الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ

ملف عاشوراء

 

 

ربيعٌ في قلبِ الحُسين

عبدالإله التاروتي ـ القطيف  

في الروضة العلويّة، وتحت ظلال الشجرة المباركة المتشحة بتسبيحات الملائكة المقربين، كُشف عن سرِّ جماله المكنون، فنمى غصنه، وأورفت ظلال ثماره من ينبوع معين التقديس والتهليل آناء الليل وأطراف النهار، فمن هذا الغدير ترشّف قلبه الملكوتي تلكم المعاني والمفردات التي تجعله يحيط علماً ودراية بكل العيون الباحثة عن شفاء لحرقة وجدها.

أما من حيث بصيرته الخارقة للمقامات العالية، فقد أطلت من الأفق الرحب على أرجاء القلوب الملتاعة. فروحه المصنوعة بعين الله متيمةٌ بكل ما يتصل من قريب أو بعيد، بصريح العبارة، أم بلمح الإشارة. ولما هو كذلك، فهو قائم بين يدي ربه يلتقط من بحور أوليائه البررة إشارات الهداية الحقة، والنور الذي لا ينبثق منه إلا النور.

فالنور هدفه، وهالة تاج الشمس، مناخ لركابه بعد الكدح الطويل. فهذا فراش الشمع يركع صاغراً أمام عتبات مقامه علّه يحظى بذلك اللطف المبارك الذي يؤهله لاقتفاء خطى قدميه العاشقة لشرب كأس الفناء الكوثري في سبيل الغاية المقدسة الحقيقة المطلقة.

وهاهي ملائكة النحل تحوم حول حرم عبيره الفواح، طامحة ومشتاقة لترسم أثر حسه المرهف في شمّ عبير الخلود. وفيما بين مسرى الفراش، وعروج ملائكة النحل يتعالى صوت إلى أعلى حيث لامكان فيه إلا إلى النور، صوت يحمل بين صدى أمواجه { تبارك الله أحسن الخالقين }، فجماله سحر عيون البروج فتاهت في سماء قلبه الذي غدا معلماً فياضاً بالكمالات وللكمالات المتسامية، فهو دائم التحليق في أفلاك المعرفة الموصلة إلى الحقيقة حيث لا معنى لجهل الجاهلين.

ولما كان العاشق، والمعشوق من تلك الكلمة الطيبة التي تناغمت فيما بينها لتبدع ملحمة الصفاء لكل الساعين، والسائرين في درب الحق والعدل، فقد أبدعا ذلك النظم الذي يسقي عشاق النور شربة من أنهار الخمر القرآني المعتق والمنزّه من فضول وأوهام اللاهثين وراء السراب.

نعم وأيم الله ... ففي هذه الدوحة، ومن هذه الخزانة تولد هذا الحب، وهذا الصفاء والفناء ... وفيها شبّ العتيق، كما أينعت معه من المعاني والمعارف الجليلة أكملها، ومن مسالك النقاء أفضلها، فهكذا وعلى هكذا شأن عرفه الكوكب الدري منطوياً على سريرة تواقة في التفاني في الأنجم الزاهرة، والبروج البازغة من المشكاة المقدسة.

وفي يوم من أيام الحصار في الشعب المكي، ألقى تاج الشمس في روع البروج الصغيرة بعضاً من توجيهاته ومما جاء فيها ..

يا صغاري الحسان، هاكم اليوم درساً آخر في العشق الرسالي، فإني عارف بأن الشوق والحنين هو الباعث والمحرك لمناغات القمر الزاهر، لذا فأرجو أن لا يكن في الحديث ما يكشف له أو يعرفه بحرقة القلب، وبغصة الألم، وإن كان فليكن بالإشارة دون العبارة.

وأخذت البروج الصغيرة  { الألواح وفي نسختها هدى ورحمة }، حيث نقشت وصايا تاج الشمس بين جوانحها الخافقة بآيات خفض { جناح الذل من الرحمة }

وجاء يوم الحج الأكبر، فطاف القمر حول كعبته المعشوقة، فرأى الرخامة الحمراء { تمشي على استحياء }، مشتملة على قبس من تلك البروج الصغيرة وقد تضوع العبير من بين قسمات وجهها فشم منه دلالات البحث عن زمزم، هذا وعيون الرخامة الحمراء ترنو إليه، فالخطب عظيم،ولا بد من تلك الخطوات المباركة كي تعيد إلى البروج جمالها، وترجع إليها حسن بريقها الزيتوني...

ومضى القمر إلى تاج الشمس، ومعه الرخامة الحمراء وقلبه يتجرع السقم لما حلّ في بروج الطهر والعفاف، فشفاؤه منوط بإمدادها بوحي الحياة، وحياة الوحي والرسالة.

ورفع تاج الشمس رأسه إلى السماء، وقد تبلج ثغره بـ { بسم الله مجريها ومرسها }، وتهيأ القمر الأبلج قاصداً زمزم بعد أن ارتدى لبوس الإحرام، ناثراً أطايب المسك والعنبر على لامته الحربية ومجرياً الغسل لعقد نية العروج إلى البيت المعمور حيث انكشاف السدف.

وشدّ وهج الانتصار السُّرى نحو البيت المعمور وعين ألف من الملائكة تلبي معه في هذا الإسراء المقدس

أي رب، بروج الطهر دابلة الثغرْ!

