في أوائل شهر محرم الماضي ، وفي لقاء عابر في أحد مجالس لندن ،
تحاور صديقان في حضورنا .. شرع الأول في تقيمه وتحليله للأوضاع في
البلاد وراح يمجد في فلان (زعيم) أو (قائد إسلامي) أو (مرجع ديني) ،
وبالغ في وصفه بأحسن الأوصاف ،ودعا له بالتي هي أحسن من القول ،
بينما تعمد النيل من دور فلان (زعيم) أو (قائد) أو (مرجع ديني) لا
لشي إلا لأن الدنيا أقبلت على أحدهما وأدبرت عن الآخر . ثم تحدث بشيء
من التفصيل في الآثار التي تركها (الزعيم) أو (القائد) في النهضة
الحديثة للمسلمين وقال:
ولولا هذه الجهود والتضحيات منه والحكمة وعمق النظر لما كنا اليوم
ننعم بهذا الوعي وبهذا الموقف الذي تحسدنا عليه أمم الأرض ، وليس
هناك من جهة إسلامية إلا وهو دافعها ومنطلقها والعلة المطلقة في
نشوئها ، فهو بحق وليد فكرة ذاته ولا فكر قبله ولا بعده!.
استوقف الصديق الآخر صديقه عند حد في هذا التفصيل وسأله :
هل وجدت "عظمة" و"جلالا" في فعل وموقف هذه الشخصية وآثارها ؟ .
فرد الأول بكل فخر واعتزاز:
نعم ، لقد وجدت "العظمة" و"الجلال" فيه ، إنه يستحق أن يكتب
تاريخه بماء الذهب ، فهو فيض الهي علينا ، فيض من الهداية والفلاح
،وعليه ينطبق القول الذي قيل في اليونان" أنها حضارة وليدة ذاتها.
سأله الآخر مرة أخرى :
نعم قد يستحق "القائد" أو "الزعيم" أو " المرجع" هذا الوصف ، ولكن
هل أديت فريضة الحج؟!
قال الأول بلا تردد:
لا ، لم أوفق بعد..وما علاقة هذا الواجب بمثل حديثنا؟! .
قال الآخر وهو من الناصحين :
إنك بحاجة لحج الحسين(عليه السلام).. إنني سمعت من الحجاج أقوالا
وأوصافا في الحج جعلتني على يقين بأن مثلك بحاجة للحج أكثر من أي شخص
آخر . فقد سمعتها في أكثر من مرة ومن اكثر من صديق في وصف الحال خلال
أداء مناسك الحج : "أن الحج مناسك مختلفة يمارسها المؤمن بعد أن
اعتاد في سنوات ماضية من عمره على أداء واجبات أخرى كالصلاة اليومية
وما أشبه، لكنه في هذه المرة يؤدي هذه المناسك أمام مجموعة من الآثار
التي شهدت أثرا مباشرا لله عز وجل ووجودا مباركا لنبينا الأكرم(صلى
الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)، كما يتصور من خلال أداء
هذه المناسك مسير الأمام الحسين(عليه السلام) وحجه ولحظة خروجه من
مكة قاصدا كربلاء بشكل يشعره بقربه من لحظات هذه الواقعة.. فيزداد
الحاج إحساسا وشعورا بعظمة الله سبحانه وتعالى وبالمقام المحمود
لنبيه (صلى الله عليه وآله) وبحق الجهاد والشهادة للإمام الحسين وأهل
بيته(عليهم السلام) ، وتتصاغر في قلب الحاج ووجدانه كل الدنيا
وملذاتها ونزاعاتها وصراعاتها ومكاسبها فيركن إلى شأن يغنيه عن حزبه
وجهته وفصيلته التي تؤويه .. فالقلوب مشغولة عن كل قريب أو بعيد ،
وعن كل مشارك أو منافس ، وعن كل حليف أو مناهض ،وعن كل قائد أو مناصر
. فمكان المناسك الجديدة هو مكان خالص لله تعالى ، وان النيات فيه
خالصة لوجهه بلا شريك.
ويظل الحاج أيضا يتفكر في الطرق إلى الله تعالى ، فيجدها بعدد
أنفاس البشر كما أشير في اكثر من أثر مبارك ، لكن وجود الحاج بين
نقاط المناسك المباركة وبين يدي الله تعالى وفي ضيافته يزيده إيمانا
راسخا بأن الله تعالى قريب جدا منه فيرى آثاره في الحوادث اليومية
ومجرياتها، كما يزيده إيمانا بأن الطريق الذي سلكه إلى الله تعالى
أثناء أداء مناسك الحج لابد له وان ينتهي إلى الله عز وجل لا إلى
فلان "قائد" أو "زعيم" أو "حزب" أو "مرجع" ..ما رأيك في هذا القول من
الوصف؟.
رد الأول في هدوء :
إن هذا لوصف رائع في أداء مناسك الحج ، ولكن ما علاقة هذا القول
برأيي الذي ذكرت؟.
