العقيدة.. النص.. والقيادة
يفهم العقل المنطقي حدود تشكل العقيدة عند أصالة العلاقة
بين المخلوق والخالق بأعتبار ان الاسلام عقيدة إلهية تهدف لقيام
نظام حياتي متكامل يؤسس لسعادة الانسان في ضوء منظومة حياتية
دقيقة، ومنذ البدء عملت الرسالة السمحاء الى تعليم الانسان لتبني
قيم عقلية عليا عبر التثقيف الاستدلالي الذي يورث اليقين عبر إعمال
العقل الرشيد وإنكار الظن والانحراف المبني على الرأي والقياس، ومن
هنا كان شعار ثورة الامام الحسين بن علي عليهما السلام المتمثل في
وصيته لاخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية: "إني لم اخرج أشرا
ولا بطرا، ولا مفسدا ولاظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة
جدي، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر".
تلخص هذه الكلمات المنطق التشريعي والانساني للامام الحسين
عليه السلام في تعامله مع العقيدة كنص الهي يجب حمايته والحفاظ على
بنيته الاصيلة من الانحراف الذي فشى في عصر يزيد بن معاوية ومن قبل
في عصر ابيه والذي تم التأسيس له منذ رزية يوم الخميس التي كرست
فعل السقيفة ومن ثم شورى السوء، وايضا مع الانسان الفرد الذي يحتاج
الى قيادة ترتكز الى مثل عليا لتحقيق العدالة الالهية، وفي هذه
المرحلة العصيبة من التاريخ العقائدي والانساني تمثلت هذه القيادة
المعصومة بشخصية الامام الحسين عليه السلام ليتحمل عبأ الخروج
بالانسانية من هذه العقدة، وليرفعها مستنهضا قيما عليا غرزها جده
الرسول الخاتم في اعماق النفس البشرية التي انحرفت عن مسارها
الحقيقي، إلا من ثلة مخلصة للاصول الالهية تمثلت بأهل بيت النبوة
الاطهار باعتبارهم خزان علم الرسالة، ومنازل الوحي، وممن انتجب من
الاصحاب الذين اخلصوا انفسهم لفداء العقيدة الاسلامية والتي كان
الامام الحسين علية السلام يمثل قيمتها العليا، مؤكدا بتلك المواقف
التاريخية للإمامة وأرتباطها الكامل بالنص الالهي الى حد عدم
الرضوخ للأمر الواقع المتمثل في الخط المنحرف لبني امية عامة
وليزيد خاصة بأعتبار المعاصرة التاريخية، وللمسؤولية التشريعية
والعقائدية التي تقع على عاتق الامام لقيادة الامة على المسار
الرسالي الذي خطة الرسول الاعظم صلوات الله عليه وآله ولانقاذها من
تناقضات الانحراف الذي بانت معالمه منذ رزية يوم الخميس، فالفكر
الاسلامي عمل منذ البداية على تحرير العقل، والنفس من النزعة
القبلية، ومن التشبث بقيم منحطة، وعلاقات متدنية، ليسمو بها
متجاوزا قيم القبلية الضيقة، والانانية المحدودة، داعيا العقل
للانفتاح على كونية الامة الاسلامية وشمولية الفكر النير.
موقف الامام الحسين من العقيدة
ينطلق موقف الامام الحسين عليه السلام من ادراكه لحاجة
الامة الى التغيير لتحرير مدركاتها ومواقفها من مستنقع الانحراف
عبر الموقف الالهي من حركة التغيير المرتبطة بالانسان نفسة
باعتباره صانعا لحركة التاريخ والذي تحدده الاية الكريمة: (إن الله
لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم) -الرعد/11- فالشريعة
الاسلامية ارادت ان يصبح الانسان فاعلا في صناعة التاريخ معتمدا
على ظروف الزمان والمكان ومستلهما النص الالهي ومتجاوزا بوعيه
منحدرات الانحراف ليسمو بمثل عليا محققا بذلك الخلافة الالهية على
الارض المحكومة بالشريعة، مؤكدا بذلك عدم خضوعه الكامل للانية
التاريخية والاجتماعية المنحرفة، بل يعمل على ربط عملية التغيير
بالقيم العقائدية وبالمثل العليا التي تحددها الشريعة السماوية،
فيصبح الانسان بذلك اهم واول عوامل التغيير، وقد عمل الامام الحسين
عليه السلام على استنهاض عوامل التغيير في نفوس المسلمين عبر خطبه
وكلماته التي صرحت بحقيقة مشروعه التغييري والذي اعتمد على الايمان
العميق المترسخ في نفوس ثلة من الناس، ليكونوا شهداء امام الله عز
وجل على عبقرية حركة التغيير التي قادها الامام وإن ادت بالتالي
الى شهادته واهل بيته واصحابه رضوان الله وسلامه عليهم اجمعين، تلك
الشهادة التي اعادت ترتيب معايير القيم التاريخية والانسانية في
فهم العقيدة الاسلامية من خلال منظور يتجاوز الحدود الضيقة لمفاهيم
الفلسفات الحديثة في تقييم علاقة الانسان بالحياة، وظروف التغير.
