كرنفال للعشق
وقف
الحاج أبو محمد (67) عاما عند باب الإمام العباس (ع) يتصفح وجوه
الشباب والرجال والصبية وهم يلوحون بأيديهم في تناسق جميل مع الرادود
الذي أخذ يصيح (ياحسين.. ياحسين.. يا ابن الزهراء)..
مع اهتزاز السلاسل بأيدي الشباب اهتزت مشاعر الرجل، وخفق قلبه
بالحب والشوق، وربما عصف به شوق الذكرى فحن لأبناء وأقرباء قضوا على
ذات الطريق الذي استشهد من أجله الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم
السلام) .. لحظات حتى اغرورقت عيناه بالدموع، ثم أخرج منديله وأجهش
بالبكاء.. لم يكن أبو محمد الوحيد الذي بث عبرته على جدران الأئمة،
فغيره الآلاف بل الملايين.. أمواج بشرية كبيرة يدفعها العشق نحو
المراقد المطهرة.. لم يدفع لها أحد دينارا واحدا.. لم يسهل أمر
مجيئها أحد.. بل ربما طريقها نحو الحسين ملئ بالأخطار والعراقيل
والصعوبات، فما أن يصل الزوار إلى أطراف المدينة حتى تأمرهم دوريات
الشرطة والحرس الوطني بالترجل.. مئات يلوحون بأيديهم على بعد مئات
الأمتار للمنائر المذهبة.. يا إلهي ما كل هذا الحب؟!.
منظر مهيب يدفع المرء للتمعن بمهرجان الحب السنوي هذا.. إنه يدعو
الجميع للتأمل، فهؤلاء الناس الذين يأتون من مدن شتى ومن بلدان بعيدة
متحملين معاناة السفر ونفقاته، ويبيتون على الأرصفة ليلا، لا يطلبون
مالا، وإن كان أغلبهم من الفقراء، ولكنهم يعبرون عن حبهم حد العشق
لقيم كبيرة جسدها الحسين بالدم.. قبل مئات السنين وعلى ذات الصعيد
الذي تشمخ فوقه المنائر، صرخ (عابس): حب الحسين أجنني.. وأحباب
الحسين وعشاقه ظلوا على مدى القرون الماضية يدفعون أكفهم وأعناقهم
وأموالهم وأعزتهم من أجل ذات الحب..
على باب الإمام العباس صاح بي رجل من حماية الحرم: هل هذا الرجل
معكم؟!.. وسط موجة الزوار لم ألتفت إلى عباراته للوهلة الأولى، وحين
تمعنت بالرجل وجدته كفيفا.. رجل ضعيف البنية فقد نور عينيه، ولكن ذلك
لم يمنعه من أن يقصد الحسين وأخيه العباس..
ولم يتوقف عشق العراقيين عند هذا الحد، فوسط تهديدات بالموت
والتفجير والقتل جاء العراقيون بأبنائهم..
أطفال كالورود يتوسطون المواكب كالفراشات، وبكل براءة الطفولة
يحركون سواعدهم الغضة كأحلامهم.. سألت أحدهم: ألا تخشى على ابنك من
المفاجآت.. ربما فجر انتحاري نفسه، أو ربما سقطت قذيفة هاون هنا في
أي لحظة، طالما هناك من يهدد بقتل الناس على الدوام.. ولم يكن جوابه
بعيدا عن المشاعر التي أبكت ابا محمد وجاءت بذاك الضرير إلى الرياض
المطهرة.. دون تردد أجابني الرجل: (ليس ابني بأحسن من عبد الله
الرضيع).. في إشارة إلى رضيع الإمام الحسين الذي ذبحته قسوة صحراوية
فجة وهو يطلب له الماء..
الإجراءات الأمنية
مع الأيام الأولى من شهر محرم الحرام طبقت قوى الأمن في مدينة
كربلاء إجراءات أمنية مشددة، حيث منعت دخول السيارات إلى المدينة
وأغلقت المنافذ بالكتل الكونكريتية وأقامت عندها نقاط التفتيش بشكل
مكثف، الأمر الذي أرغم الزوار على الترجل على بعد مئات الأمتار عن
مركز المدينة.. هذه الإجراءات وإن كانت صعبة وقاسية على الزائرين غير
أنهم أبدوا تفهما واضحا لها ولم تُقابل بالاستياء..
لم تنته الإجراءات الأمنية عند مداخل المدينة، بل هناك دوائر
عديدة يتعرض فيها الزوار للتفتيش قبل وصولهم لمركز المدينة وتحديدا
عند المرقدين الطاهرين للإمام الحسين واخيه أبي الفضل العباس، كما أن
المسلحين قد انتشروا في كل مكان تقريبا وتوزعوا مع المواكب، بعضهم من
رجال الشرطة، وبعضهم من الأحزاب والحركات، فضلا عن أشخاص مكلفين
بحماية الحرمين، ولوحظ انتشار واضح للقناصة من رجال الشرطة على أسطح
البنايات في المدينة..
تجدر الإشارة إلى أن كربلاء قد شهدت العام الماضي، وفي مثل هذه
الأيام أعمالا إرهابية استهدفت زوار المراقد المقدسة، راح ضحيتها
المئات بين شهيد وجريح، كان بينهم عدد من الأجانب وتحديدا من الزوار
الإيرانيين، الأمر الذي انعكس سلبا على حركة الزوار الأجانب باتجاه
العراق، ولكن مع ذلك لوحظ العشرات منهم هذا العام في مدينة كربلاء
بينهم عدد من الباكستانيين والإيرانيين..
|