وقلب الرخامة الحمراء كصالية الجمرْ!

أي رب بحق تاج الشمس، والمشكاة التي باركت حولها عند سدرة المنتهى،

بهم جميعاً ...

 أسألك صرف الشياطين بعونك وتوفيقك كي أصل إلى رضوانك.

وحيث عرفات العرفاء، عزفت قدماه أول خطوات التجلي والإنعتاق. فأسبغ وضوئه من عين منى، ومقيماً لصلاة العاشقين، فبلال قد رفع عقيرته إيذاناً بساعة الاتصال والوصول.

        وحال وصوله من سفره لمرفأ ( السلام )، تراءت له في صفحة السماء التي لا يعلم مخزون معناها إلا رب السماء، نفحة من طيب لمدينة المعارف ( باب حطة )، تردد في الأجواء ..

        أيها القمر السالك من أجل النور، والمحلق بغية الفوز بالمقام المحمود، والسائل الواقف على عتبات الوصول ... فبمستوى المقام والغاية تقدم التضحيات. والعظماء هم وحدهم من بين سائر الممكنات يحق لهم وحدهم الإبحار في عوالم النور، فيسّبحون، ويسبحون في فلك المواقف المشهودة، ويعرجون، ويعّرجون إلى عالم الملكوت ليظفروا برحمات المثول. فهم لؤلؤها المكنون، اليانع بالثمر المختلف ألوانه المنزل على أديم فطرتهم من لدن الرحيمية المطلقة، بمنه وتفضله.

        ومجدّاً أنتفض وهج الإنتصار ورمى الجمرات، وتخطى العقبات الثلاث، ضارباً تلك الشياطين المتلبدة بيقين الخليل، وتسليم الذبيح فشكلت تلك الجمرات السجيلية علامات منيرة تنير الدرب للسالكين في هذا الخط المقدس، وقد اختالت كل واحدة منها بعبارة مضيئة اختطتها على ناصيتها يد القدرة ...

                نفحات النقاء، وصفاء العطاء أنشودة القمر. ممتزجة فيما بينها كتداخل ألوان الطيف، مخاطبة مراكب القادمين من كل فج عميق في أيام الله اللاحقة بأن ..

        طريق العارفين، مفتاحه كف لشرف مزن الحضور.

        وسفينة المسافرين، عين لإدراك الخط المتصل بالسماء.

        وانيس العمر في هذا العروج هام يقدم كآنية من فضة لحفظ النعمة ووعي الهدف.

        وواصل العتيق عزف المسير نحو الصفا والمروة، حاملاً بين خافقيه نغم السماء المحكم { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وان اعمل صالحاً ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين }.

        ومع آخر خطوة يخطوها في هذا السعي، بزغ له ذلك الإكسير، فصيره قلادة وفاء مكسوة بآيات حسن الوفادة، قاصداً البيت المعمور حيث الرخامة الحمراء والبروج الظامئة في انتظاره.

        وفي حجر تاج الشمس، نثر القمر ماء زمزم المنساب من لبّ فؤاده، مكملاً بذلك مراسيم الإسراء والمعراج وملبياً بتلبية العاشقين، وكل كيانه يرتل سورة الإخلاص، وإخلاص السريرة،

        أيها المعنى المخزون في الشفاه، هاقد وصلت إلى المقام، دع بروجك الطاهرة كي تشرب، وامسح بقطيفتك المحمدية آهات الرخامة الحمراء، وانسج من جراحاتي حرفاً تضمه إلى ملحمتك المشرقة بأنوار الهداية والعطاء. تزدني بذلك شرفاً ومقاماً.

        وفيما الحديث دائر بين تاج الشمس ووهج الإنتصار، وفيما هما يدعوان بدعاء الوداع، وفي قمة المناجات أقبل الحجر الأسود يجر ذيل السندس الأخضر، والزبرجد اليوسفي، يصحبه المقام الإبراهيمي المطمئن بمعين عين اليقين، راجين بذلك نزول الديم والبركات عليهما كي ينالا شرف النظر إلى ظلال الشجرة المباركة الوارفة بالتسبيح والتقديس ليطوفا مع الطائفين حول قربان الجمال والجلال لقمر الهواشم خاتماً جبرائيل طوافهما بذلك التهليل، أيتها الخلائق ..

        تعالي كي تنظري،

فدوحة القرآن ... معطاءة الثمرْ،

سيصير شهداً ذكرها ...

لدى القلوب الظامئة.

فهيا اقطفي ... هيا اعزفي ..

أيتها السماء ..

من بحر هذي الدماء

أنشودة السفرْ

هيا اكتبي ...

ببلسم الربيع ... وخنصر الشفيق ...

{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلوّن فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير * وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد }

        معلناً بذلك صدور القبول من المولى لربيع الظامئين في العروج وكيفما شاء مع إشراقات الرضوان، وبالقرب مع من كان { قاب قوسين أو أدنى } مع الخالدين عند القطوف الدانية لشجرة طوبى ... ليكون بذلك وتراً من ديباج تلك القيثارة العازفة لملحمة العشق المخضب بزمزم الوفاء، والموقعة بخضاب العشق والفناء والمختومة بمسك مناسك فاتحة الكتاب، العباس بن علي ..  ربيع في قلب الحسين.  

 

شبكة النبأ المعلوماتية / ملف عاشوراء 1427هـ