ومن هنا تتجلى عبقرية الامام الحسين عليه السلام وهو يضع
اصحابه امام حقيقة الموقف التاريخي عقائديا وتشريعيا عندما طالبهم
بالتخلي عنه حماية لانفسهم ولاهليهم باعتباره الشخص المطلوب من قبل
السلطة المنحرفة، ما يعكس اهمية ان يضعهم في موقف تحمل المسؤولية
في حالة اصرارهم على الاستمرار معه لتحديد معالم عملية التغيير
بشكلها النهائي اي الصراع الحربي وبالتالي الشهادة.
قيم الشهادة والفداء
تكشف لنا حركة التاريخ فهماعقلانيا لسلوك الائمة عليهم
السلام باعتباره سلوكا متجذرا في تاريخ الامة يستمد اصالته من
اصالة العقيدة ومصدرها الالهي، وباعتباره لا يمثل اتجاها آنيا او
ظرفيا، بل انه سلوك يتبنى فهما مستقبليا وكونيا للعقيدة، ويقدم في
الوقت نفسه طاقة قيمية سيكتشفها المسلمون عبر حركة التاريخ، موجها
بذلك انظارهم نحو المستقبل الذي سيكشف القيمة الحقيقية لعملية
التغيير التي قادها الامام الحسين عليه السلام، حتى للذين قد لا
ينتمون مذهبيا اوعقائديا للفكر الشيعي خاصة او للفكر الاسلامي
عامة.
والفهم العقلاني لعاشوراء الحسين يكشف لنا كيف جسد الامام
الحسين عليه السلام تلك العلاقة بين العقيدة وحركة التاريخ
المتمثلة بحاجة الامة الى التغيير حد الاستشهاد، باعتبار ان الزمان
يسير نحو غايات تحكمها مثل عليا والتغيير ياتي من خلال معايير
لاتتمثل بعوامل الزمان والمكان فقط، فالانسان يحمل في صيرورته بناء
التغيير فيصبح الفداء عندها ركنا متجذرا في عملية التغيير، ومن هنا
لم تكن عملية مباشرة النبي ابراهيم عليه السلام باجراءات ذبح ولده
اسماعيل عليه السلام مجرد تطبيقا حرفيا للحكم الالهي، بل إن لهذه
العملية مفاهيما مستقبلية تؤثر في الحركة الايمانية للمجتمع عبر
حركة التاريخ وصولا للرسالة الخاتم.
من هنا قلنا ان سلوك الائمة كان متجذرا في تاريخ الامة،
باعتبارهم ورثة الانبياء، وحملة اعباء الاستمرارية بالرسالة، وهكذا
لم تكن ثورة الامام الحسين عليه السلام مجافية للعقل، كما انها لم
تكن ظاهرة آنية، ينتهي تأثيرها بانتهاء الحدث التاريخي، بل انها
حركة كونية الابعاد تتشكل واقعيتها في الحاجة المستمرة للوجود
الانساني الى التغيير الذي سيتجلى مستقبليا في الثورة التغييرية
العظمى للامام المهدي الحجة عجل الله فرجه الشريف، وبذلك يمكن فهم
ثورة الامام الحسين عليه السلام بأعتبارها تمهيدا تاريخيا لثورة
حفيده المهدي الذي ( سيملأها قسطا وعدلا كماملئت ظلما وجورا).
*الرأي الآخر للدراسات - لندن
albayatiws@hotmail.com |