكن البحث المستمر عن الفداء والشهادة التي رافقتا ثورة الامام
الحسين عيه السلام الا منهجا في تعليم الانسانية معنى الاخلاص
المطلق، الذي لايعني ابدا الغاء حكم العقل، ما دام " كل ما يقبله
العقل يقبله الشرع " ، وهنا فقط يمكن ادراك تضحية الامام الحسين
واهله واصحابه عليهم السلام ليكونوا قرابينا على طريق العقيدة، من
هنا تصبح القرابين تجسيدا حيا للعقيدة في طريق الحفاظ على الخط
الرسالي، وعليه لم تكن التضحية مجرد انفعالا آنيا، ولا هوسا ورغبة
في الفناء بلا معنى، بل كانت ترابطا بين الانسان في مستويات
الاخلاص المطلق، وبين الله الخالق لتتجلى في حركة السيدة الجليلة
سليلة النبوة والولاية، العظيمة زينب بنت الامام علي عليهما
السلام، وهي تندفع نحو جسد اخيها وامامها الامام الحسين عليه
السلام وهوالمضرج بدم الشهادة لتضع يديها الطاهرتين تحت جسده
الشريف لترفعه بجهد الكبرياء والنبالة، وهي تلقي بطرفها الى السماء
مخاطبة الباري تعالى في قولها: "اللهم تقبل منا هذا القربان" لتحقق
تلك العلاقة العقائدية بين مطلق الاخلاص والولاء للعقيدة السماوية
وبين تحقق مطلق الفعل بالاستشهاد، تلك الصرخة استوعبت كل معاني
الايمان ومفردات العقيدة المتجسدة في شهادة الامام الحسين عليه
السلام والتي اراد منها ان تكون توثيقا مستقبليا لتحرك الامة في
مسار العقيدة للانفلات من حالة التناقض عبر التطلع لمستقبل تتحقق
فيه الحضارة الكونية من خلال استلهام استمرارية السنن الالهية، تلك
الصرخة الزينبية لم تكن مجرد انزعاجا عاطفيا، بل كانت تمثل ايمان
الانسان بقدرته على صنع التاريخ، والتاثير الايجابي فيه.
في الوقت نفسه تمثل هذه الصرخة الانسانية ادراكا واعيا بكون هذا
القربان يشكل علاقة تعبدية مبنية على تحرك مسؤول نحو الله، فالحسين
لم يكن قربانا لفداء البشرية وفق المفاهيم الكنسية للمسيحية عبر
محاولة تفسيرها لعملية الصلب المفترضة، والتي أنكرها النص القرآني،
ولم تكن شهادة الحسين فكرة طوباوية، او مثالية مغرقة في مثاليتها
حد التطرف، بل ان الحسين عليه السلام قد جسد عمق العلاقة بين
الشريعة وحركة التاريخ من خلال تأكيد الترابط بين الانسان الفاعل
والمحرك للتاريخ وبين الله كمصدر للتشريع، ليؤكد مرة اخرى مفهوما
يؤشر ان حركة الامام وسلوكه يمثل بعدا مستقبليا، ما يوضح القيمة
الفعلية للامامة ككل باعتبارها مشروعا مستمرا لقيادة الامة على
الخط الرسالي.
الرأي الآخر للدراسات - لندن
المملكة المتحدة – لندن
albayatiws@hotmail.com |