استدرك الآخر ، فقال لصديقه :
نعم ، أنني على يقين بأنك لو حججت ستعيد النظر في الكثير من
تقييماتك وتحليلاتك تلك وستوغل فيها على هون ما. إنك تنهج طريقة
الأولين الذين يعتقدون قبل اكتشاف كروية الأرض بأن نهاية البحر هي
نهاية العالم ، وان البحر والمحيط ينتهي عند حافة هاوية عظيمة فيها
هلاك كل من سولت له نفسه ركوبها، وعلى ذلك ظل الأولون على هذا النهج
حبيسي حدود اليابسة ، وظل فكرهم يجتر قصص الخيال وأهوال ركاب موجات
البحر.. إنك حبيس اليابسة لا يمتد بصرك إلى ابعد من "نهاية العالم"
وبحاجة لأن تقترب من الله تعالى والحج خير مناسبة.. إنك في قولك
بـ"عظمة" و"جلال" شخصيتك تدينها أو تحجم من دورها ولا تعظمها.
إننا نشك في حضارة اليونان يوم قيل بأنها وليدة ذاتها..إنك فصلت
في شخصيتك وعطائها عن كل التاريخ المجيد لأهل البيت(عليهم السلام)
برغم زعمك بأن "زعيمك" و"قائدك" و"مرجعك" إسلامي وصورته بأنه وليد
ذاته .. ألا تتصور معي بأن العظمة والزعامة و المرجعية هي لنهج أهل
البيت(عليهم السلام) وهم سفن النجاة والباب الذي منه يؤتى ، فما من
زعيم أو قائد أو مرجع بيننا إلا بما يتصف به من شدة في تمسكه بأهل
البيت(عليه السلام) فيوالي من وآلاءهم ويعادي من عاداهم ، وان كل ما
لدينا من شخصيات وتراث وفكر وثقافة دينية هي من نتاج عطاء أهل البيت
(عليهم السلام) وتضحياتهم .. فلنفهم الولاية جيدا ولنتعرف على
أعدائها جيدا فنعاديهم .
إنك أوحيت للحاضرين في المجلس بأنك بدأت تعادي من هم نظراء لقائدك
ولزعيمك ولمرجعك من خلال ولايتك ..إنك جعلت قائدك وزعيمك ومرجعك
"حسينا" وجعلت الآخرين ممن هم على شاكلته يزيديين فحق عليك محاربتهم
والتبرؤ منهم والطعن فيهم ..والحال أن القيادة والمرجعية والزعامة في
نص أهل البيت (عليهم السلام) تتمثل في كل من (...كان من الفقهاء
صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه...)..فيترتب
على ذلك إقرار بزعامة وقيادة ومرجعية أهل البيت(عليهم السلام) قبل كل
أمر دنيوي أو أخروي.. واما " القادة" "والمراجع" و"الزعماء" من
أمامهم (عليهم السلام) على وصف اعتباري ضعيف في مراتبه إذن ... وهم
يقرون بذلك ،وتقر سيرة المتشرعة بذلك ، وتقر قصص لقاءاتهم بالإمام
الغائب(عجل الله تعالى فرجه الشريف)بذلك..لقد أخطأت الطريق .. فتأمل.
؟!.
التفت المتحاوران إلى عالم دين (شيخ عراقي صديق) كان من بين
الحضور وكأنهما أرادا منه بأدب الفصل في حوارهما ، لكن الشيخ كان
منشغلا بمسألة فقهية مع صديق قديم . فأشار أحدهما إليه في لياقة:
شيخنا ... المسألة مسألتك يا شيخ!
دخل الشيخ مباشرة في إجابته وكأنه من بيننا حريصا على متابعة
تفاصيل الحوار بين الصديقين بإذن أخرى !..وقال:
رحم الله الأولين من مراجعنا وقادتنا وزعمائنا ..لا ينصرم عام على
أحدهم إلا وبعث رسالة شفهية أو تحريرية إلى كل واحد من نظرائه يدعو
له فيها بوافر الصحة والعافية ، ويسأله فيها الإجابة على مسألة علمية
أو شرعية يعبر من خلالها عن تواضعه للمعرفة والعلم .. ويختتم رسالته
بـ"خادمكم تراب أقدام المؤمنين" .. وأما في يومنا هذا فقد حجبت
السياسة "زعماء" عن آخرين ، و"قادة" عن آخرين، و"مراجع" عن آخرين ..
وإما المقلدين والاتباع والمريدين فحدث ولا حرج .. فهم حجاب عن حجاب
..طبق عن طبق ... أقطاب متنافرة ..لا تقوى السياسة ولا الزعامة ولا
المرجعية على مسايستهم ولا إدارة دفة زعامتهم ومرجعيتهم.. وفي كل
ساعة يتلقى الزعماء والمراجع والقادة رسائل عن الشمال وعن اليمين لا
مصدر لها إلا المقلدين للنظراء .. تطعن .. تشهر .. تحط من القدر ..
تتهم .. تخون .. تُقَوِّل .. تخترق كل الأسرار .. تعتدي على الحرمات
.. فأين مصدر الخطأ ؟ .. وأظن .. وفي رأيي ... أن الخطأ يكمن في ..
عذرا لكما فأنا لا أقوى على طرح ظني ورأيي ..نعم نحن بحاجة لحج
الحسين (عليه السلام) نقترب به إلى الله سبحانه وتعالى ونتجرد به عن
شياطين أنفسنا.. فتأملا!. |